No Image
عمان الثقافي

هل الهامشُ هو حقًّا إقصاءٌ؟

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

لا يمكننا تحديد مفهوم الهامش أو الهامشيَّة وطبيعتها في الأدب إلَّا بتحديد مفهوم المركزيَّة في المقابل. إذ أنَّ الهامشيَّة يتحدَّد موقعُها خطيًّا وفق مركزٍ ما كما تتحدَّد درجتُها كلَّما اقتربت أو ابتعدت عن هذا المركز. ولأنَّ المراكز كثيرة ومتعدِّدة، فإنَّ تحديد الهامشيَّة يبقى نسبيًّا، ليس في ظلِّ عدم تحديد نوعيَّة المجال ومركزيَّته فحسب، وإنَّما أيضا في مقابل عنصريّ الزَّمان كالتَّاريخ، والمكان كالمدينة مثلاً.

وسنحاول في هذا المقال الوجيز التَّطرُّق إلى الهامش بنوعيه: هامش المثقَّف بمعزل عمَّا يكتب، والهامش في الثَّقافة من خلال تناول بنياته المختلفة داخل المتن.

وقد يتمثَّل المركز في السُّلطة، وفي الإعلام، وفي العواصم العالميَّة، وفي الدول الغنيَّة، وفي المعيار الثَّقافي والذَّوق الفنِّي أيضًا وفي غيرهما، كما يتمثَّل الهامش بالمقابل في ما انعدم وجودُه ضمن هذه المدارات المتعدِّدة. إنَّه يتشكَّل وفق وضعيَّات مختلفة، فالهامش يتحدَّد اجتماعيًّا بشكلٍ طبقيٍّ، كما يتحدَّد جوهريًّا بحسب درجة الانتماء النَّفسي للعالم المحيط. يمثِّل العوزُ والحاجة مثلاً هامشًا اقتصاديًّا مقابل الثَّراء كمركز، والأقليَّة الدِّينيَّة هامشًا في مقابل المذهب العقائدي الذي تعتنقه الأكثريَّة، وثقافيًّا بحسب طبيعة الإبداع، إذ إنَّ الأدب الحديث المجدِّد خصوصًا يتَّصفُ بمركزيَّةٍ أقوى من الأدب التَّقليدي الذي يمثِّله الشِّعر الكلاسيكي مثلا، كما يحتلُّ العلماء فيما تعوَّد عليه المشهد الحالي مساحة الهامش أمام السّياسِي في ترجيح القرار السِّياسي. ولا ينبغي أن ننسى أن اللِّباس ونوعيَّة الأغذيَّة والتَّقاليد بطبيعتها البيئيَّة والممارسات الاجتماعيَّة بما في ذلك السِّحر والشَّعوذة، كلُّها تمتلكُ القدرة على التَّعبير عن الهامش.

لنتذكَّر -بخصوص مركزيَّة العالم الغربي- التَّجربة الفريدة في إصدار نسخة فيلم الرِّسالة بتمثيلين مختلفين. فلقد كان يهدف مصطفى العقَّاد من وراء ترويج النُّسخة الإنجليزيَّة تمكين الفيلم من احتلاله المركز الغربي فضلا عن كونه بطبيعته قد احتلَّ سريعا قلب العالم العربي والإسلامي. ولنتذكَّر أيضًا كيف انتقل فنُّ الرَّاي الموسيقي سريعا من الهامش الذي كان يقبعُ فيه بوهران إلى المركزيَّة الغربيَّة بعد أن تبنَّته باريس عندما سجَّل الشَّاب خالد أغنيته الشَّهيرة «ديدي». لا ننسى في الأخير ذلك الإشهار الواسع والفعَّال والذي يحظى به الأدباء العرب النَّاطقون باللُّغات العالميَّة في مقابل زملائهم الذين يكتبون بالعربيَّة، على الرَّغم من أنَّهم -في مقابل ذلك- سيجدُون أنفسهَم سريعًا في هامشِ الثَّقافة العربيَّة يلتمسون ترجماتِ كتاباتهم رغبةً في نشرها بوطنها الأصلي. نسمِّي هذا النَّوع بالترَّجمة التَّوطينيَّة، وهي ترجمة تعيد نقل الكِتاب من الهامش اللُّغوي الأجنبي الذي كُتبت فيه إلى المركز اللُّغوي الأصلي الأوَّل. وفي هذا الصَّدد، لا بدَّ من التَّذكير بتلك القسوة التي عانتها كتابات محمَّد ديب وكاتب ياسين الفرونكفونيَّة جرَّاء تهميشها السِّياسي واللُّغوي بالجزائر، مثلما عانتها أيضًا كتابات محمَّد خير الدِّين بالمغرب على خلاف النُّعومة السيَّاسيَّة المغاربيَّة التي رفلت فيها كتابات رشيد بوجدرة والطَّاهر بن جلُّون.

وإذا كان الهامش يفيد بشكلٍ آخر مفهوم الحدود، باعتباره موجودًا على الأقل خارج المركز، فإنَّه يعطي بعدًا يفيد بدوره الثَّانوي، فضلاً عن كونه يسمح بالتَّعاطي معه كفضاءٍ قابلٍ للنِّقاش، مقارنةً بالأدب المنبوذ الذي عادَةً ما يتمُّ إقصاؤه، بعد أن تضعَه السُّلطة في خانة الأدب الخارج عن القانون، بل وتمنع صاحبه من الوصول إلى مناصب عليا بالدَّولة.

لا يعني هذا بالضَّرورة أن أدب الهامش في منأى عن الإقصاء، بل إنَّه مهدَّدٌ على الدَّوام بذلك، فهو يمثِّلُ من جهة أدبًا مختلفًا، ومن جهة أخرى، أدبًا متمرِّدًا بل وربَّما مدمِّرًا في أقصى الحالات. فاعتراضهُ على النِّظام القائم لأسباب نفسيَّة أو فكريَّة لن تكون متوقِّفة على مرحلة معيَّنة، بل سيستمرُّ ذلك الاعتراض لمدَّة أطول، ليصبح في الأخير موقفًا ملازمًا لصاحبه لا يفارقه أبدًا. لنتذكَّر كيف تطوَّر موقف محمود درويش من اعتراضه على الاحتلال الصُّهيوني إلى اعتراضه على الانضمام لحكومة ياسر عرفات بعد معاهدة أوسلو، وهو ما جعله كشاعر ينظر إلى المقاومة كمفهوم إنساني ضدَّ أيِّ سلطة كيفما كانت طبيعتُها وهويَّتُها.

يستطيع أديبُ الهامش أن يواجه الخطر بشجاعة، وأن يتحمَّل تبعات ذلك، وهو، خلاف ما يمكن توقُّعُهُ، بمقدوره أن يعبِّر عن حريَّةٍ أكبر، وبقناعة قلَّ لها نظير. إنَّه في كلِّ الحالات، لا ينتظر رعاية جهة ما أو رضاها السِّياسي عليه، بل سيكون قادرًا على القبول -في أقل تقدير- بالظُّروف الهيِّنة التي توفِّرها له مصلحة ثقافية ما توجد في عزِّ الهامش هي أيضًا، كما سيكون -على تقدير أكثر- مستعِدًّا لتقبُّل أقسى العقوبات.

إنَّ من بين الأعمال الأكثر غرابةً في هذا هو ما قام بإصداره الشَّاعر الفرنسي شارل بودلير الذي نشر سنة 1857 ديوان أزهار الشَّر. لم يدم الصَّمت إلا وقتا قصيرًا حتى ارتفعت الأصوات واحتدَّت الجلبة وانبعث الرُّعب في نفس الشَّاعر وانتشر الذُّعرُ في أوساطه الأدبيَّة بعد أن قامت البرجوازية الفرنسية آنذاك برفع قضيَّة ضدَّه بعد تقديم المديرية العامة للأمن العام تقريرًا يوم 7 جويلية إلى وزير الداخلية تعتبرُ أزهار الشَّر تحديًا للقوانين التي تحمي الدِّين والأخلاق. لقد تمَّ حجز النُّسخ كلِّها لدى ناشريه أوغست بوليه مالاسيس ويوجين دي برويز. وفيما كان هذا الدِّيوان محتلًّا هامشَهُ الأدبي، فإنَّه بات يُعتبَر من بين الأعمال الأدبية الفرنسيَّة الأكثر محوريَّةً اليوم. ومن بين أهم الأعمال الأدبيَّة التي تعتزُّ بوجودها اليوم الثقافة العربيَّة هي تلك التي تمَّ تأليفها في السَّابق داخل مساحة الهامش أيضًا، كما هو الحال بخصوص قصص كليلة ودمنة لابن المقفَّع، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعرِّي، وألف ليلة وليلة التي قام المؤلِّف عنوةً بتهميش اسمه فيها، فهي كتابات أُلِّفت بالتَّأكيد في الخيال الذي نبع من الهامش السِّياسي للواقع العربي آنذاك. وعلى حدِّ تعبير ميشيل فوكو، فإنَّ المجتمع لا يتحدَّدُ وحده بحسب طبيعة ما يقوم هو برفضه، بل، في رأيي الخاص، حتَّى الأدب يتحدَّد بفضل ذلك أيضًا، فالهامشيُّون إنَّما هم انعكاسُ نظرة المجتمع الحقيقيَّة، وسيمثِّلُ أدبُهم واقعا يعكسُ الحقيقة المغيَّبة بشكلٍ أساسيٍّ. وهو ما نتمثَّله في الأدب العربي القديم مختصرين إيَّاه في النَّماذج التي أتينا على ذكرها قبل قليل.

ولذلك، فإنَّ هذا النَّوع من النُّصوص لن تولد في الهامش فقط، ولكنَّها ستولدُ في نطاق معارضة كتَّابها للوضع الاجتماعي والسِّياسي معًا، وسيطرح السُّؤال نفسَه وجوبا ههنا: هل أدب الهامش هو نفسُه أدب المعارضة.

يتغذَّى أدب الهامش من الوجع الاجتماعي مثلما يتغذَّى الوحشُ الذي يعيشُ في أطراف الغابة من وجع الحياة وهو ينظر بإنسانيَّةٍ مشفقةٍ إلى بذخ المدينة وأضوائها، فأدب الهامش يحملُ كاتبُه وجه ذلك الآخر المتألِّم، كما هو الحال في الخبز الحافي لمحمَّد شكري، وفي كتابات كثيرة لمحمَّد خير الدّين، وعمَّار بلَّحسن، ومظفَّر النَّوَّاب، وأمل دنقل، وعبد الوهَّاب البيَّاتي، وغيرهم.

تتجلَّى ظاهرة أخرى بخصوص هذا الموضوع عندما تنحصرُ بشكلٍ غريب في رغبة الكاتب باستمرار بقائه في الهامش كما استحبَّ ذلك الشَّاعر المصري أحمد فؤاد نجم، وهي رغبة تترجمها مقولة الكاتب الإيرلندي السَّاخر جورج برنارد شو عندما عبَّر عن رفضه لتسلُّم جائزة نوبل عام 1925 قائلاً: «هذه الجائزة أشبه بطوق نجاة يلقى به إلى شخص وصل فعلاً إلى برِّ الأمان ولم يعد عليه من خطر». فالهامشُ هو الطَّريق السَّليم بالنسبة لنوعيَّة معيَّنة من الكتَّاب للوصول إلى كتابةٍ جادَّةٍ وحقيقيَّة.

يعين الهامش في الواقع على إدراك الحقائق في شكلها الصَّريح، لذلك، كثيرا ما يعتزل الشَّاعر السَّاحة الضَّاجة بالإعلام، لمزاولة عمله ككائن يستلهم من العزلات وحيَها الكبير، ها هو سيف الرَّحبي مثلًا يقول في نشيد الأعمى: كم من العتمة نحتاجها لكي أشعر بوهج الضوء.

ويحتوي الأدب الهامشي على مواصفات بنيويَّة تكاد تكون واحدة في عالميَّتها، فهي كثيرا ما تميل إلى الهامش الإثني والدِّيني، والعنصري الاجتماعي كما هو الحال في رواية موسم الهجرة إلى الشَّمال، والسِّياسي، والنَّفساني أين تتجلَّى ظاهرة الجنون في الأدب وتسود مظاهر السِّحر والمسوخات الأسطوريَّة فيه. وإذا حاولنا تحليل هذا الجانب على وجه التَّحديد، فإنَّ الأدب القديم سيفاجئنا بزخم حافلٍ فيه، فألف ليلة وليلة، والزَّوابع والتَّوابع، ورحلة الغرناطي وغيرها تتَّسِع لكثير من ذلك.

وسنشاهد في الرِّواية العربيَّة الحديثة عودة هذه الظَّاهرة بشكلٍ محتشم، كما لو أنَّها مصادرة جزئيَّة لحريَّة الهامش التي بات يتمسَّكُ بها نسبيًّا بعضُ الكتَّاب الشَّباب في ظلِّ بحث السَّواد الأعظم منهم عن الظُّهور السَّريع إعلاميًّا، على الرَّغم من اعتبار النُّقاد هذا المسلك الفنِّي في الأدب نوعًا من الكذب والتَّلفيق، على حساب كونه قد يتَّصفُ اِفتراضًا بتحرُّر أدبيٍّ وفنيٍّ داخل هذا الهامش الاجتماعي والسيَّاسي معًا. وإذا كان السِّحر هو تعبير عن إرادة الكائن في مواجهة قوى الطَّبيعة القاهرة، فإنَّها تعبِّر عن رغبته في الخروج من هامش القوَّة إلى مركزها، حتَّى يكون قادرًا على العيش في غابة تسودها الوحوش والحيوانات المفترسة. ولن يكون مهمًّا لديه أن ينسب هذا السِّحر إلى قوى شرِّيرة ما دامت ستحرِّره من هزيمته النَّكراء أمام الطَّبيعة، بل سيذهب السَّحرةُ إلى الأماكن الهامشيَّة للمدن كالمقابر والوديان لدفن الطَّلاسم، وسيستعينون بالشَّياطين والجنِّ لاستكمال مهامِّهم المطلوبة، وسيتدخَّلون أحيانا -كما يعتقدون- في إعادة توجيه مسار القدر توجيها يليق بصاحبه. ومع ذلك، فهم يظلُّون في الهامش، دون القدرة على الخروج منه على الأقل، أو الاقتراب نسبيًّا من المركز.

ويمثِّل هذا السُّلوك بالنِّسبة للكاتب مجالا خصبًا لتكريس مفهوم الهامش الاجتماعي داخل الرِّواية. ويمكن استقصاء ذلك عفويًّا لدى الرِّوائي الذي يحثُّ بطلَهُ على مقاومة القوى الاجتماعيَّة والسيَّاسيَّة بالسِّحر والشَّعوذة. إنَّه يستمدُّ طاقته تلك من هذا المِزاج الاجتماعي المتقلِّب أين تتحوَّل الممارسات الطُّقوسيَّة المشبوهة إلى موازين تتقلَّب بين الهامش والمركز.

سنلاحظُ لجوء كاتب سودانيٍّ عبد العزيز بركة ساكن مثلًا، في عمله الرِّوائي «مانفستو الدِّيك النوبي»، إلى تناول ظاهرة المسِّ حيث تحزنُ ميرام على أبيها لكونه قد أصيب بمسٍّ من الجنون الذي أتى به من آبار الذَّهب. ويذهب بعض الرِّوائيِّين الآخرين كما هو الحال لدى العمانيِّين إلى استدعاء شخصيَّات تمتلك قدرة عجيبة، وأحيانا سحريَّة بدعم وطيدٍ من الجنّ. فها هو محمود الرَّحبي في «درب المسحورة» يستنقذ شخصيَّةً متلبَّسة بالسِّحر ومسكونة به قائلاً: «إنَّها مسحورة، ليس على وجهها شيء من الموت، ألم تروا ذلك... ارجعوا بالبنت حالاً، وادهنوها بماء الزِّئبق، لن يقربها السَّاحر إذا تلمّظ ذلك الطّعم، سيهرب وسيختفي السِّحر منها». لننظر في رواية العماني سالم الجابري «حياة بين زمنين»، أين تبرز تلك العلاقة الخفيَّة والباطنة بين الأنس والجنّ، وهو يقول: «بعد أن تأكَّدت من نوم الجميع، تسلَّلت من غرفتي إلى خارج البيت. كنت أحسُّ بالإثارة لما سأرى من غرائب، وأعدُّ نفسي لما قد أرى من أشكال مرعبة لبعض الجن، مع أنَّها أخبرتني أنهم سيتشكَّلون أمامي بأشكال مقبولة لكي لا يخيفونني».

يمكننا في الأخير تسجيلُ انطباعٍ أساسيٍّ مفادُهُ أنَّ الهامش تعريفًا ليس هو الهامش الذي يوحي لنا به الاعتقادُ فيما هو عكس المركز، إنَّما الهامش هو تفكير غير نمطي يسلِّطُ الضَّوء على عيِّنات لا توجد بالضَّرورة في صلب المركز، ولكنَّها موجودة فيما قد يكون مستقبلًا هو المركز نفسه.

د. الهواري غزالي أكاديمي عربي يدرس في باريس.