الدين والهوية
علاقة الدين بالهوية علاقة مربكة وملتبسة في عالمنا العربي: فنحن نرى أن هويتنا تكمن في الدين الإسلامي، وفي أننا نتحدث لغة واحدة هي اللغة العربية. ولا ريب في أن الدين يشكل عنصرًا مهمًا في تشكيل الهوية، ولكننا عندما نتأمل الأمر بعمق، سوف نجد أن الهوية العربية لا يمكن اختزالها في الدين الإسلامي، بل- في المقام الأول- في اللغة والأرض والتاريخ المشترك. ونحن كأمة عربية نشترك جميعًا في هذه المقومات، مهما اختلفت الثقافات الفرعية والأعراق بيننا: الأكراد في الشام والعراق يمثلون عرقًا مختلفًا، ولكنهم ينتمون إلى نسيج المجتمع العربي، ليس فقط من خلال الدين، ولكن من خلال مشاركتهم العرب في اللغة والأرض والتاريخ. وهذا يصدق أيضًا على الأمازيغ في الدول المغاربية، خاصة في الجزائر والمغرب، فهم يدينون بالإسلام ويشكلون عِرقًا له لغته الخاصة المعروفة باللغة الأمازيغية، ولكنهم أيضًا يشتركون مع غيرهم من الأعراق في اللغة العربية وفي الأرض والتاريخ المشترك؛ ولهذا السبب عينه، فإنهم يشكلون جزءًا من النسيج العربي. وفي مقابل ذلك، فإن الشعوب التي تدين بالإسلام في إندونيسيا وماليزيا وإيران، هي شعوب تجمعها بالأمة الإسلامية صلة جوهرية، وهي الإسلام ذاته؛ ولكنها ليست لها صلة جوهرية بالأمة العربية. ما يؤكد ذلك أن بعض البلدان العربية ذاتها تحوي مواطنين لا يدينون بالإسلام، ولكنهم يشكلون جزءًا جوهريًّا في نسيج الأمة العربية. هذا ما نجده في لبنان والعراق وسوريا، ناهيك عن مصر التي يشكل المسيحيون فيها قرابة خمس سكانها من المواطنين المصريين.
مقصودي هنا هو أن الدين الإسلامي هو مناط الهوية الإسلامية، كما أنه يشكل عنصرًا أساسيًّا في نسيج الهوية العربية، إلا أنه ليس العنصر الوحيد في تشكيل هذه الهوية العربية. وربما تراجعت أهميته حينما ننظر إلى العناصر الأخرى مجتمعة معًا: كاللغة والأرض والتاريخ المشترك.
وليس هذا الأمر بجديد على الحضارات، بما في ذلك الحضارة العربية؛ بل إنني على قناعة بأن الحضارات الحقيقية التي دام حضورها طويلًا عبر التاريخ هي الحضارات التي استطاعت أن تستوعب في باطنها أديان وثقافات وأعراق شعوب متنوعة. ولذلك فقد تجلت هذه الروح في مُدن كبرى كانت منارات معبرة عن الحضارات الإنسانية وعن حركات النهضة الكبرى عبر العصور. يكفي أن نتأمل هنا حال مدينة الإسكندرية قديما وحديثًا: إذ حملت في العصر الهِلنستي لواء الحضارة الهِلينية (اليونانية) بعد احتضارها، فكانت منارة كبرى للعلم والفكر والفلسفة، وكان يحج إليها طلاب العلم والمعرفة، كي يتعلموا على يد علمائها وفلاسفتها؛ حتى إن هناك مدرسة فلسفية معروفة باسم مدرسة الإسكندرية، يُعد الفيلسوف فيلون السكندري واحدًا من أهم أعلامها. وحينما كانت هناك مقومات حركة نهضة جديدة في مصر الحديثة، كانت الإسكندرية مثالًا حيًّا معبرًا عن هذه النهضة قبل وأدها؛ إذ كانت في النصف الأول من القرن العشرين تجمع الأجناس والأعراق والثقافات المتنوعة من المشرق والمغرب العربي، بل من الجاليات الأوروبية: كالطليان والفرنسيين، ومن الأرمن وغيرهم الذين كانوا يحملون الجنسية المصرية.
ما أريد أن انتهي إليه من وراء هذا كله هو أن الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر بفضل الدين الإسلامي في حد ذاته، وإنما حينما تمثلت روح هذا الدين التي تتسم بالسماحة، وتدعو إلى التعلم والفهم والسعي إلى الحكمة أين كان مصدرها، حتى إن أتت من حضارات لا يدين أهلها بالدين الإسلامي. ومن هنا ينبغي أن نفهم قول ابن رشد الحكيم في فترة الحضارة العربية التي بلغت ذروتها في الأندلس قبل سقوطها: "ينبغي أن نضرب بأيدينا في كُتُب القدماء وننظر فيما قالوه، فما كان منه صوابًا قَبِلنَاه، وما كان منه خطأ نبهنا عليه". هكذا تمتزج الثقافات في بناء الحضارات.
وفي ضوء هذا بالضبط ينبغي أن نتفهم الأصل في نهضة الحضارة العربية، فلم تكن نهضة هذه الحضارة مرهونة بأن أهلها دخلوا في الإسلام وآمنوا به، وإنما بسبب أن حسن فهم هذا الدين هو ما جعل من آمنوا به قادرين على فهم روح الدين الذي يتمثل في السماحة بمنأى عن التعصب الديني، وفي التطلع إلى الفهم والعلم والرغبة في إعمار الأرض؛ ولذلك فإنهم قد استعانوا بأقوام وأعراق مغايرة في ترجمة العلوم والفنون والآداب في الحضارات السابقة، لكي يبنوا عليها من بَنات أفكارهم. ولهذا وجدنا أن أعظم إنتاجات هذه الحضارة مؤسسة على إبداعات وترجمات أفراد من بلاد الفرس والسريان وغيرهم.
إن الحالة المصرية تجسد لنا كل هذا بوضوح من خلال مثال حي. لم يكن الدين في مصر عنصرًا فارقًا في تحديد الهوية أو المواطنة، فالمسيحيون واليهود وغيرهم من الطوائف الداخلة في ملة الإسلام، فضلًا عن الأعراق الأخرى من الطليان والأرمن وغيرهم- كانوا جميعًا يشكلون جزءًا من نسيج الهوية المصرية، وساهموا في صنع تألق مصر الحديثة في سائر الصناعات، بما فيها التجارة وصناعة الفن والسينما بوجه خاص.
مقصودي من كل هذا هو أن الدين في حد ذاته لم يكن هو العنصر الحاسم في صنع الهوية، ولا في صنع التطور والريادة، لا في مصر ولا في غيرها من الأمم. إذ إن العنصر الحاسم في الحضارة والنهضة كان يكمن دائمًا في الرؤية القادرة على الانفتاح على العالم، والتي تسعى إلى استيعاب الآخر من خلال ضمه وصهره في نسيج الوطن والاستفادة من علمه وخبرته؛ وكأنها بذلك رؤية تستدعي حكمة ابن رشد السابق ذكرها.
• د.سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
