No Image
عمان الثقافي

«قصور الاستشراق» لوائل حلاق .. كتاب في نقد الحداثة والكولونيالية

30 مارس 2022
30 مارس 2022

في منتصف شهر ديسمبر 2021، استضافت قناة الجزيرة، في برنامجها «المقابلة»، وائل حلاق، المفكر الكندي-الفلسطيني، للحديث عن كتابيه المتكاملين «الدولة المستحيلة» و«قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي». وبقدر ما انصب الحديث، في هذا البرنامج الحواري الأسبوعي الذي ينشطه الصحفي علي الظفيري باقتدار، عن مضامين العملين، بقدر ما نحت أجوبة تكرّر ما جاء في الكتاب الثاني خاصة من نقد لاذع للمفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد، لا سيما مشروعه المتصل بتفكيك العلاقة بين الإمبريالية والثقافة.قبل أن نسلط الضوء، في هذه المقالة المتواضعة، على كتاب «قصور الاستشراق»، وبما أن صاحبه أنجزه لغاية النقد والتعليق على المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد حول الاستشراق، خاصة في كتابيه «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية»، فلا بأس أن نذكر ببعض الأسماء التي تفاعلت مع مشروعه الفكري الهائل. من أبرز هؤلاء المفكر الهندي «هومي بابا»، الذي طرح في كتابه الأساس «موقع الثقافة»، مفاهيم بديلة منها «الهجنة الثقافية» و«الفضاء الثالث»؛ والمفكر الهندي الآخر إعجاز أحمد الذي حاول كشف ما بين الاستشراق والكولونيالية من اتصال وانفصال، والباحثة والناقدة السورية رنا قباني التي ساهمت في إغناء مشروع سعيد من خلال دراسات نقدية حول الاستشراق وعلاقته بالصور النمطية المرتبطة بالنساء والجنسانية، والمفكر اللبناني رضوان السيد، خاصة في كتابه «المستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصادر»، الذي انتقد فيه سعيد لكون دراسته لم تشمل كامل المشروع الاستشراقي الغربي، خاصة الاستشراق الألماني، لما له من أهمية بالغة في دراسة العوالم الشرقية، لا سيما الإسلامية منها.

في هذا السياق، لا يقل كتاب «قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي»، الذي صدرت ترجمته العربية سنة 2019 ضمن منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر، أهمية عن المشروعات المذكورة أعلاه. إنه مشروع ضخم يقع في 430 صفحة من الحجم الكبير، ويستعرض محتوياته في خمسة فصول، غايتها إعادة النظر في منطلقات المشروع النقدي عند إدوارد سعيد ومرجعياته النظرية والمفاهيمية ومقاربته المنهجية، بأسلوب نقدي لاذع للغاية.

ينطلق وائل حلاق، في نقده اللاذع هذا لكتابات إدوارد سعيد حول الاستشراق، من إشكالية قوامها أن دراسة الاستشراق لا ينبغي أن تنطلق من تفكيك العلاقة بين المعرفة والسلطة - أو على الأصح بين الثقافة والإمبريالية -، وإنما من معضلة الحداثة بما أنها المشروع المسؤول عن التواطؤ الذي حصل بين الكولونيالية والرأسمالية وباقي أشكال الهيمنة في الغرب. من هنا، يكون مشروع وائل حلاق قد انفتح على أفق أوسع يروم تقييم نقد الاستشراق وتعميق أسئلته من أجل إعادة التفكير في أسس مشروع الحداثة برمتها. في هذا السياق، يقول حلاق: إن كتابه «يركز على الغرب بحق، بيد أنه يتناول أيضا الرجل الحداثي والمرأة الحداثية والطفل الحداثي والعالم المادي الحداثي، وسلامتنا العقلية والبدنية، ومجتمعنا وجماعتنا البشرية، وأسرنا وأبناءنا...» إذ الغاية من توجيه الخطاب إلى كل هؤلاء هو دفعهم إلى إعادة التفكير في كيفية حدوث جرائم الإبادة وإشعال الحروب وتدمير الطبيعة والثقافات وغزو الشعوب وإثارة الفتن والقلاقل، الخ... لئن كان وائل حلاق يعترف بفضل إدوارد سعيد على عمله، حيث يؤكد أن شكا عميقا راوده في «إمكانية تحقق هذا الكتاب- «قصور الاستشراق»- لولا إسهامات سعيد»، لكن القارئ سيلاحظ، على امتداد صفحاته، أن حلاق لا يفوت أي فرصة لانتقاده نقدًا لاذعًا. إذ ينصب مجمل انتقاداته على الأفكار التالية: أولا: تبني سعيد نظريات ميشيل فوكو حول التشكلات الخطابية؛ ثانيا: إنكار سعيد فضل السابقين عليه؛ ثالثا: افتقاد سعيد إلى المعرفة التاريخية والمنهج التاريخي؛ رابعا: وقوعه في تناقضات معرفية كثيرة؛ خامسا: تجاهله كتابات المستشرقين الألمان؛ سادسا: عجزه عن التمييز بين الخطابات الاستشراقية المختلفة، الخ...

لم يأت وائل حلاق، هنا، بأي جديد نقدي من شأنه أن يسائل مشروع إدوارد سعيد، أو يخلخل أركانه وأسسه، أو يغير خلاصاته ونتائجه. ذلك أن جميع هذه الانتقادات وردت في مشروعات نقدية ظهرت بعيد صدور كتاب «الاستشراق» ورافقت مختلف السجالات الفكرية التي دارت حوله خلال الثمانينيات، لتتجدد بعد صدور كتابه الثاني حول الموضوع ذاته بعنوان «الثقافة والإمبريالية»، وتتواصل إلى اليوم. إذ تعود أسباب عجز حلاق عن تقديم مقترح نقدي جديد إلى عدم إلمامه الظاهر بالمصادر التي تناولها إدوارد سعيد بالدراسة والتحليل، وخاصة ما يتعلق منها بالكتابات الأدبية الغربية، ناهيك عن كونه لم يدرك وظيفة إدوارد سعيد الأساسية، بوصفه ناقدًا أدبيًا، لا فيلسوفًا أو مفكرًا تفكيكيًا يسعى إلى فهم موقع الاستشراق ضمن بوتقة الحداثة، أو حتى التنوير.

ثمة نقطة ثانية تلفت الانتباه في مقاربة حلاق للاستشراق، وهو يروم «وضع الاستشراق في مكانه»، بحسب عبارته التي تكررت كثيرا في الكتاب. تكمن هذه النقطة في كونه لم يستطع إدراك الحدود بين الاستشراق والكولونيالية. وقد ظهر الأمر جليا في مستهل الفصل الأول (الصفحة 63)، حيث يمضي حلاق في التعليق على عبارة «أصول الاستشراق»، الواردة في كتاب «الاستشراق»، من خلال الحديث عن الكولونيالية الغربية وفرض هيمنتها وتوسعاتها وامتداداتها في إفريقيا وآسيا وما يسميها بـ«أدائيتها»، الخ... لا يقتصر هذا النقد على هذا الجانب فقط، وإنما يتجاوز مداه المقبول، عندما يخرج حلاق عن الموضوع، في أكثر من مناسبة، كاستغراقه مثلا في الحديث عن مفهوم الحداثة أو ما يسميه بـ«النطاقات المركزية» و«النطاقات الهامشية» أو مفهوم الدولة أو إسهابه في الرد على منتقدي كتابه «الدولة المستحيلة» أو انغماره في الحديث عن مجاله المألوف «الشريعة الإسلامية»، الخ... كما يتبدى هذا الأمر من خلال انحيازه الواضح إلى المفكرين الإسلاميين، أمثال طه عبدالرحمن، وإنكاره بعض الاجتراحات الفكرية الرائدة للمفكرين الحداثيين، من طينة عبدالله العروي ومحمد أركون مثلًا.

ورغم أن إدوارد سعيد حدد إشكاليته النقدية بوضوح في أكثر من سياق ومناسبة؛ أي في طموحه إلى تفكيك العلاقة القائمة بين المعرفة والسلطة في المشروع الكولونيالي، واقتصر من خلالها على دراسة أشكال الخطابات الاستشراقية في فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وهولندا إلى حد ما، لأنها تجيب عن الأسئلة التي تتضمنها إشكاليته الأساس، إلا أن وائل حلاق يؤاخذ عليه، مثلما فعل رضوان السيد أيضا، عدم اهتمامه بالاستشراق الألماني. كما ينتقده بخصوص عدم اهتمامه بما يسميه بـ«الاستشراق الصالح»؛ أي بكل الكتابات الاستشراقية التي لم تكن متحيزة ضد الشرق، وضد الإسلام على نحو خاص.

ومع ذلك، يبقى هذا العمل ذا أهمية بالغة، شرط ألا يقرأ ضمن المشروعات النقدية التي ركزت على مشروع إدوارد سعيد، ولا ضمن الدراسات الثقافية أو ما بعد الكولونيالية، وإنما كجزء مكمل لكتابه السابق «الدولة المستحيلة». ذلك أن هذا الكتاب يسعى إلى تعميق البحث في أزمة الحداثة المعاصرة، والإجابة عن أسئلتها، والكولونيالية جزء لا يتجزأ من قضاياها العويصة. انطلاقا من هذا الأفق القرائي يمكن لكتاب حلاق أن يتخذ مكانه إلى جانب المشروعات الفكرية العربية المعاصرة الرائدة، إلى جانب سعيد نفسه والعروي والجابري وأركون وجعيط وآخرين.

محمد جليد - كاتب من المغرب.