No Image
ثقافة

أضاميم.. أبواب طحنتها الرُّمة تسرد أنين الحارات المهجورة

25 يونيو 2022
25 يونيو 2022

حارات مهجورة، تبدو اليوم أشبه شيءٍ بالأطلال، أغلقت أبوابها منذ سنين، بعد أن كانت تضُجُّ بأصوات الناس وتنضَحُ بالحياة، حارات مهجورة كانت وطنًا، والحياة فيها آمنة مطمئنة، محاطة بأسوار عالية، تنتهي بـ«صَباحَات»، تشبه أبواب الحصون، تفتح في النهار، وتُوصَدُ بعد الغروب، حين يعود الناس إلى بيوتهم من حيثما كانوا؛ في الضَّواحي أو المزارع الممتدة إلى سفح الجبل، وحين يعود الرَّاعي بأغنامه، يقود القطيع إلى الزرائب، وقد يثور غضبه حين يتفلَّت منه بعضها، متسللة بخفة إلى البيوت بعد أن عرفتها دخولًا وخروجًا، ولا شك أنها ملأتْ بطونها بالعشب، وأوراق السُّمر والغاف، وامتلأت ضُروعها بالحليب، الذي سيكون لأهل البيت منه نصيب.

وحياة الحارة القديمة لا يعرفها إلا من عاشها، بين جدران الطين الدافئة في الشتاء، والباردة في الصيف، والأسقف المزينة بالأخشاب، المنقَّشة بالأشكال الهندسية، والبيوت المُتراصَّة، حتى إنَّا كنا نجري في السُّطوح، بلا فاصل بين البيوت، وكأننا طيور تحلِّق من غصن إلى آخر، والهرولة في الأزقة الصَّغيرة متعة أخرى، نعرف فيها البيوت وساكنيها، وكنا نجُرُّ عُذوق النخيل، تاركين وراءنا نقعًا من الغبار المتطاير، يتشكل وراءنا سحابة متحركة.

أزقة وسكك ضيقة، تقود إلى منعطفات ودروب تلتقي عند باب الصَّبَاح الكبير، يغلق بالليل ويفتح بالنهار، مدخله على هيئة كراسي مكسوَّة بأصْلافٍ حجرية، تُشحَذ فيها السَّكاكين، ويجلس فيها الرِّجال قبيل الظهيرة أو بعدها، يلتقون عندها، ويقضون شؤونهم العالقة بينهم، فهناك من ينتظر الوقت الذي ينال فيه حصَّته من الفلج، وفق تقسيمات زمنية تعتمد على السَّاعة الشمسيَّة «المحاضرة»، يحضر بها الوقت، حيث النهار يبدأ بشروق الشمس وينتهي بغروبها، لذلك يمكث من له قسمة الماء عند «صوار الفلج»، حتى يحيله إلى ضاحيته في الزمن المحدد له، وبذلك يستوفى الناس حصتهم من ماء الفلج كاملة، وقد ينسى البعض وقته المحدد وتضيع حصته، إلا أن يقسم له من يأتي بعده، أو ينتظر إلى حين آخر، وأما الفلج فيبقى دافقًا في السَّواقي، ويمضي في حركة دائبة ليل نهار.

هناك بيوت أثرية هُدِّمت، وضاع تاريخ كان محفورًا في الأبواب، وهدمت مساجد كانت مزدانة بمحاريب جصيَّة، وتداخلت الدروب، فما عادت أشبه بالشبكة العنكبوتية والمتاهة الغامضة، أصبحت الدروب متقاربة وقصيرة، وبقي «التنُّور» يُوقَدُ في أيام عيدي الفطر والأضحى كما كان، ورغم هجران الناس لبيوت الحارة القديمة، إلا أن تنور العيد لا يزال حاضرًا في الممارسة الاجتماعية، وأصبح سِمَة من سمات العيد في عُمان، التنُّور بناره المُوقدة، له في قلوب الناس معنى جميل، وهم يرددون: (شواكم نيء وشوانا نضيج!).

وفي كل مرة أدخل الحارة، أشعر وكأني اكتشفها من جديد، وأستذكر أيام طفولتي فيها، واللعب مع أبناء الجيران في فِضَّة النهار وذهب المساء، ومع حلول الظلام تستيقظ قصص السَّحرة والجان، تتسلل من شقوق الجدران إلى وجداننا، وفي بعض الأيام يبدو الليل مؤنسًا، نضاحك فيه القمر، ذلك القنديل المعلق بين السَّماء والأرض، نشعر به مَلاكًا يرافقنا في كل تحركاتنا، وفي الليالي البيض نعيش مع نور البدر، وضوئه المتناثر في الظلام كنثار من فضة.

وأعود إلى الحارة من جديد، إلى منابت زهر الأحلام، المُغذَّاة بعذوبة مياه الطفولة، إلى تلك الجدران التي شهدتني طفلًا صغيرًا، نمشي تحت ظلال الجدران، والشمس تطبع في التراب صورتين رائعتين، صورة بيضاء لرمضاء متقدة، وأخرى لظل قاتم يبدو أشبه بالصفحة السَّوداء، وفي كل صورة لنا فيها ذكريات، وكانت الدروب تُفرش بحزم القمح المحصود: ونسميه «الغُفَّة»، تمشي فيه الدواب، فتهشمه بأظلافها الحادَّة حتى يتفتت، ليبدو حصيرًا ناعمًا وسجادة نمشي عليها، تقينا وهج الرَّمضاء، وننزلق داخل أكوامه، وكأننا نلبس ثيابًا من ذهب.

وفي الحارة القديمة لا يوجد إلا سور واحد يحفظ أمن البيوت، أما اليوم فقد تغيَّرت الفكرة مثلما تغيرت أحوال الناس، وأصبح لكل منزل سوره الخاص، فضاعت هيبة الحارة بخروج الناس منها، وانهارت الأسوار، واقتلعت أبواب الصَّباحات، وزحف البناء الحديث محل القديم، وأصبحت الحارة أشبه شيء بالأطلال، وأبواب المنازل المغلقة طحنتها الرُّمة، فأصبحت هياكل بالية، وامحى ذلك البريق الجميل، الزخارف التي كانت تلوح في واجهات البيوت، والنجمات المحفورة في الأبواب، المطرزة بسبائك الحديد والنحاس، ليبدو تحفة جميلة، وبعد هجران الناس طحنتها الرُّمة، وعاثت فيها نخْرًا وتفتيتًا.

ترى أي سر تواريه هذه الأبواب المغلقة، أي حكايات لم تلفظها الألسن، أو لفظتها ذات زمن، كمن يكتب أسراره على التراب، فيمحوه النسيم من ذاكرة الحياة، أيُّ سر وراء هذه الأبواب التي طحنتها الرَّمة ليل نهار، حتى بقيت أشبه بالهياكل البالية، موصدة على أنين الحارات المهجورة، المنبعث كالدخان من تحت الأنقاض.

تلك الأبواب ما عادت كما كانت قبل عقود، فقد أٌوصِدَتْ بالقفول، وضيع الناس مفاتيحها، وأهملوا ما بداخل الحجرات، أهملوا «الجحلة» المعلقة، والوتد الذي يحمل «سُفَّة السَّعَف» وكأنها مشيمة موصولة بالنخلة الأم، معلقة في الوتد طوال تلك السنين، منذ أن كان صاحب البيت يسكنه، فهجره ولم يعد إليه، تاركًا وراءه بيتًا مغلقًا، وذكريات تملأ أضابير القلب وأضاميم الرُّوح، وحجرات تئن موجوعة، وتتنفس عطر سكانها وحيويتهم التي لم تَعُدْ، ونسي الجيل الجديد الحارة التي عاش فيها الآباء والأجداد، تضاء دروبها بأشعة الشمس في النهار، وفي الليل تنار بالقناديل، توقدها ربَّات البيوت، فتبدو وكأنها وكأنهن الحور في خباء مسحور.

مشاهدات من حارة قديمة:

- أقف عند أحد الأبواب، يبدو تحفة خشبية، وقطعة فنية رائعة، زخارف منحوتة على شكل نجوم ومربعات ودوائر، تكشف عن خبرة مهنية وحس فني لدى النجار، وجهد مبذول في الصُّنعة، لكن بعد هجران الحارة، لم يعد الباب كما كان، فضاعت التحفة، وتآكلت الزخارف.

- أقترب أكثر من أحد الأبواب، نجوم من الحديد الصلب تطرز واجهته، ورغم أنها قاومت الصدى إلا أن الباب تآكل، وقد يسقط على الأرض بمحاولة بسيطة لفتحه.

- شرفة أخرى لمسجد أثري، تبدو أشبه بباب طويل، تعلوها شبكة خشبية منخَّلة بثقوب تسمح بمرور النسيم، مع بقاء الشرفة مغلقة.

- باب مهترئ، لم يبق منه إلا هيكل متآكل، مغطَّى بنسيج من أغصان شجرة أراك نبتت داخل صحن الدار، بدا الباب قطعة فنية رائعة، بين خشب كان قبل عقود من السنين غصنًا أو جذعًا في شجرة، وبين شجرة تحاول بأغصانها اللدنة وأوراقها الناعمة أن تغطي تآكل الباب.

- شجرة أخرى تتسلل من ثقوب الباب، إلى خارج المنزل المغلق، الحياة تستمر، ولا شيء يمنع الأغصان من أن تلامس النور.

- باب آخر متصدِّع، يظهر فيه «المحلاق» الدائري كحذوة فرس.

- قفل معلَّق لباب مغلق، الرُّمة اخترقت الباب، وهشَّمت ألواحه، وبقي القفل معلقًا، والباب مغلقًا.