من سوق قريات القديم
من سوق قريات القديم
عمان اليوم

ذكريات وحكايات لا تنسى من سوق قريات القديم

11 يونيو 2021
كان يعج بالبضائع والخيرات الوفيرة من مختلف الولايات
11 يونيو 2021

ـ بعد موسم الأمبا والزيتون يأتي موسم المناداة على البسور والتمور التي تملأ العرصة

ـ يصطف متعلمو الكتابة والخط العربي يكتبون على لوح أسود يسمى بالعامية (سليت)

أجرت اللقاء – سعاد بنت ناصر السنانية

كان سوق قريات القديم مقصدا تجاريا ضخما، لكل من يرتاده من باعة ومستهلكين، شكل في غابر الزمن مركزا تجاريا يقصده العديد من التجار والباعة وملتقى لكل قرى الولاية ومن خارجها، حيث تسوق فيه البضائع بشتى أنواعها وكان سوق قريات القديم هو السوق الوحيد في الولاية على عكس وقتنا الحالي، حيث كان يزدحم بالكثير من الناس وكانت مرافقه ودكاكينه بسيطة، تتواجد فيها مرافق متعددة يعرض فيها الناس بضائعهم، والدلالون ينادون على البائع لإنجاز مهامهم اليومية.

شيد السوق في أواخر الستينات على ربوة عالية بحيث لا تدخله السيول وفيضانات الأودية، خاصة وادي مجلاص المنحدر، من جبال السرين.

منتجات زراعية متنوعة

"عمان" التقت بالمواطن حسن بن علي بن خميس البلوشي الذي كانت له ذكريات جميلة وثقها في كتاباته عن السوق القديم كونه يقطن في السوق فقد حدثنا قائلا: كان سوق قريات قديما يعج بالبضائع من كل صنف، وكان مقصد الكثيرين من سكان البلدان المجاورة وكانت ساحاته وعرصاته تمتلئ بمناسف الأكلات الشعبية ما لذ وطاب بأيدٍ عمانية صرفة عاش على رزقها الغني والفقير ناهيك عن التمور والرطب والأمبا والزيتون الجوافة.

وكان للسوق عدة مداخل يصل المرتادون من خلالها إلى قلب السوق صباحا ومساء وقوافل الإبل تدخل محملة بالتمور والفواكه من قوس المدخل الجنوبي الشرقي، وتتجه مباشرة إلى عرصة مناداة المنتجات الزراعية قبالة الفرضة مبنى الجمرك ويدخل من الشرق أصحاب البحر بخيراتهم الكثيرة إلى عرصة مناداة الأسماك، وكذلك القادمون من مناطق الجنين وعفا الرملة ومخيسرات والقرى الجنوبية الأخرى، وفوق مسيلة السوق الناعمة المطلة على المدخل الشرقي تنوخ ركاب القادمين إليها من المناطق الغربية السواقم والهبوبية وحيفظ وجحلوت وصياء وعرقي وسكان مناطق الحاجر يدخلون بالخضار والفواكه والغلال من المدخل الغربي الجنوبي ومن مناطق المعلاه والعينين وكليات يحملون معهم إلى السوق ما ينسجه ويغزله النساجون كالعمائم والوزرة والشوادر وحزائم الرأس وكافة منتجات النسيج يتقنون غزلها بحرفنة متقنة، وهم أيضا من تشرفوا بنسج العمائم السعيدية سنين طويلة.

وقديما كانت يُسمع صرير المغزل في محلة الغزال، يصدح صوته من بعيد لم يتبق الآن من تلك الكوارج التي عاش من خيرها العشرات من الأسر سوى الحفر المهجورة، تبكي بحسرة على الماضي.

حراسة السوق

لسوق قريات القديم حراس يقومون بحراسة مرافقه ومحتويات محلاته ومخازنه التي تمتلئ بمختلف صنوف البضائع والسلع وتفيض إلى خارج المحلات أحيانا حيث يعد سوق قريات ذلك الوقت من أنشط الأسواق في السلطنة يصدر منه إلى بندر مسقط وبقية الأسواق الأسماك والتمور والفواكه وأخشاب الطبخ والملح والنوره وغير ذلك من البضائع.

ومن حراس السوق أتذكر سهيل بن مرهون البوسعيدي،رجل ذو قامة طويلة ممتلئ الجسد يقوم بحراسة السوق مقابل أجر يؤديه اليه أصحاب المحال التجارية. يدور بعصاه الغليظة وقنديله في أروقة السوق ( ضرب النوبه ) وبين فينة وأخرى يردد صاحي صاحي وتارة أخرى يردد شفتك شفتك ليبعث الخوف في كل من تسول له نفسه الدخول إلى السوق والنيل من محتوياته ".

حكايات من الماضي

كما أتذكر المعلم جمعة ابراهيم البلوشي عندما قام بحراسة سوق قريات القديم أواخر الستينات حتى منتصف السبعينات، وقد حدث ذات مرة أن دخل أحد المارة السوق بعد صلاة العشاء فاستوقفه الحارس ودار حديث طويل بينه وبين ذلك الرجل تطور إلى شجار وصل بهما إلى الوالي في حصن الولاية، وبما أن بيتنا يطل على بوابة السوق الرئيسية، شاهدت ذلك الموقف الذي دار بين الحارس والمتعمد بالدخول إلى السوق بعد إغلاقه ليلا، فالمعتاد أن السوق بعد العتيم أو (ضرب النوبة)، لا يدخله إلا أصحاب المحلات التجارية فقط، عندما تصل اليهم البضائع عبر البر أو البحر، في وقت متأخر يحملون في أيديهم القناديل أو الفنر يرافقهم حارس السوق، وهذا النظام في الحراسة معمول به قديما في معظم الأسواق القديمة في السلطنة .

عرصة السوق

تنشط عرصة سوق قريات قديماً بالحضور المزدحم للناس من كل أطياف المجتمع وقوافل الجمال التي تصطف في طابور طويل بـ (مراحلها) المحملة بصنوف التمور والرطب المكتظة (ثيجانها) بالأمبا والزيتون والسفرجل للمناداة عليها منذ الصباح الباكر.

وعلى شاطئ البحر تتمايل السفن الصورية غير مبالية بحرارة الصيف ورطوبة الجو، تغازل (بدانة) الباطنة المغروسة (أنجراتها) في البحر قبالة قلعة الصيرة، تنتظر أجود ثمار المانجو والزيتون والتمور القرياتية لتحوز السبق في شرائها والظفر بفائدة كبيرة ومحققة في بيعها وإهدائها إلى من يُحبُّون. ثمار المانجو والزيتون (الجوافة) والبسور والتمور تُجلب بكميات وفيرة إلى عرصة السوق من بلدة المزارع، وحيل الغاف ودغمر والطويان مركز الولاية. ينادي الدلّال بصوته الجهوري المُشَوِّق وهناك إشارات معروفة يلتقطها الدلال للمزايدة (خمسة ستة سبعة ريالات تامّات) تقع العرصة القديمة للسوق مباشرة قبالة (الفرضة) مبنى الجمرك، تطل على محلات خلفان بن سالم الدرمكي وسعيد بن عبدالله السيابي وجدي المعلم خميس والوالد علي وبينهما محل صغير يسمى (التغب) يجلس فيه الدلال سالم بن سعيّد الصويدق راعي بدن (البابور) المشهور في الولاية.

وبعد موسم الأمبا والزيتون يأتي موسم المناداة على البسور والتمور التي تملأ العرصة خاصة الخصاب والمبسلي والخنيزي الذي يعمل منه (الفاغور) بطعمه الشهي، والمجفف منه يصدر إلى بندر مسقط ومطرح ومن هناك يشحن إلى الهند وغيرها من البلدان التي يلقى فيها رواجا كبيرا، إلى جانب ذلك تجلب إلى العرصة أيضا الحوامض مثل الليمون.

إبريق يعقوب !

ويواصل حسن البلوشي سرد الحكاية قائلا: يسكن السفافير غرب السوق تحت غاف السفافير المسمى باسمهم. يمكثون عدة أيام ثم يعودوا إلى بلدانهم محملين قوافلهم بالأسماك والأقمشة والبهارات والحلوى المشهورة في قريات، يملأون بها التغاليف المظفورة من خوص النخيل ودسوت الفخار، وغير بعيد عن العرصة عند مدخل مسجد السوق يجلس (الشمّار) سعيد بن سلمان المسمى (ود سلمان) بمخرزه وخيوطه يصنع من الجلود وبقايا إطارات السيارات أحذية مقاومة للسير بها فوق وعورة الجبال.

وبجانبه قبالة دكان الوالد علي بن خميس يصطف متعلمو الكتابة والخط العربي يكتبون على لوح أسود يسمى بالعامية (سليت) يتعلّمون حتى يتقنوا فن كتابة الخط العربي بأنواعه المختلفة.

وغير بعيد عنهم يجلس المُحَسِّنونْ (الحلاقون) حبيب وسليّم وحامد قبالة دكان التاجر عبدالله بن جمعة بن شيران يمارسون مهنة الحلاقة والحجامة والتجميل على بساط من الرسل يضعون فوقه الموس والفرشاة والسّحلةْ وقرون الحجامة وغرشة من مطهر الديتول. وقبيل المغرب لابد أن يتصارع أبناء المُحَسِّنين يتعاركون في حصة يومية تنتهي بالمودة والتصالح.

وعن مقهى سوق قريات القديم يستذكر: على ربوة مرتفعة في السوق القديم يَلْمَعُ لظى السمر تحت طوبج خبز محمد الكمالي وعلى جمر الغضى يتربّع إبريق شاهي يعقوب الزدجالي في ركنهما البسيط قبالة محل الحلوى في السوق القديم يُفَرِّق الكمالي العجين أقراصاً دائرية متوسطة الحجم فوق الحديدة (الطوبج) فتخرج رقائق الخبز ساخنة بلونها المائل للصفرة زكية الرائحة شهية المذاق تذوب في الفم بنعومة الحرير. وتفوح رغوة شاهي الحليب المعتّق من ثنايا إبريق يعقوب تسابق شفاه الفم رشفاتها اللذيذة تعدل المزاج الصباحي الجميل، على نارٍ هادئةٍ ويد تحنو على مكونات ذلك الإبريق تُقلِّب محتواه بحرفنة وذوق، فتفوح رائحة الشاهي وعبير الهال يجلل المكان.. قلّما تذوق ذلك المزيج الآن .

ويتسابق رواد السوق على حجز مكان لهم على منضدة مقهى الكمالي وفي يدهم تغليفة معباة بحلوى ساخنة أو عقدة شهية أخْرِجَتْ للتو من مرجل الحلّاو سالم بن علي العادي .. يلفونها برغيف الخبز الساخن وجبة لذيذة يحرص عليها الكثيرين في السوق صباحاً ومساء . ويلف البعض إصبع من بيض السمك المجفف الشهي داخل رغيف الخبز الساخن اللذيذ..

وفي بداية السبعينيات كانت مدرستنا الابتدائية قريبة من السوق، عندما يقرع جرس الفسحة نتسابق ركضاً إلى عند الكمالي نشتري خبزاً ساخناً نغمسه في كوب الشاهي، نضع رِجْلاً على أخرى في نشوةٍ ولذة نحتسي مذاق الشاهي . كل ذلك لا يزيد عن خمسين بيسة وأحيانا لا يأخذان منا - نحن الصغار - أي مقابل؛ فنعود إلى المدرسة نستكمل حصص الدروس، ولم يتبق في الفم سوى مذاق الشاهي ولذة الخبز وسيرة الطيبين.

محازم الرصادي

ويضيف حسن البلوشي قائلا: أمام صندوقه الصغير الشبيه بخزانة الملابس الكبيرة يجلس أبو عديم سالم بن سيف السلماني لبيع أدوات البحر من مجادير مختلفة الأحجام والأشكال وصنارات وخيوط الصيد مختلفة الأطوال والأنواع يوزعها على رفوف خزانته المتواضعة كل حسب حاجته واستعماله لكن ذلك الصندوق الصغير تتزاحم حوله أقدام المشترين من أصحاب البر والبحر ويأتي بالرزق والكسب الوفير يبيع أبو عديم في تلك الصندقة كما نسميها قديما أيضا لعبة الدوامات الخشبية بأشكالها الزاهية الألوان وخيوطها الجميلة نتسابق كثيرا نحن الصغار وقتها لشراء الجديد منها للعب بها خلف السوق، كما كان يبيع أدوات الدراجات الهوائية وكرة القدم المصنوعة من النايلون وكرة المضرب الصفراء التي نلعب بها الألعاب التقليدية ( الكرابي ) و( لقف دوم ) و( المغاه ) في فضاءات مفتوحة خلف السوق القديم .

أوائل المحلات

وبعد وفاة سالم بن سيف رحمه الله خلفه في ذلك الموقع ولده عديم و أضاف إلى ذلك بيع الاسطوانات والتسجيلات القديمة لقدامى المطربين مثل سالم الصوري ومحمد زويد وموزة خميس ومحمد سلطان المقيمي وحضيري أبو عزيز وحمدان الوطني وغيرهم من الفنانين.

وعن الرصادي قال: بجوار دك الملح الكبير شمال السوق يجلس أيضا خلفان الرصادي يبيع في محله الصغير المحازم والتفاق والخناجر والسيوف والتروس ومختلف أنواع العصي، فكان يجلب بضاعته من نزوى ومطرح وصور فيقبل الأهالي عليه كثيرا لشرائها خاصة في أوقات المناسبات والأعياد.

وعن أول مطحنة حبوب وأول مخبز وأول محطة وقود وأول بنك في قريات يقول حسن عن أول مطحنة للحبوب في زاوية السوق القديم جهة الغرب تشم روائح الحبوب والبهارات حيث تسمع صرير ماكينة مطحنة حديثة أحضرها التاجر داوود بن سليمان البلوشي كأول مطحنة آلية لطحن الحبوب والبهارات سهلت المطحنة كثيرا على الأهالي من العمل اليدوي الشاق الذي كان يبذلونه قبل إحضاره لها وصار الإقبال والتزاحم عليها كثيرا خاصة عند حلول شهر رمضان المبارك والأعياد.

وبجانب المطحنة يقبل الناس في المساء لشراء الحل تراب وقود القناديل لكل البيوت يبيعه التاجر أحمد بن مبارك الفارسي ويبيع أيضا وقود الديزل لمكائن الطويان. وقد أقام أول محطة صغيرة لبيع البترول ومشتقاته براحضي الساحل ومعه التاجر داوود بن سليمان البلوشي يسوقون مشتقات شركة شل من وقود وزيوت السيارات ومكائن قوارب الصيد.

وقريبا من موقع شل أقام التاجران علي بن مراد البلوشي وعلي بن حمدان الهوتي محطة لتعبئة مشتقات الوقود لشركة BP، أما في طرف السوق الشرقي، أقام أحمد بن سالم الحميدي في بداية السبعينات أول ورشة نجارة بآلات حديثة لتقطيع الأخشاب وصنع النوافذ والأبواب وقد كان ساعده الأيمن والعقل المدبر له الشاب سعيد الحلاوي الذي كان بمثابة مدير لأعماله في ذلك الوقت وأتذكر أول نجار لديه كان اسمه ( سنكر) من الهند كان فنيا ماهرا في أعمال النجارة، وعندما تخرج من طرف السوق الشرقي تشم رائحة الصمون والباراتي اللذيذ الذي كان يعده الخباز الهندي باسكران في المخبز الذي جلبه لأول مرة إلى الولاية علي بن مراد البلوشي وصارت تعمل من خبز الصمون السندويتشات لطلبة المدارس ويشتريه الناس لوجباتهم في كل صباح ومساء وغير بعيد عن المخبز جلب أيضا التاجر علي بن مراد البلوشي أول كواي للملابس بالولاية وهو الباكستاني محمد سرور (ملنجيه ) الذي ظل يعمل لأكثر من أربعين عام يكوي الملابس بالطريقة التقليدية القديمة حتى وافته المنية ذات مساء وهو يكوي الملابس في محله.