ألّف العمانيون بعده ملحمة من التعاون والتآزر شاهين.. إعصار مدمر لن تنساه عُمان
«شاهين» حالة مدارية استثنائية ستخلد في الذاكرة كملحمة وطنية سطرها أبناء عمان بثباتهم وصبرهم
كتب ـ يوسف الحبسي
ساعات ويأفل عام 2021 وتدخل أيامه في عهدة التاريخ، إلا أن بعض لحظاته لا يمكن أن تأفل بل تبقى راسخة وحاضرة نظرا لتأثيرها العميق أو فعلها الاستثنائي.
وإذا كان عام 2021 عاما حافلا بالأحداث على كل المستويات فإن أحد أهم الأحداث التي لن تنساها سلطنة عمان في السنوات القريبة هو مرور الإعصار المدمر «شاهين» على السلطنة وبشكل خاص على محافظتي شمال وجنوب الباطنة، حيث كان حدثا استثنائيا بامتياز تسبب في خسائر في الأرواح وأضرار بالغة في البنية الأساسية وممتلكات المواطنين والمقيمين.
كانت الأمطار تهطل بغزارة منذ الصباح الباكر ليوم الثالث من أكتوبر 2021 والجميع ينتظر مرور عين الإعصار، وأسدل الليل ستائره والأمطار مستمرة في الهطول إلا أن أجزاء بعينها من سلطنة عمان كانت تحت التأثير المباشر لعين الأعصار التي مرت على ولاية المصنعة والسويق والخابورة وأجزاء من ولاية صحم وبركاء، وهي الولايات التي عاشت ليلة من أصعب لياليها على الإطلاق. كانت السماء تسقط على الأرض ماء في كل مكان.
تسلسل الأحداث
تسلسل الحالة المدارية «شاهين» كانت سريعة إذ رصد المركز الوطني للإنذار المبكر من المخاطر المتعددة منخفضا مداريا شمال شرق بحر العرب في 30 سبتمبر 2021 متحولا في الأول من أكتوبر 2021 إلى إعصار من الدرجة الأولى مصحوبا برياح شديدة وأمطار غزيرة جدا.. ومع اقترابه من سواحل سلطنة عمان صدرت التوجيهات السامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم القائد الأعلى للقوات المسلحة ـ حفظه الله ورعاه ـ بتوفير كل ما من شأنه المحافظة على سلامة المواطنين والمقيمين أثناء تعرض السلطنة لتأثيرات الحالة المدارية، داعيا المولى عز وجل بأن يجعلها أمطار خير وبركة، وأن يعم بنفعها البلاد والعباد.
إذ تم تفعيل ورفع جاهزية قطاعات المنظومة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة في المحافظات التي ستتأثر بالإعصار المداري «شاهين» وقد حثت اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة مساء الأول من أكتوبر 2021 أعضاء اللجنة باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لدعم وإسناد عمليات الاستجابة في المحافظات المتوقع تأثرها بالحالة المدارية والعمل على رفدها بالموارد والقدرات اللازمة، وتلبية كافة متطلبات التعامل الفعال مع الحالة، والحد من تأثيراتها على المواطنين والمقيمين، وتم تجهيز مراكز للإيواء في مختلف المحافظات التي ستتأثر بالحالة المدارية مجهزة بكافة الخدمات.. كما تقرر يومي 3 و4 من أكتوبر 2021 إجازة للعاملين في الجهاز الإداري للدولة والقطاع الخاص حرصا على سلامة الأرواح باستثناء محافظتي الوسطى وظفار، وإخلاء المنازل على الشريط الساحلي للمناطق التي ستتأثر بالحالة المدارية وإيوائهم في مراكز الإيواء بمحافظاتهم وسخرت أجهزة الدولة كافة الإمكانيات لتوفير شتى أشكال الدعم والمساعدة اللازمين لتخفيف حدة التأثيرات للحالة المدارية للمواطنين والمقيمين في ربوع البلاد.
ومع ارتفاع الموج والرياح الشديدة وبداية سقوط الأمطار كان عمان مستعدة لاستقبال ضيف لابد أن يمر بها وحالة مدارية استثنائية لم تحدث منذ قرابة قرن من الزمن، وأعلنت وزارة الإعلام جاهزية الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والإلكتروني وجميع الأدوات الداعمة له في التعاطي مع تأثيرات وتطورات إعصار «شاهين» مثل التوعية العامة والإرشادات والتحذيرات بلغات متعددة للمواطنين والمقيمين وإبراز الجهود المبذولة من قبل قطاعات الاستجابة.
عين الإعصار
قادما من خليج البنجال وعابرا الهند ثم بحر العرب ليصل إلى السلطنة كزائر لم يتكرر منذ قرن من الزمن، حبست عمان أنفاسها فيما كان «شاهين» يعبر أراضيها وهو منتشي برطوبة بحر عمان التي زادت من قوته وقدرته التدميرية ووصل جدار الإعصار الضخمة المكون من السحب الركامية التي يصل ارتفاعها إلى 16 كيلومترا إلى السواحل العمانية في الثالث من أكتوبر 2021 تلاها في الساعة الثامنة والنصف من مساء ذات اليوم دخول عين الإعصار بين ولايتي السويق والمصنعة بأمطار شديدة الغزارة ورياح بلغت سرعتها على جدار الإعصار 150 كيلومترا في الساعة ليحول بعد ذلك إلى عاصفة مدارية بسرعة رياح 116 كيلومترا، وعاشت مئات الأسر في ولايتي الخابورة والسويق وأجزاء من ولايتي صحم والمصنعة ليلة صعبة جدا مع مرور التأثيرات المباشرة والقوية للإعصار «شاهين» ووسط غزارة الأمطار وشدة الرياح بالإضافة إلى الخوف والقلق والتوتر والكثير من التصورات التي أفضت إلى شكوك حول دنو لحظة الرحيل.
تراوحت كميات الأمطار مع التأثيرات المباشر بين 200 و500 ملم ورياح شديدة، إذ سالت الأودية والشعاب، وشهدت سواحل ولايات المطلة على بحر عمان هيجانا في الموج بلغ ارتفاعه من 8 إلى 12 مترا وامتدت مياه البحر إلى اليابسة في المناطق المنخفضة والقريبة من البحر، ومنع الحركة المرورية بين محافظتي شمال وجنوب الباطنة وعدم السماح بالتنقل إلا للحالات الطارئة والإنسانية، وبعد ساعات عصيبة عاشتها السلطنة يومي 3 ـ 4 أكتوبر 2021 وتكشف المشهد عن انجلاء الحالة المدارية دور مشهود قامت به جميع مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية من أجل أن تمر الحالة المدارية بأقل الخسائر لعبور ليلة «الرعب».
انجلاء شاهين
بعد انجلاء التأثيرات المباشرة للحالة المدارية «شاهين» وفي إطار المتابعة السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ تفضل ـ أبقاه الله ـ فأمر بتشكيل لجنة وزارية لتقييم الأضرار التي تعرضت لها منازل المواطنين وممتلكاتهم المختلفة في المحافظات التي تأثرت مباشرة بمركز الحالة المدارية، وذلك بهدف توفير شتى أشكال الدعم والمساعدة اللازمين للتخفيف من حدة تلك التأثيرات عليهم في أسرع وقت ممكن.. ووجه جلالة السلطان المعظم ـ أيده الله ـ بضرورة الإسراع في إصلاح البنية الأساسية التي تضررت نتيجة هذه الأنواء، بالإضافة إلى اتخاذ ما يلزم من إجراءات لإعادة الخدمات الأخرى المتضررة.
وفي الرابع من أكتوبر 2021 عقدت اللجنة الوزارية لتقييم الأضرار أول اجتماع لها في مركز شرطة عمان السلطانية بولاية السويق واتخذت القرارات التي من شأنها وضع الأولوية في حماية الأرواح وإعادة الحياة الطبيعية للمتأثرين بشكل مباشر وسريع، ومنها بدأت سلطنة عمان بكافة أجهزتها المدنية والعسكرية والمواطنين والمقيمين ملاحمة وطنية لإعادة الحياة إلى طبيعتها في المناطق المتأثرة بالحالة المدارية «شاهين» كالجسد الواحد والبنيان المرصوص، يسابقون الزمن بمد يد العون لإخوانهم في ولايتي السويق والخابورة وأجزاء من ولايتي صحم والمصنعة.
الخطاب السامي
تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ فألقى يوم 11 أكتوبر 2021 خطابا ساميا فيما يأتي نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله حمد الشاكرين، على ما أنعم به علينا من نعمة الأمن والاستقرار، وأن جعلنا أمة متلاحمة، يتآزر أبناؤها صفا واحدا، لا ينال من عزائمهم هول الشدائد والمحن، متسلحين بروح الصبر، والبذل والإخلاص لهذا الوطن العزيز.
أيها المواطنون الأعـزاء،، لقد تعرضت بلادنا وخصوصا محافظتي شمال وجنوب الباطنة لأنواء مناخية، ذهب ضحيتها عدد من المواطنين والمقيمين، كما خلفت تلك الأنواء خسائر مادية كبيرة، في ممتلكات المواطنين والبنى الأساسية، ومنذ الوهلة الأولى حرصنا على متابعة ما حدث أولا بأول، وقلوبنا تلهج بالدعاء إلى الله العلي القدير بأن يحفظ بلادنا وأبناءها والمقيمين على أرضها الطيبة من كل مكروه.
وقد كشفت لنا الأيام الماضية، عن ملحمة وطنية سطرها أبناء عمان الأوفياء بثباتهم، وصبرهم، وتماسكهم، وتعاضدهم، وسيظل ذلك شاهدا على قوة هذا الوطن، وقدرته على الصمود، في مواجهة الظروف والمتغيرات، ولقد كان ذلك امتدادا لما بذله أبناء عمان، من تضحيات على مر العصور.
وإننا إذ نعزي أنفسنا، وذوي من فقدنا من أبناء هذا الوطن العزيز والمقيمين، أثناء الحالة المدارية، سائلين الله عز وجل أن يتقبلهم قبولا حسنا، فإننا لنشكره جلت قدرته على سلامة أبناء عمان الأوفياء، الذين جسدوا قيم الإيثار، والتلاحم، والتآزر، والتكافل، والتعاون، داعمين الجهود الوطنية، التي تبذلها الجهات المعنية، في تسهيل وتيسير سبل الحياة للمواطنين، وإننا لنؤكد في هذا المقام، على أن عودة الحياة العامة إلى وضعها الطبيعي، وتوفير متطلبات الحياة الأساسية للمتضررين، هي أولوية أولى لدينا في هذه المرحلة، كما سنولي إعادة شبكات البنى الأساسية المتضررة، ما تستحقه من عناية لازمة، وقد بدأت الجهات المعنية في تحقيق ذلك، وعلى كافة الجهات الحكومية، العمل كمنظومة واحدة تتعاون، وتتكامل فيما بينها؛ لأداء واجباتها ومسؤولياتها على الوجه الأكمل، وتسريع وتيرة عملها؛ لخدمة أبناء هذا الوطن العزيز في كل مكان، وعلى مجلس الوزراء ضمان تحقيق ذلك.
إن على اللجنة الوزارية، المكلفة بتقييم الأضرار التي تعرضت لها منازل المواطنين وممتلكاتهم؛ توفير المساعدة في أسرع وقت ممكن، وعلى الجهات الحكومية ذات العلاقة، تسهيل أعمال اللجنة، والتعاون معها، وسوف تحظى اللجنة بإشرافنا المباشر، لمتابعة أعمالها وإنجازاتها.
ومن أجل الإسراع في استيعاب تأثيرات الحالة المدارية، والتخفيف عن المواطنين المتأثرين بها؛ فقد أمرنا بإنشاء صندوق وطني للحالات الطارئة، بهدف التعامل مع ما خلفته هذه الحالة المدارية، وما قد يحدث مستقبلا من حالات أو كوارث طبيعية- لا قدر الله.
ونود في هذا المقام.. أن نشكر أشقاءنا، وأصدقاءنا قادة الدول الشقيقة والصديقة، ممن تواصلوا معنا للإعراب عن تضامنهم معنا، سائلين الله عز وجل أن يبعد عنهم وعن أوطانهم كل مكروه.
وكما نود أن نشيد بدور كافة الجهات الحكومية، والخاصة، والأهلية، ممن قاموا بأدوار رائدة ومقدرة في إدارة هذه الحالة، وفي الاستجابة الفورية لمتطلبات التعامل معها، ونخص بالذكر اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة، وقواتنا المسلحة الباسلة، وشرطة عمان السلطانية، والأجهزة الأمنية، وكافة المواطنين والمقيمين، وقطاعات الإيواء، والخدمات المساندة، وشركات القطاع الخاص، والجمعيات الأهلية، وفرق المتطوعين، الذين كانوا جميعا مثالا للوطنية الحقة.
حفظ الله عمان، وأبناء عمان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
100 بالمائة
سطروا العمانيون بأحرف من نور إنجازات لعودة الخدمات الأساسية «الكهرباء ـ المياه ـ الاتصالات ـ الطرق ـ إدارة النفايات» في الولايات المتأثرة بالحالة المدارية بنسبة 100% في وقت قياسي بتاريخ 20 أكتوبر 2021 أي بعد نحو 16 يوما من انتهاء التأثيرات المباشرة لإعصار شاهين، وأصدرت اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة إنهاء حالة التأهب في ذات اليوم، ولا يسمو الوطن إلا بأبنائه.
