قصص الحياة والموت.. والصحافة الإنسانية
(كتابات النعي هي كتابات عن الحياة أكثر من كونها كتابات عن الموت، وإنها الكلمة الأخيرة عن حياة الشخص، وشهادة على مساهماته الإنسانية)
قد يبدو موضوع هذا المقال غريبا وحزينا في الوقت نفسه، ولكن من منظور آخر فإنه يمثل دعوة لصحافتنا العربية للاهتمام بأن تكون صحافة أكثر إنسانية، عبر الاهتمام بصفحات نعي الموتى من المشاهير وغير المشاهير من أفراد المجتمع، وعدم تجاهل من رحلوا عن عالمنا.
في فترة مبكرة من تاريخها عرفت الصحافة مقالات نعي الشخصيات الشهيرة في جميع مجالات الحياة. وكان هذا النعي ينشر في صورة مادة صحفية إذا كان الشخص شهيرا أو في صورة إعلان مدفوع الثمن تقوم عائلة المتوفي بنشره في الصحف مدعوما بصورة شخصية في بعض الأحيان وأسماء أهله وأقاربه وكيفية تلقي العزاء فيه. وما زالت الصحف في بعض الدول العربية تحرص على تخصيص صفحات كاملة لإعلانات الوفيات وعلى رأسها صحيفة الأهرام، التي كانت- كما يقول موقعها الإلكتروني- أول صحيفة عربية ومصرية يظهر فيها النعي عندما نشرت في 20 يوليو 1877 أول نعي وحمل عنوان "داعية الشجن"، وكان عن وفاة سيدة هي زينب هانم ابنة شريف باشا وزير الخارجية ثم رئيس الوزراء. وقد بلغ الاهتمام الجماهيري بنشر وقراءة إعلانات الوفيات في الأهرام أنها أصبحت مجالا للتنافس بين العائلات، ووصل الأمر إلى حد شيوع القول إن "من لم يمت في الأهرام لم يمت في الحقيقة".
وقد استقر النعي الصحفي غير الإعلاني كمادة صحفية شبه ثابتة في الصحف العالمية وبعض الصحف العربية، يقبل عليها القراء لمعرفة تاريخ وإنجازات الشخصيات المهمة في المجتمع عند وفاتها، ويعود إليها المؤرخون والباحثون عند التأريخ لتلك الشخصيات، وتمثل في نفس الوقت لمسة وفاء لمن قدموا أثناء حياتهم جهدا ملموسا ساهم في بناء أوطانهم وإسعاد غيرهم.
ما الذي يدفعنا إلى التطرق لهذا الموضوع الحزين في هذا التوقيت؟ واقع الأمر أن هناك دافعين للكتابة عن صحافة النعي، الأول أنها تنتمي لما أصبح يعرف بالصحافة الإنسانية التي تولي اهتماما أكبر للإنسان في حياته وعند وفاته، ولذلك فإنها إذا قُدمت بشكل جيد وجاذب يمكن أن تسهم في عودة القراء إلى الصحافة بمنصاتها المختلفة، ومن ثم تخفيف الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها الصحافة نتيجة تراجع قراءتها كثيرا في السنوات الأخيرة.
أما الدافع الثاني فهو ما فعلته صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا عندما أبدعت وقدمت بابا جديدا يحمل عنوان "تم تجاهلهم" لنشر مقالات نعي مفصلة عن شخصيات مهمة لم تنشر الصحيفة مقالات نعي عنها وقت وفاتهم، وتغطي تاريخ الصحيفة كله منذ صدورها في العام 1851 وحتى اليوم.
وتقر الصحيفة في المقال الذي قدم للباب الجديد بأن كتابات النعي هي كتابات عن الحياة أكثر من كونها كتابات عن الموت، وإنها الكلمة الأخيرة عن حياة الشخص، وشهادة على مساهماته الإنسانية. وتعترف الصحيفة بأن الآلاف من مقالات النعي التي نشرتها طوال تاريخها كانت عن رؤساء دول وحكومات وغيرهم من المشاهير، وكانت معظمها عن الرجال، وعن شخصيات من العرق الأبيض. ومن هذا المنطلق بدأت نيويورك تايمز في نشر مقالات نعي بأثر رجعي لشخصيات مؤثرة غادرت الدنيا منذ سنوات طويلة، ودعت القراء إلى ترشيح الشخصيات التي يرون أنه تم تجاهلها لكي تنشر الصحيفة نعيا لهم.
وشملت قائمة الشخصيات الأولى التي أعادت لها نيويورك تايمز الاعتبار الصحفية السوداء "ايدا ويلز" التي توفيت في عام 1931، وكانت لكتاباتها المناهضة للعنصرية وعمليات القتل خارج إطار القانون دور بارز في قيام حركة الحقوق المدنية، وكانت تسمي "أميرة الصحافة". ونعت الصحيفة "كيو جن" الشاعرة والثورية النسوية الصينية التي أعدمها الجيش الإمبراطوري بقطع رأسها في 1907 بتهمة التآمر للإطاحة بالحكومة، والتي أُطلق عليها "جان دارك الصينية"، كما نشرت نعيا عن "ماري اوينج اوتربردج" التي توفيت في عام 1887 وكانت أول من أدخل لعبة التنس وأقامت أول ملعب لها في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى "ديان اربس" المصورة الأمريكية التي انتحرت في عام 1971 تاركة تراث ضخم من الصور التي أبهرت الناس، وغيرهم كثيرين.
واقع الأمر أن صحافة النعي التي كانت إلى حد كبير راكدة ومكررة في السابق، وتقتصر كما قلنا على قليل من المواد الصحفية في حالة الشخصيات الكبيرة وإعلانات الوفيات، شهدت طفرة كبيرة في صحافة ما بعد الإنترنت، وأصبحت تمثل أحد آليات الصحافة الإنسانية في الوقت الحالي، وهو ما تحتاج له صحافتنا بشكل كبير. نعم لدينا صحافة نعي عربية تركز أكثر ما تركز على الكتابة عن الشخصيات السياسية المؤثرة، وبعض مشاهير الفن والأدب والرياضة والعلوم الذين كان لهم أثر بارز في تاريخ مجتمعاتهم، ولدينا أيضا إعلانات النعي التي تأخذ شكل الإعلانات المبوبة التي تنشرها عائلات المتوفين، وإعلانات العزاء التي تبادر مؤسسات وشركات وأفراد إلى نشرها لتقديم العزاء في وفاة بعض الأشخاص، ومع هذا فإن تلك الصحافة لو أُحسن استغلالها يمكن أن تمثل خطوة مهمة في اتجاه "أنسنة الصحافة"، وإعادة القراء إليها. إذ أن صحافة النعي الجيدة التي تمزج بين التاريخ وبين السيرة الذاتية وتثير مشاعر الحنين إلى الماضي يمكن أن تجذب عددا كبيرا من القراء. وهذا ما يدفع العديد من المؤسسات الإخبارية في العالم إلى تعزيز مخزونها من مقالات النعي المكتوبة مسبقا، والتي يتم إعدادها قبل وفاة الأشخاص المؤثرين ربما بسنوات طويلة.
وتشير إحصاءات في هذا المجال إلى أن صحيفة نيويورك تايمز لديها نحو 1850 مقال نعي جاهزا للنشر لأشخاص ما زالوا على قيد الحياة، ويمكن نشرها فور إعلان وفاة أصحابها. وتحتفظ صحيفة واشنطن بوست بنحو 900 مقال نعي، فيما تحتفظ مجلة "هوليوود ريبورتر"، المتخصصة في صناعة السينما والترفيه، بنحو 800 مقال نعي تشمل ممثلين ومخرجين ومديري إنتاج ومصممين وغيرهم.
ولعل ما يجعل صحافة النعي صحافة فريدة من نوعها هو أنها يمكن أن تكتب قبل وقوع الحدث (الوفاة) ربما بسنوات، انطلاقا من الحقيقة المؤكدة بأنه في وقت ما فإن الأشخاص سواء كانوا مشهورين أو غير مشهورين سوف يموتون.
وعلى سبيل المثال فإن مقال النعي الذي نشرت صحيفة "لوس انجليس تايمز" عند وفاة الممثلة الأمريكية الشهيرة اليزابيث تايلور في عام ،2011 كان قد كتب في عام 1999، كما أن كاتب هذا النعي وهو الناقد المسرحي "ميل جيسو" وافاه الأجل قبل من كتب نعيها في عام 2005. ورغم أن صحافة النعي تجذب في الغالب القراء الأكبر سنا الذين يتزايد وعيهم بمرور الزمن بحتمية الرحيل، ويريدون أن يقرأوا عن الراحلين الذين سبقوهم، خاصة أولئك الذين أثروا في حياتهم، فإن وفيات المشاهير من صغار السن أصبح شائعا أيضا. وتجذب مقالات النعي الخاصة بهؤلاء انتباه الملايين من متابعي مواقع الصحف العالمية الذين يحرصون على قراءة هذه المقالات، ومشاهدة مقاطع الفيديو التي تصاحبها.
ويمكن أن تكون صحافة النعي أكثر إنسانية إن هي ركزت أيضا على الأشخاص الأقل شهرة أو بعض الأشخاص العاديين الذين يموتون دون أن يشعر بموتهم أحد، رغم أن كلا منهم يمكن أن يكون وراء حياته وموته قصة تستحق أن تروى. وعلى سبيل المثال أثار مقال نعي نشرته صحيفة بوسطن جلوب الأمريكية عن وفاة امرأة كانت تعيش في شوارع مدينة بوسطن لأكثر من 25 عاما اهتمام ملايين القراء.
الحقيقة المؤكدة أن قراء الصحف سواء على المنصات الورقية والرقمية يحتاجون إلى قصص إنسانية مؤثرة أكثر من حاجتهم إلى الأخبار الجادة التي قد يحصلون عليها من مصادر أخرى، وليس هناك أكثر من قصص الوفيات التي في حقيقتها قصص حياة قضاها أشخاص بارزون أكثر من كونها قصصا للموت، وهو ما يجب أن تستثمر فيه الصحافة إذا أرادت أن تخرج من النفق المظلم.
