حماية الحق في الخصوصية في عصر المنصات الرقمية
أ.د. حسني محمد نصر
تشهد المحاكم العربية في الآونة الأخيرة تزايدا واضحا في قضايا الخصوصية التي يرفعها أفراد ضد وسائل إعلام ومحطات تلفزيونية ومنصات رقمية انتهكت خصوصيتهم وعرضت حياتهم الخاصة للخطر نتيجة نشر معلومات وصور وفيديوهات عنهم لم يأذنون بنشرها. من هنا أصبحت قضية الخصوصية واحدة من أكثر القضايا المثيرة للجدل في مجال أخلاقيات الإعلام، ويتمحور معظم الخلاف الأخلاقي في السنوات الأخيرة حول انتهاك وسائل الإعلام خصوصية الأفراد. وفي عصر اختلط فيه الحابل بالنابل على منصات التواصل الاجتماعي يبقى من الضروري العودة من حين إلى آخر إلى التذكير بخطورة هذه القضية على المجتمعات والدول، وبالتالي ضرورة إدراجها ضمن قضايا التربية الإعلامية المهمة.
والواقع أن الاهتمام الجماهيري بالحق في الخصوصية ظاهرة حديثة نسبيا. ومن أوائل الكتابات التي أشارت إليه تعريفه بأنه «حق الشخص في أن يترك وشأنه». وكان أول من صك مصطلح الخصوصية هما صمويل وارين ولويس برانديز عام 1890 في مقال نشرته المجلة القانونية لجامعة هارفارد، وأكدا من خلاله الحاجة إلى توفير حماية قانونية لحق الخصوصية في أربعة جوانب هي، الكشف عن المسائل الشخصية بشكل غير مشروع، ونشر الحقائق المشوهة أو أنصاف الحقائق عن الشخص، واستخدام صور الأشخاص بدون إذنهم، والدخول إلى الممتلكات الخاصة للأشخاص للحصول على المعلومات.
وظهر مصطلح الخصوصية وانتشر كمصطلح قانوني في فترة ظهور الصحافة الصفراء في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة تنافس الصحف على نشر أسرار الحياة الخاصة لبعض الناس. وقد أدى ذلك التي ظهور الدعوة إلى حماية خصوصيات الأفراد من وسائل الإعلام على أساس حق الفرد في التمتع بالحياة، وحفظ أسراره عن الآخرين. وتعاظم الاهتمام بقضية الخصوصية كقضية أخلاقية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مواكبا لتزايد الاهتمام الجماهيري بأخبار المشاهير في مجالات الفنون والثقافة والرياضة، ودخول وسائل إعلام جديدة كالراديو والتليفزيون حيز الاستخدام الجماهيري الواسع، بالإضافة إلى تزايد إصدار الصحف النصفية التي تركز على الإثارة والفضائح.
وينظر علماء النفس إلى الخصوصية بوصفها حاجة إنسانية ورغبة بشرية تماثل الرغبة في الطعام والشراب. إذ أننا جميعا نحتاج إلى الخصوصية كما نحتاج إلى التحكم في تدفق المعلومات عن شئوننا الخاصة. وإذا كان البعض يقول إن المعلومات قوة، فإن التحكم والسيطرة على المعلومات قوة أيضا.
ومن الضروري أن نفرق هنا بين الخصوصية وبين السرية. فالأخيرة تعني على المستوى الشخصي إخفاء وكتمان معلومات معينة عن الآخرين، وقصر الإفصاح بها على عدد قليل من الأشخاص الذين نثق في أنهم لن يبوحوا بهذه الأسرار. فالأسرار هي الأشياء التي لا نرغب أن يعرفها الآخرون ونبذل جهدنا للحفاظ عليها دون البوح بها إلى أي شخص أخر أو البوح بها إلى عدد صغير فقط ممن نثق في أنهم سيحافظون عليها. أما الخصوصية فإنها تمثل مستوى أعلي من الأسرار، إذ أنها تتعلق بمعلومات لا نرغب بالضرورة أن يعلمها الآخرون ولكنها لا تمثل أسرارا نخشى من البوح بها. وهذا المستوى من المعلومات الشخصية لا يشكل وصولها إلى الناس إساءة بالغة لنا، ولكننا قد نفضل عدم نشرها لأنها قد تعطى الآخرين معلومات أكثر عنا، وبالتالي قوة أكبر علينا. وعلى سبيل المثال فإن ما نفضله في الغذاء والموسيقي والرياضة لا تشكل أسرارا، وبالتالي فإن معرفة الناس بها لن تشكل أي ضرر لنا، ولكننا مع هذا قد نرغب في عدم معرفة الآخرين هذه التفضيلات.
وتتعلق الخصوصية بحفظ المعلومات الشخصية وعدم نشرها جماهيريا. وقد تعتبر بعض أنواع المعلومات خاصة من جانب البعض وغير خاصة من جانب البعض الأخر. فعندما تسأل أصدقاءك عن بعض المعلومات الشخصية تجد أن أنواع المعلومات التي يقدموها متباينة للغاية. فقد يكون أحدهم سعيدا وهو يخبرك عن وزنه، بينما قد يخفي صديق أخر هذه المعلومة ولكنه يعلمك عن حجم راتبه وألوانه المفضلة...الخ. ولذلك نقول إن الخصوصية تتعلق بالمعلومات التي لا يرغب غالبية الأشخاص في مجتمع ما أن تكون معروفة عنهم على نطاق واسع.
ويوسع البعض نطاق النظر إلى الخصوصية على أساس أنها لا تتعلق بالمعلومات الخاصة في حد ذاتها، ولكن باستخدام تلك المعلومات من جانب الآخرين. وبالتالي فان انتهاك الخصوصية يقع عند إساءة استخدام المعلومات الشخصية للأفراد سواء كانت حقائق أو اتصالات أو آراء قد يعتبرها الشخص خاصة وحساسة. وعلى هذا الأساس فإن الخصوصية تعنى الحماية من الوصول غير المرغوب فيه من جانب الآخرين إلى المعلومات الشخصية الخاصة.
والواقع أن هناك ثلاثة مناطق من الحياة الشخصية يجب حماية خصوصيتها، وبالتالي ثلاثة أنواع متداخلة من الخصوصية، وهي الخصوصية الجسدية أو الفيزيائية، والخصوصية العقلية أو الاتصالية، والخصوصية المعلوماتية. ويشمل النوع الأول حق كل شخص في مساحة يتواجد فيها بجسده ويعمل ويتحرك دون أي قيود أو اختراقات مادية لهذه المساحة مثل اقتراب الآخرين الشديد منه، أو ملامسته. ولعل ما يهم الإعلاميين في هذا النوع من الخصوصية هو ما تشمله من حق الشخص في عدم تدخل الآخرين لمراقبته بالعين أو بالكاميرا أو أي نوع أخر من المراقبة. وتعني الخصوصية العقلية أو الاتصالية، أن يترك الشخص وشأنه فيما يتعلق بأفكاره ومشاعره ورغباته وأمنياته، والاحتفاظ بها مكتوبة أو مسجلة إلكترونيا، وحريته في تبادلها مع من يختاره من الناس، بالإضافة إلى حمايته من الاختراقات النفسية. أما الخصوصية المعلوماتية، فتعنى توفير الحماية للمعلومات الشخصية المحفوظة بشكل شرعي في ملفات لدى هيئات عامة أو خاصة، ومنع الكشف عن هذه المعلومات لأطراف أخرى. وتشمل هذه المعلومات الحسابات البنكية وسجلات الضرائب، والوضع المالي الائتماني، والسجل الاجتماعي، والسجل التعليمي، والسجل الوظيفي، والسجلات الطبية.
من المؤكد أن قضية الخصوصية، أصبحت في السنوات الأخيرة مرتبطة ارتباطا كبيرا بوسائل ومنصات الإعلام الجديد والاتصال الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي. والخصوصية متعددة الأبعاد، ليس فقط من حيث تنظيمها ولكن أيضًا من حيث الجوانب المعيارية المحيطة بالحق في الخصوصية وأبعادها السياسية والفلسفية والاجتماعية والثقافية. وحتى وقت قريب، كانت المخاوف المتعلقة بالخصوصية تُميّز بشكل واضح نسبيًا على أنها "انتهاك" وسائل الإعلام خصوصية الأفراد، من خلال التطفل على حياة المشاهير وشؤونهم الخاصة أو تقدم تقارير عنها. وفي السنوات الأخيرة امتد النقاش حول الخصوصية ليشمل انتهاك الدول خصوصيات المواطنين ومراقبة حياتهم الخاصة. ورغم أن تطفل الدول على الحياة الخاصة لعامة الناس تعود إلى فترة الحرب الباردة وعقدي الستينيات والسبعينيات في أوروبا والولايات المتحدة، فانه شهد تزايدا كبيرا في عصر مكافحة الإرهاب. وفي الوقت الحالي لا تحتل الخصوصية مكانة محفوفة بالمخاطر فقط في القانون، ولكن أيضًا في الممارسات الروتينية اليومية لوسائل الإعلام وشركات التقنية الكبيرة تجاه المستخدمين والعملاء والجمهور. إذ لم تعد مسألة الخصوصية تؤثر فقط في النخب، ولكن أيضا في الحياة اليومية لمستخدمي وسائل الإعلام العاديين.
لقد أصبح من الضروري في هذا الوقت الذي تتزايد فيه حالات انتهاك خصوصية الأفراد العاديين بشكل يومي تقريبا، أن يتم الترويج للحق في الخصوصية والتعريف به كحق إنساني عام يجب الدفاع عنه وتطبيقه بالتساوي بين جميع البشر، وأن يتم إرشاد من يتعرض لمثل هذه الانتهاكات إلى الوسائل القانونية التي تحفظ له حقوقه، كاللجوء إلى المحاكم وطلب التعويض، حتى لا تصبح حياة الأفراد مستباحة كليا في وسائل الإعلام ومنصات النشر الجديدة.
