2108564
2108564
عمان الثقافي

في الصيف يسكرهما الحبُّ

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

26 يونيو 2022

منى خليفة وسعاد قوادري

بما أننا في إجازة الصيف ستجد منى وقتًا ترافقني فيه، أحبها رفيقة دائمة في الحضر والسفر، فهي الزوجة الأولى حتى إذا قالت إن أجاثا كريستي زوجتي الأولى. صباحًا نسير في الشارع إلى عيادة القلب بالمستشفى السلطاني؛ لتركيب جهاز يراقب نبض دقات قلب أمي، متى يهدأ خفقانه؟ ومتى يكون النبض عاديًّا؟ متى يرفع غضبه عاليًا؟ ومتى يستريح ويهدأ؟ سيشارك هذا الجهاز الصغير قلب أمي في ساعات يومها القادم، فعليه القيام بدوره على أكمل وجه وأحسنه.

ما يميّز عيادة أمراض القلب بالمستشفى السلطاني أنها مبنى مستقل، قلق التردد عليها يكمن في اشتراكها الملاصق مع المستشفى بجسر عبور في الطابق العلوي، نتيجة هذه الجيرة هي صعوبة العثور على موقف سيارة إلا بشق الأنفس؛ لأن سيارتي صغيرة مثل حقيبة سفر أرجعها الطيران العُماني لتجاوز الوزن المحدد في تذاكر السفر تضطرني الزحمة أن أرفعها على رصيف أمام المبنى، أو أدخلها بين سيارتين بينهما فراغ يناسب اضطرار التصرّف بالطريقة المناسبة. أتردد على هذه العيادة في الفترة الماضية، كلما زرتها لأدخل إليها من الخلف لابد أن أمر على قسم الأورام، هذا يؤلم روحي كثيرا، تكبر معاناتي هنا، تزداد أوجاعي وذاكرتي تتألم وتدمع.

يذكرني مركز الأورام بعبد العزيز الفارسي. قبل انعطافي إليه قلت لمنى من هنا مرّ عبد العزيز الفارسي، أراه الآن أمامي. قبل وفاته التقيت به أمام ذاك الباب، سلمني أوراقًا، تحدثنا قليلًا وتوادعنا بابتسامة رغم ألم أسرّة المصابين. كان منشرحًا ومنطلقًا إلى الحياة كعادته، كلما تحدثت عنه أراني عبد الرحمن منيف وهو محمد الباهي، كما قال عبدالرحمن منيف لسعاد قوادري «من هنا مر الباهي» أعدت ذات الجملة وأنا أُؤشر نحو باب مركز الأورام، للمرة الثانية قلت لمنى من هنا مر عبدالعزيز الفارسي. قبل عقود أشّر عبدالرحمن منيف باتجاه سكة في باريس، يدي في هذه اللحظة تؤشر نحو سكة في غبرة مسقط.

لم نطل كثيرا في الموعد، دخلت منى وأمي وجلستا في قاعة الاستقبال الكبرى التي بلا أي شكل هندسي لتوصف به. رأيت بعد رفع السيارة أمام مدخل مبنى القلب وجراحته الشاعر عوض اللويهي، سألته بسلامات! وعمن معه هنا؟ وسألني أيضًا عمن معي؟

ذهب عوض إلى بقّالة المركز على زاوية صالة الانتظار، أخذ علبتي ماء صغيرتين بحجم ٥٠٠مل، واحدة لي، وأخرى لأمي، عرّفتُها عليه وقلت:

-ماه هذا صديقنا عوض من الرستاق.

أخذ أجر الماء، مدّ لي علبتي، أخذتُها وشكرتُه، بعد حديث لم يتجاوز الدقيقة ناديت منى، كانت واقفة في الطابور المتجه بالأقدام نحو الموظف، تستغل دقائق غيابي حتى أجد موقفًا لسيارتي. عدت واستبدلنا الأدوار، وقفتُ في الخط الذاهب نحو موظف المواعيد؛ لتأكيد الحضور، ثم عادت وجلست جنب أمّي.

سألت الموظف عن طاهر العميري. أحب في طاهر الضحك، أستمتع بقدرته على محاكاة كل أحد، موهوب في تقليد أصدقائه، قادر على تقليدي حركة وصوتًا، إن قيل له قلّد حمود الشكيلي سيفعل ذلك. في غيابي سيضحك الحاضرون، في دقائق تلك النميمة الجميلة سيأتي بي شكلًا وصوتًا وحركة يد أو لسان، قد يصنع مني واحدًا آخر يشبهني، سيجعلني معهم حاضرًا، وأنا الغائب إلا من نميمة أصدقاء يحبونني.

قال موظف سجلات المتابعة الطبيّة إن طاهر في إجازة وقد سافر، أعرف هذا، لعل سؤالي كان وسيلة لأحصل منه على اهتمام وتقديرٍ، فقد يخيّرني بين تاريخين للموعد القادم.

مساء الأمس تواصلت مع طاهر ليذكرني بنظام التسجيل. هذه العيادة ضمن العيادات الصارمة في المواعيد، لك فيها ساعتان فرصة تسجيل حضور، تبدأ الفرصة المتاحة للتسجيل قبل الموعد المحدد بساعة، وتنتهي بعده بساعة، لاحقًا لن تعطى فرصة إلا بموعد جديد، ففيها دكتور صارم ومنضبطٌ في إدارة العيادة وأقسامها. معه في صرامته وصرامتكم جميعًا، احترام وقت الإنسان مهم، كل دقيقة تفوتُ خسرتَها من عمرك؛ فانتبه جيدًا للزمن.

ويسألونك إن كان الكتاب رواية

4 يوليو 2022م

لم تكن هذه المرة الأولى التي أصطحبُ فيها منى إلى المستشفيات، سبق أن رافقتني إلى عيادات الديوان، تلك التي يتعالج فيها سادة مسقط النائمين في بيوتهم. في الحقيقة لم ترافقني لأني ولله الحمد والمنة حتى كتابة هذا الوجع كانت ترافق أمي وأنا السائق الخاص بين المستشفيات، ترافقني الحبيبة؛ لتخفف عني تعب أن أكون وحيدا مع عصا أمي التي تهش بها على وجعي.

ظننا أن فايروس كورونا ولّى من غير رجعة في عامنا هذا ٢٠٢٢، حتى رأينا المرضى ومرافقيهم مرتدين كماماتهم، نحن الثلاثة لم ندخل العيادة بكمامة، ما حدث في لحظة تلك المفاجأة أني طلبت من منى أن تصفَّ خلف الدور الذي يستلم ورقة الموعد، أو يقرأ رسالة الموعد من هاتفك قبل التسجيل؛ للدخول إلى قاعة الانتظار قبل أن تسمع اسم مريضك، وتحثّ خطوتك لمقابلة ممرضة المعاينة المبدئية. دخلت إلى القسم المعاينة، فيه أعرف ممرضة. في يدي ورقة الموعد؛ إن اعترض طريقي رجل أمن المستشفى. سلمت على الممرضة، طلبت منها كمامات للوجوه الثلاثة وأعطتني كمامتين، كما قالت هما آخر ما في العلبة، أخذتهما من درج تحت جهاز الحاسوب.

ذهابًا وإيابًا أمشي وأقرأ في الممر رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» لم يكن مدخل الرواية مريحًا مثل مدخل هذه العيادة، المشي في مدخلها متعب مثل القدوم إليها والمرور جنب قسم الأورام المميت.

الورم استحضار الموت، لو أن عبدالعزيز هنا لزرته؛ إلا أني أزور روحه بالحديث عنه أمام طلبتي وزوجتي وبناتي وإخوتي، أقرأ لهم قصصًا من تجارب مجموعاته السبع، مرة يضحكون، ومرات يصمتون. في السنوات الماضية قال طلبة درّستهم إن القصص القصيرة جدا» مسامير» لعبدالعزيز الفارسي نُكَتٌ، كلمتهم تلك كانت لحظة عجز بريئة عن إيجاد كلمة أخرى قادرة على وصف القراءة ولذتها النادرة في وخز المسامير، قرأوا وضحكوا، ثم قالوا «قرأنا نُكتًا جميلة».

أجمل ما في هذا اليوم هو أن ممرضتين اثنتين، كل واحدة على حدة سألتني عن الكتاب الذي في يدي، كلما قلتُ «رواية» قالت لمن؟ وما موضوعها؟ لو قلت شعرًا! أسأجد من يسأل ويهتم؟ قابلت أمي الطبيب ولا شيء غير العافية. التقدّم في العمر يهدّ الجسد وسائر الأعضاء، بعد جلطة يتعرض لها الإنسان إن ارتفع الضغط، ولم يشعر بزلزال في الرأس يهز الذاكرة، وينفض الدماغ.

6 يوليو 2022م

في الّلاجال لنا أمٌ

أنا ومنى نزور من نحب، كمثل زيارة من أوصيها بهم في ألا تقطعهم حتى إن تقدمتها في عودتي إلى الله. ثمة أحبة تركتهم على يميني وآخرين على يساري، وبعضهم في القلب. بشر وزعتهم هنا وآخرون هناك. في مسقط وما جاورها من أراضين لي أحبة فرادى وعائلات.

في السابع من ذي الحجة أدَّينا زيارات فرضتها الروح كمثل صلاة الضحى، أشركها في أداء فرائض محبتي، كم مرة سألتها ماذا لو أحل ربكِ فكرة كهذه، وخيّر الرجل في أحقيّة أن يأمر زوجته لتصلي عنه؛ لأزاح المؤمنون ملف الصلوات كلّها نحو طاولة النساء؛ ليقمن بشكر الله عنهم خمس مرات في اليوم والليلة، ترد منى وتقول» هذا اللي قاصر بعد، أصلي وأصوم عنك»؟!

ونحن في الكيلو مترات الأولى باتجاه العامرات اتصلنا وعرفنا أن من سنزورهم ليسوا هناك، كان الوقت قبيل الظهر، فوجّهنا قبلة السيارة نحو اللاجال، قرية يؤكد اسمها أن الماء حضن قلبها وحصن جهاتها، والجبال شاهدة.

في اللاجال لنا أم اسمها فاطمة، فحقها السلام كلما أوجدت الحياةُ متّسعًا للواجب، ونحن إلى الواجب نسعى وإلى الأم نركض. نأمل ألا نبقى كثيرًا معها لضيق الوقت. أربعون دقيقة ستكفي؛ مفترضين ألا ندخل هذه المرة لشرب قهوة من بيتها على مدخل القرية.

أحببنا اللاجال، رأيتها بسياء، ووجدتموني طفلًا فيها، يسرح ويمرح بين خضرتها وأفلاجها، وصخور جبال تخزن بين حصاها المياه. كم من ظهيرة سبحنا بين جبالها وأهلها نيام؟! ننتقي جبلًا يأوينا، وبالماء نلعب، إن غمر الماء الأرض صعدنا إلى قمة جبل؛ نتأمّله حتى يخفّ قليلًا، ثم سنقفز لنقيس قوة ارتطامنا بالصخر. في هذه اللحظة لم نكن نعلم أننا قفزنا كثملين أسكرهما الحبُّ وقام بواجبه.

نترك بيت أمنا فاطمة والدة الصديق الشاعر يحيى الناعبي. منذ سنوات أبرمنا معها عقد محبة أبديّة، فهي جنّة اللاجال، باب بيتها مدخل ومخرج القرية. نقف عندها لنتزود بطيبها وكرمها قبل توغلنا نحو مياه تتزحلق من الجبال كلما أمطرت. منذ سنوات ظلت أمّي فاطمة تزودنا بالرطب، تخجلنا كلما وصلتنا منها حلوى العيد. حلواتنا في الأعياد بأمر كريم منها تصل إلى مقهى هوملاند، منه استلمت منى حلوى عيد الفطر، ثم أتى دوري في استلام حلوى عيد الأضحى. للقدر أن يثبّت الدور التناوبي بين الحبيبين.

قبل وصولنا إلى اللاجال جحدلنا داخل السيارة علبتي بلاستيك، أوجعنا قلبينا بما فيهما من صقيع مشروب من «مانجو طلعت» يدعى « عوار قلب»، عوار القلب وصقيع ثلجه المطحون بالسكّر لن يسمح لك بشيء بعده، لا بالشرب ولا بالأكل مباشرة، فيما بيننا هذا عذر في صورة حاجز نفسي يسمح ألا نطيل البقاء معها، لا لقهوة ولا لغداء، مستغلين ضيق الوقت وركض الساعات الأخيرة نحو الاستعداد لأول يوم في العيد وآخر ساعات ستأتي قبله، إلا أننا لم نستطع سبيلًا لذلك.

في عودتنا إلى المعبيلة رافقنا الليبي ميلاد مختار محمد ميلاد الأسطى، كان مستريحًا في الكرسي الخلفي، استأذنته في أن يقترب من حديثنا ويستمع، علق في لساني، استنطقني مثل مجرم يسرد جريمته إلى ضابط مسرح الجريمة. سألتني منى إن كان الأخ الليبي ميلاد هو من رافق العُماني دلشاد في رحلة البوكر الأخيرة، قلت لها نعم هو بكلماته وجمله وبشحمه ولحمه، ثم قالت وهي تقلِّب ورق الرواية كيف وجدتَ خبزه وعجين كعكه، فرن الغلاف سمح لها بالسؤال؟

تعرف أني عاشق للخبز، أكلت مما لم يصنعه ميلاد على المصطبة، أكثر من مرة طلبت أن أقلل من شراء الخبز وأكله. في حديثي عن خبز ميلاد وعجين النّعاس قالت ـ كانت قد عرفت قبل عام دلشاد وأربعة عشر عمانيًّا من أرض زحل التي أبكت الفارسي ـ ثمة شبه في دم دلشاد والرجال الباكين في زحل، سألتها، وما الشبه؟ قالت إنها عرفت دلشاد وأهله، وخالد بخيت وجماعته قبل أن تبحر مع قصصهم، قلت لها صحيح. فرحتُ بملاحظتها القيّمة، قلت لها اشتغال كهذا يسهِّل على القارئ. قبل أقل من سنة أشرْتُ في مخطوط كتاب» التخييل والتأريخ والمرجع في الرواية» بمثل هذه الملاحظة. ماذا لو نال المخطوط حظه المرجو قبل أن يمل مني ويضطرني في التخلص منه بنشره، لأزيحه من طاولتي، وليرثه من بعدي من سيجد بين أوراقه فائدة ومتعة.

12 يوليو2022

زوجته الأولى أجاثا كريستي

رافقتني أجاثا كريستي من مكان إلى آخر في عُمان، نامت معي في ولاية صور، كلما انتقلت من سكن مستأجر في أكثر من مكان بالخوير إلى آخر غيره في الوطيّة والعامرات والمعبيلة أراها تجمع حقائبها؛ لتشدّ رحالها معي. قبل إمضائي على عقد الإيجار الجديد تكون قد وصلت قبلي ودخلت. قالت أجاثا كريستي مرة إنها على استعداد أن تبقى ضمن أي كرتون كتب لم تتسع له جدران الشقق المستأجرة، لهذا خجلت أن أتركها خلفي، أو أنساها، وهي دائما تكون قبلي، أول الواصلين إلى المكان الجديد.

في مكتبة روازن بستي سنتر الموالح كنا نحن الثلاثة(ريماس ومنى وحمود). نتزود بما سنقرأه في رحلة الصيف، انتقت ريماس روايتين، واحدة لأجاثا كريستي وأخرى من روايات دار المنى. بيّنت منى لريماس إن أجاثا كريستي شريكتها منذ خمسة وعشرين عامًا، قالت هي زوجة أبيك الأولى، ضحكت ريماس كعادتها وضحكنا معها، تحول الثلاثي الذي أتى ليتزود بالكتب إلى كومة ضحك؛ حتى سقط رف كتب كان قريبًا منا لحظة أن هز الضحك عرش الكتب في روازن.

تذكرتُ روايات أجاثا كريستي التي اقتنيتها من أقدم مكتبة عُمانية باقية، أجزم أن أقدم مكتبة جادّة وصابرة في عُمان هي مكتبة فينيق في ولاية صور، اليوم هي في عقدها الثالث، يملكها ويشرف عليها الأخ عادل المرزوقي. ظللتُ أزورها وأشتري كتبًا من راتبي البالغ ستين ريالا عُمانيا، مرّة اشتريت عددًا من روايات أجاثا كريستي، أقرأتها؟

في بدايات اكتشاف القراءة لم أوقِّع على الكتب بأي كلام يؤكد أني أنهيت هذا الكتاب، لكأن الكتب قبل عقود مصاحف مقدّسة، لا يجوز أن تكتب عليها ما تريد.

رأيت منى تشارف على إنهاء قراءة رواية أجاثا كريستي «قطار 4.50 من بادِنْغتون». في يوم وساعات من اليوم التالي أنهت قراءة 324 ورقة، وبينما هي في الأوراق الأخيرة سألتني عن كلمة « العراب»؟

قدمت شرحًا شفويًّا يفيد ما يمكن أن يكون تقريبًا أوليًّا للكلمة، قلت لها» الشخص الكبير روحًا ومعنًى وتقديرًا» مرّرت لها مثالًا، قلتُ فيه عرّابي في الحياة الاجتماعية ببسياء عبدالله بن صالح وخليفة حمد. لم تقتنع فتركت سؤالي برسالة صوتية في جروب واتس آب الأصدقاء، وصلتنا منه إجابات ساهمت في زيادة الإقناع.

عند العشاء حكت منى قصة الرواية.

تحرك يديها في الهواء وتحكي، متفاعلة بفرح إنهاء رواية جميلة، رأيتُ فرحًا في وجهها وهي ترسم بيديها قطارين يصطدمان، كأنهما قطارا جريمة مرّا مسرعين في سكة الخمسة متر الفاصلة بين بيتنا وبيت جارنا في المعبيلة. اخترق هدير القطارين الذين تقابلا وجبة عشائنا المنصتة لقصة ما عادت في هذه اللحظة لأجاثا كريستي. رمى مسافرٌ جثة من نافذة القطار؛ لترتطم بنافذة مطبخنا وتكسر الزجاج. صرخنا كلنا خوفًا وهلعًا من مشهد سقوط جثة في صحن معكرونة لحم شواء العيد.

حمود حمد الشكيلي قاص وكاتب عماني