طه حسين
طه حسين
ثقافة

مرفأ قراءة ... في تحقيق البحث عن "مذكرات" طه حسين!

30 أكتوبر 2021
30 أكتوبر 2021

- 1 -

كعادتي وأنا أتصفح المواقع الثقافية والصفحات المعنية بالكتب والشخصيات الثقافية الكبرى؛ وبالمصادفة البحتة وقع تحت يدي صورة غلاف لكتابٍ عليه صورة شهيرة لطه حسين، ومكتوب على غلافه الخارجي «مذكرات طه حسين»، وصادر عن دار النشر البيروتية العريقة والكبيرة دار الآداب!

ولأنني أعلم يقينًا أن طه حسين لم يكتب تحت أي مسمى مذكراته الشخصية، بل كتب فقط عن حياته وتفاصيلها ووقائعها سيرته الذاتية الأشهر في الأدب العربي بل الثقافة العربية كلها «الأيام» التي صدر جزؤها الأول المدوي عام 1927، وظهر جزؤها الثاني للنور عام 1940، ونشر سلسلة مقالات في مجلة آخر ساعة المصرية عام 1955 ستجمع فيما بعد بين دفتي كتاب سيكتب على غلافه الخارجي (الأيام) الجزء الثالث.

ورغم أن الكتاب (المكتوب على غلافه مذكرات طه حسين!) يعود تاريخ إصداره الأول إلى العام 1967 وهو مطبوع في دار الآداب بيروت، فقد كان لزامًا أن أتحقق من الأمر، وأكشف بالضبط لماذا الآن يتداول البعض (على مواقع السوشيال ميديا وغيرها) هذا الغلاف للكتاب على أنه يضم بين دفتيه شيئًا جديدًا عن طه حسين فَاتنَا جميعًا ولم نقرأه!

وبمراجعة الكتاب وفصوله (بعد الحصول على نسخةٍ منه من سور الأزبكية) تبين تمامًا مدى الكذب والتدليس الذي اتبعه مروجو هذه الطبعة، وهذا العنوان لطه حسين.

فهذا الكتاب المسمى «مذكرات طه حسين» منشور في بيروت سنة 1967، ويشمل مجموعة المقالات التي نشرها طه حسين في مجلة (آخر ساعة) المصرية سنة 1955، وهو نفسه الجزء الثالث المشهور من كتاب (الأيام) المنشور في القاهرة في طبعته الأولى التي صدرت عن دار المعارف سنة 1972!

- 2 -

وما أكثر من انتحلوا على العميد وزوَّروا عليه وتقوَّلوا ونسبوا وكذبوا؛ وما ذلك بمستغرب فيمن طبقت شهرته الآفاق وصار علمًا مفردًا ومنارًا مضيئًا يقصده كل طالب وباحث ودارس!

وقد لجأت بعض دور النشر والمؤسسات الباحثة عن الرواج والتسويق لبعض ما تصدره من مطبوعات ومنشورات بنسبتها إلى أعلام مشاهير، أو البحث عن واحد من كتبهم المعروفة وإصدارها بعنوان مغاير ما يوحي بأنه كتاب جديد (فعلته للأسف دورية عربية شهيرة في العام 2015 باقتطاع أجزاء من «الأيام» وتغيير ترتيبها وتشويهها تمامًا ونشرها تحت عنوان آخر يوحي بأنها نص جديد لم ينشر لطه حسين!)

أو حيلة أخرى تستند إلى التلفيق والانتقاء العشوائي لبعض النصوص من هنا أو هناك وإصدارها كيفما اتفق مع الإيحاء بأنها نص جديد أو كشف جديد للعميد، وهذا كله مما يدخل في باب الادعاء والكذب والانتحال والتدليس!

لكن المفاجأة الكبيرة بالنسبة لي هي العثور على نصٍّ مهم (سأعرض له تفصيلًا بعد قليل) يكشف لغز هذا الكتاب وسر صدوره بهذا العنوان الغريب الذي يشي بأن به مادة جديدة وإضافاتٍ لما سبق أن قدمه طه حسين في الأيام (الجزء الأول 1927) والمقالات التي استكمل بها ذكريات وتفاصيل ما يتصل بالأيام؛ ونشرها مسلسلة في مجلة (آخر ساعة) المصرية عام 1955.

- 3 -

أما النص المشار إليه فهو مقال منشور بمجلة (العربي) الكويتية العريقة سنة 2003؛ بمناسبة الذكرى الثلاثين لرحيل طه حسين. المقال للكاتب والناشر اللبناني الشهير، الراحل سهيل إدريس، وعنوانه «الأمانة القديمة».. وهو مقال سيري يستعرض فيه الكاتب والناشر الشهير بعضًا من ذكرياته مع طه حسين، ويكشف عما كان يربط بينهما من أواصر المحبة والصداقة وما كان من تبادل الزيارات العائلية.

وكانت المفاجأة أن سهيل إدريس قد تطرق إلى هذا الكتاب المعنون «مذكرات طه حسين»، وكشف بكل بساطة عن أنه قد تعاقد مع طه حسين على إصدار هذا الكتاب (بالعنوان المثبت على غلافه «مذكرات طه حسين») بموافقة ورضا وإقرار طه حسين ذاته؛ والعهدة على الراوي. يقول سهيل إدريس في مقاله المشار إليه:

«كنت حريصًا، بعد ذلك، على أن أقوم بزيارة طه حسين كلما قصدتُ القاهرة. وكان يلقاني دائمًا بالترحيب والمحبة. وقد توثقت أواصر الصداقة بيننا في أحاديث طويلة حضرت بعضها زوجتي، ولما عرف أنها ترجمت بعض الكتب، جعل يحدِّثنا بفرنسيةٍ صافية لا تقل أناقة عن لغته الأم. ثم تعاقدتُ معه على بعض كتبه، وكان آخرها (مذكرات طه حسين) التي يُتمُّ فيها جُزأي (الأيام)...».

هكذا ببساطة ويُسْر! ولم يكن الناشر الكبير يعلم بأنه بهذه الأسطر قد جلَّى واحدًا من الألغاز التي فجَّرها البعض حول تراث طه حسين دون أن يجد لها حلًّا! وأنه قد أزال حجابا كثيفا ومعتما وقاتما حول أصل هذه المذكرات ومن أين جاءت هذه التسمية أصلا، ولماذا!

- 4 -

ويتابع سهيل إدريس مقاله:

"وأذكر أني قمت بزيارته بعد زيارة قمت بها لصديقي نجيب محفوظ، وتعاقدت معه فيها على نشر روايته «أولاد حارتنا»، وكان يرافقني في هذه الزيارة وكيل مجلة (الآداب) عديلي السيد فتحي نوفل، ولكني حين زرت الدكتور طه حسين وفي النيَّة أن أطلب منه الإذن بنشر مذكرات طه حسين التي كنت قد عثرتُ عليها منشورة مسلسلة في مجلة (المصور) المصرية [يقصد مجلة «آخر ساعة»، وربما يكون قد اختلط عليه الاسم بين المجلتين المصريتين الشهيرتين آنذاك]، أبلغت الدكتور طه أني استطعت أن أقنع الأستاذ نجيب محفوظ أخيرًا بالسماح بنشر رواية «أولاد حارتنا» التي كان قد نشرها مسلسلة في (الأهرام)، وكان يتأبَّى إعادة نشرها في كتاب حرصًا على عدم إغضاب الأزهر الذي كانت له اعتراضات على بعض ما جاء فيها.

إذ أخبرت الدكتور طه حسين أنني دفعت للأستاذ نجيب محفوظ حقوق الطبعة الأولى من روايته بمبلغ خمسة آلاف جنيه. سألني الدكتور طه وهل دفعت له المبلغ؟ أجبت: طبعًا. فقال طه حسين معلِّقًا: يا بختُه! هنا تدخل وكيلي فتحي نوفل قائلًا: نحن على استعداد يا سيادة الدكتور لدفع حقوق الطبعة الأولى من (مذكرات طه حسين) على الفور، فوافق طه حسين على نشر مذكراته هذه بالعنوان المذكور، وأخرج من جيب سترته ختمًا خاصًّا كان يحمله، وقد حفر عليه توقيعه بخط يده، وقال لسكرتيره: اختم للأستاذ سهيل على اتفاق بهذا الشأن مع دار الآداب، وهكذا كان...".

- 5 -

ويتضح من الرواية السابقة ما يمتاز به الناشر الذكي اللمَّاح من قنْص للفرص والمبادرة بعقد الصفقات الناجحة المربحة! ولم يكن طه حسين بأقل ذكاء من محدثه، بل يبدو أنه قد رمى الكرة في ملعبه ليكون هو المبادر بالعرض الذي قدمه الناشر وقبله المؤلف، وأفاد منه الطرفان كأحسن ما يكون؛ الأول بنشره عملًا جديدًا لم يسبق نشره ككتاب لعميد الأدب العربي، وصاحب القامة التي لا تطاول والمؤلفات التي توزع في كل أنحاء العالم العربي بآلاف النسخ وتطبع عشرات الطبعات، والثاني باستثمار هذا العرض المغري الذي كان يمثل في وقته كنزًا حقيقيًّا بمقاييس هذا العصر وحساباته! ويا لهم من رجال ويا له من زمن!

وعلى هذا فقد حُلَّ اللغز الذي كان مستعصيًا على كثيرين من أهل الفكر والأدب، والمعنيين بالصحافة الثقافية لزمنٍ طويل، وتبدد الغموض الذي أحاط بهذا الكتاب «مذكرات طه حسين» بعد أن تبين تمامًا أنه ليس سوى الجزأين الثاني والثالث من «الأيام» (بل إنه بذلك يكون قد سبق ظهور الجزأين الثاني والثالث من «الأيام» اللذين صدرا بين دفتي كتاب عن دار المعارف في العام 1972)، ونشر بهذا العنوان بموافقة ورضا وقبول طه حسين، ووفق تعاقد مكتوب ختم عليه طه حسين بخاتمه، وبحضور سكرتيره الشخصي.

وعلى كلٍّ فسأعتبر هذه القصة المثيرة (ربما تكون في نظر البعض تحقيقًا وكشفًا صحفيًّا مهمًّا!) فرصة مواتية لإلقاء الضوء على الكتاب الأشهر للعميد طه حسين الذي يكاد يمثل قيمة مركزية ووازنة بين مجمل أعماله التي تجاوز الستين كتابًا!

(وللحديث بقية...)