No Image
عمان الثقافي

فيها أسرارهم الخاصة ورؤيتهم الصادقة للناس والعالم: اليوميات.. الصندوق الأسود للأدباء

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

رغم أن بعض الكتّاب العرب نشروا يومياتهم إلا أن اليوميات لا تمثل ظاهرة، فالمجتمعات العربية من الصعب أن تقبل كتابةً فيها كثير من الاعترافات قد تمس الشخص وعائلته وأصدقاءه والمقربين منه وربما بعض الشخصيات العامة.

أما في الغرب فقد استقرت كتابة اليوميات باعتبارها نوعاً من الأدب، لا يمكن محاكمة صاحبه أو الحكم عليه أو ازدراؤه لمجرد أنه قرر كتابة بعض الوقائع الحقيقية.

في هذا التحقيق يسرد أدباء عرب تجاربهم مع كتابة اليوميات ومتى يلجؤون لها وما الفارق بينها وبين الاعترافات وما النماذج العربية والعالمية التي أعجبتهم، والأهم هل يستطيعون اتخاذ قرار بنشرها كما هي دون أن يتدخل الرقيب الذاتي في تهذيبها؟

***

الكاتب المصري مصطفى ذكري له تجربة مهمة وعريضة في كتابة اليوميات فقد أصدر أربعة أعمال كلها تنتمي إلى هذا النوع من الأدب «على أطراف الأصابع»، و«حطب معدة رأسي»، و«أقصى ما يمكن»، و«ما يعرفه أمين».

يقول ذكري: «ذهبتُ لكتابة اليوميات منذ 2008، لأنها صحراء بعيدة عن عمران النوع الأدبي، رواية وقصة. هناك مُفارَقَة فنية أتخيل حدوثها، أو بشكل أدق أتمنى حدوثها، عند قراءة اليوميات، مفادها أن القارئ قد يُشفق على إهدار بعض الفقرات الأدبية اللامعة التي كانت تصلح لعمل روائي لو صبر الكاتب عليها قليلاً، وفي الغالب أقول للقارئ في نفسي مبتسمًا، حتى لو كانت فاتورة الصبر على فقرة اليوميات اللامعة، هي فقدان بريقها داخل الرواية، أو القصة، بعد تمديدها ومطها على مقياس سرير بروكرست الحديدي؟».

اليوميات بحسب ذكري كنوع أدبي لا تُقارَن برسوخ نوع الرواية والقصة، فهي بطبيعتها ناقصة، قاصرة، غير مكتملة، لا تُنافس على مجد أدبي، ليس هناك على سبيل المثال كتاب «بيست سيلر» في اليوميات، أو جائزة بوكر لكتاب يوميات، لكن لا يعني هذا خروج اليوميات عن حقل الأسلوبية الذي يُقيد الكتابة عمومًا، بقيود جمالية، حتى لو كانت حجة الخروج عن الأسلوب، هي التخفف مؤقتًا من عبء التشكيل الأدبي، لاكتشاف شيء ما. يعلق: «الحقيقة المحبطة للمتساهلين جماليًا، أن هذا الشيء المُراد اكتشافه لا يختبئ إلا في الأسلوب نفسه. التسجيل البسيط والعادي والحرْفي الآلي، لعادات وأفعال وأسماء وتواريخ الأيام في تتابعها الرتيب، لا يصنع ما نسميه باليوميات إلا إذا خضعت، وتلك مفاجأة غير سارة، لسرير أسلوبي بروكرستي آخر، أشد دموية، يوناني، وأيضًا حديدي».

فخ الاعتراف

الروائي السوري خليل صويلح يظن أن هذا النوع من السرد يليق بأصحاب التجارب، ذلك أنه في العمق حصيلة خبرات في العيش والكتابة، ورسائل مضمرة نحو الآخر. يقول: «شخصيًا استثمرت اليوميات في كتابة روايتي «جنّة البرابرة» في محاولة لتوثيق يوميات الحرب، نظرًا لتشظي المشهد، وتاليًا لم تكن هذه اليوميات خيارًا ذاتيًا بقدر ما فرضت نفسها عليّ تقنيًا، كما أنني استنجدت بيوميات شهاب الدين بن بدير الحلّاق التي كتبها عن دمشق أواخر القرن الثامن عشر بعنوان «حوادث دمشق اليومية» فرغبت أن أجول في الأمكنة التي ذكرها والوقائع اليومية التي دوّنها، من موقع المؤرخ وعالم الاجتماع في آنٍ واحد». من جهة أخرى، يجد صويلح في اليوميات مادة أولية لكتابة الرواية، وليس لتوثيق سيرة شخصية. على الأرجح ستكون سيرة ناقصة ومبتورة وعرجاء بسبب المحرّمات والأعراف، فأن تكتب يومياتك بعمق ستقع في فخاخ كثيرة، خصوصًا إذا ردمتَ المسافة بين توثيق وقائع يومية والاعترافات: «لا شجاعة لديَّ ولسواي أن يكتب ما يفكّر به أو ما عاشه وإعلانه على الملأ، فنحن لسنا في بلاد الفرنجة حتى نفضح صندوقنا الأسود. ألا يكفي أن يتلصص الآخرون على ما تكتبه في الرواية بضمير المتكلم؟ اليوميات تحتاج أرضًا أخرى، وحراثة أعمق مما هو متاح عربيًا، لأنني أضع هذا النوع من الكتابة بمقام الاعترافات والمكاشفات والبوح العميق. يحق لي أن أقرأ بمتعة يوميات كافكا أو أنانيس نين، أو جورج أورويل، شرط ألا أكتب مثلهما. والحال لن أكون صيادًا، إنما طريدة وحسب».

حدة اللغة

الكاتب العمانية منى السليمية حرصت دائمًا على حمل دفتر صغير في حقيبتها، فوجوده الدائم معها يشعرها بالأمان. تقول: «أتعرف ذاك الشعور المباغت بالرغبة في الكتابة ثم لا تعثر على ما تكتب به أو فيه؟ إحساس يصيبك بالقلق وكأن حربًا على وشك أن تقوم وأنت أعزل لا تجد ما تحارب به. ذاك هو شعوري بغياب دفتري وإن لم أستخدمه. مجرد وجوده في المتناول يمنحني شعورًا بأن كل شيء سيكون على ما يرام». بحسب السليمية وجود الدفتر والقلم يحرِّضان على الكتابة عمومًا، وكتابة اليوميات على وجه الخصوص، سيدفعانك لكتابة كل ما تمر به من مواقف وأحداث وشخصيات أو ما تفكر فيه دون إرجاء، لأن معظم كوارث تأجيل الكتابة سببها عدم وجود ما تكتب به في المتناول. ستقول دائمًا: سأكتبه لاحقًا، ثم قد لا يأتي لاحقاً أبداً. ثمة اعتقاد سائد بأن كتابة اليوميات شأن الكتّاب الكبار فقط، كما تقول السليمية، أولئك الذين يهتم الناس بما يفعلونه في حياتهم، أولئك الذين يثيرون الفضول. تعلق: «ولكن هذا يستفزني، لأن يوميات البشر غير المكتوبة - الذين لا نعتقد بأهميتهم للقارئ - كنز مهدر، ولو بيدي لرغبت في أن يكتب كل الناس يومياتهم بصرف النظر عن مستوياتهم في الكتابة أو قدرتهم عليها. لا أحد يملك حق تحديد أن يوميات فلان أكثر أهمية للقارئ من يوميات علاّن، فكلنا نعيش الحياة على حد سواء».

ترى السليمية أن اليوميات، مفتاح لفهم شخصية الكاتب، وتتأتى أهميتها من كونها كتابة مجردة من الفلترة والتشذيب. إنها ابنة لحظتها الطازجة، وابنة الشعور في أول اعتماله إزاء مواقف الحياة: «أحيانا أعيد قراءة يومياتي المكتوبة منذ سنوات، وأذهل من حدة اللغة التي كتبتها بها، فأستعيد على الفور شعور الغضب أو الفرح أو الحزن الذي كتبتها به، فلا شيء يحفظ حرارة العاطفة كما تفعل كتابة اليوميات غالباً. إذ ذاك نحن لا نفكر بغير تسجيل اللحظة كما هي، فقلما يفكر كاتب اليوميات في القارئ، فهو غالباً يكتب ضد النسيان، والكتابة ضد النسيان كتابة مخلصة للتفاصيل».

وتضيف: «لطالما عشقت التلصص على حياة الآخرين مهما كانوا بسطاء أو مغمورين، ولهذا أعزو عشقي لفن السيرة الذاتية، ولكن اليوميات هي أقرب الأشياء إلى الحياة لحظة بلحظة، وإن كانت انتقائية في معظم الأحيان. أومن تماماً بأن الاعترافات هي قوام كتابة اليوميات، ولكن هل يضر الاعترافُ كاتبه؟ الكتابة وسيلة تصحيح. فكرت في هذا الأمر كثيرا بينما أستعيد نماذج كثيرة من اليوميات والسير الذاتية. لا شيء يصحح مسار الأشياء مثل كتابتها، والكتابة تمحو مثلما تثبت، وهي إذ ذاك تفعل أكثر مما بوسع الاعتذارات أن تفعل».

مخابئ الذاكرة

الشاعر العراقي غسان حمدان يرى أن كتابة اليوميات نوع أدبي لقي أصداءه في العقود الأخيرة، ودمجه بعضهم مع المذكَّرات أو استخدم يومياته مصادرَ لهذه المذكرات، وهو نوع أدبي مهم لأولئك الذي يجدون لديهم ما يقولونه. يستدرك: «أما من هم أمثالي الذين آثروا العزلة والاعتكاف حول الذات والانشغال بالعمل فلا يوجد الكثير ليقولونه، فاليوم كالأمس والأمس كالغد. لكن هذا لا ينفي أنّني أملك في جعبتي كثيرا ما يستحق الكتابة عنه وخاصة أنني عملت في الصحافة والتقيت بشخصيات أدبية وسياسية على حد سواء، ولكني حتى الآن لم أفكر بكتابة تلك الذكريات لأنني أنتظر الفرصة المناسبة وربما أتكاسل، فبقيت تلك الحوادث الجديرة بالكتابة في مخابئ الذاكرة، تخطرُ عندما يستحثُّها أمرٌ أو تظهر على ساحة ذاكرتي عرَضًا دون نية استعادتها أو رغبة تذكُّرها. لا أدري إن كان المستقبلُ يحملُ جديدًا لي يدفعني لكتابة يومياتي، لا سيما في عالمٍ يجتاحه التدوين اليومي الرقَمي في مواقع التواصل، انكفأ الكتَّاب فيه عن تدوين اليوميات والتجأوا إلى التدوين الإلكتروني».

يلجأ الكاتب بحسب غسان إلى هذا النوع من الكتابة حين يكون لديه ما يكتبه، وبحاجة إلى أن يكتبه تعوُّداً منه أو هواية، سوى ذلك فإن كتابة اليوميات مربوطة بطبيعة حياة الفرد، فكلما زادت أحداثها وإثارتها زادت المواد المستحقِّة لتُقيَّد في الورق. لا تحضره يومياتٌ بارزةٌ لكنه يحب النصوص التي تستثمر يومياتها في العمل في إبداع نصوص أدبية تحمل الظرافة والنفع مثل يوميات بائع كتب أو أشياء غريبة يقولها الزبائن في متاجر الكتب.

الغرام بالسيرة

الكاتب المصري جمال مقار لم يخض تجربة كتابة اليوميات لسبب بسيط هو أنه يمتلك ذاكرة طويلة المدى، شديدة الحدة، ورثها عن أبيه، بما يسهل عليه استدعاء ذكريات أي فترة زمنية عاشها بعد سن الخامسة. اليوميات الوحيدة التي قرأها هي «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم. يعتبرها مزيجاً من الواقع والفن، لكنَّ هناك نوعاً أدبياً أُغرِم به وهو السيرة الذاتية، فقرأ عدداً لا بأس به من السير، مثل «سيرتي الذاتية» لبرتراند راسل، «الأيام» لطه حسين، «الفاجومي» لأحمد فؤاد نجم، «أوراق العمر» للويس عوض، «ماذا علمتني الحياة» لجلال أمين، مذكرات شارلي شابلن، «مجرد ذكريات» لرفعت السعيد وغيرها، كما أن هناك نوعاً من الأدب يقع بين السيرة الذاتية والوقائع السياسة الكبرى يهتم به جداً مثل مذكرات إبراهيم طلعت وهو نائب الوفد قبل 1952، وغيره كثيرون.

الكاتبة المصرية عزة كامل خاضت تجربة كتابة اليوميات منذ سنوات مضت، لتسجل الأحداث اليومية وما يجيش في نفسها من أحاسيس وانطباعات، وخاصة بعد موت أشخاص أحباء وأصدقاء لها. وهى ترى أن اليوميات أشبه بمناجاة مع النفس، وتُصنف ضمن الأجناس الأدبية السردية وتحكمها شروط فنية من ضمنها أن تكون تلقائية وبعيدة عن التخييل، وأن تغلب عليها الجرأة والصراحة التامة والصدق وأيضاً الحميمية وهذا يتطلب من كاتب اليوميات أن لا يتهيب من النقاد أو القراء أو ممن عاصروه في هذه الفترة من حياته، اليوميات يجب أن تكون تعرية للذات، وتسرد ما هو مدهش ومجهول وغير مألوف، عندئذ تتحول لمادة غنية للباحثين والدارسين في علم الاجتماع والتاريخ والسياسة والفن، ويلجأ الكاتب لهذا النوع الأدبي ربما بدافع أن يفك غموض حياته وملابساتها، ويكشف الأسرار ليجعل الآخرين يعرفونها أكثر من خلال قلمه، أو أن يكون نرجسياً يرى العالم يتمحور حوله، وفي هذه الحالة ستفتقد الكثير من الصدق.

في الغرب، بحسب عزة، تعد اليوميات تقليداً أدبياً واجتماعياً، لا يهاب الكاتب فيه من كشف الأسرار ولا تعرية الذات، وقد أعجبتها نماذج عالمية منها يوميات فيرجينيا وولف وقد كتبتها قبل بضعة أيام من انتحارها غرقاً، وهي يوميات تعكس روح فرجينيا المعذبة والفراغ الكوني الذي كانت تشعر به، كذلك يوميات كافكا التي نشرها صديقه ماكس برود، بعد موته، على الرغم من توصيته بحرق قصصه ورواياته. وصل كافكا في هذه اليوميات لحالة من الصدق والتطهر مع نفسه، وكشف فيها أغوار نفسه القلقة المرتبكة، وقدمها بشكل سردي يغلب عليه الطابع التهكمي.

هل يمكن الحكم على شخصية الكاتب من اليوميات؟ تجيب عزة: «هذا يتوقف على صدق الكاتب وجرأته والأسرار والوقائع التي يكشفها والمادة السردية التي يقدمها، وأن يكون قلمه حراً بعيداً عن أي حسابات أو عقد أو كليشيهات».

وهل يمكن التعامل معها باعتبارها نوعاً من الاعترافات؟ تقول: «نعم، فهي ضرب من الاعتراف، تكشف الحياة الباطنية، إذا تخلى صاحبها عن القيود والتابوهات والخوف من الآخرين، فهي كتابة حميمة تخاطب فيها الذات نفسها دون ادعاء اليقين، ويجب أن تعرض هشاشة الشخص بعيدا عن الصورة المرسومة له في الأذهان».

عين الكاتب

القاصة السودانية رهام حبيب الله حين بدأت الكتابة نصحها البعض بتدوين يومياتها، معددين مالها من فوائد في تمرين عضلات الكتابة، وتدفق الكلمات مجرى الحديث العادي، فضلاً عن دورها في جلاء عين الكاتب بمراقبة ما يدور حوله، فتزداد حياته كثافة وأدبه مصداقية.

تقول: «أذكر أنني حاولت، لأيام وربما لأسابيع لكنني عجزت عن المواصلة بعد ذلك، إذ بدا لي الفعل مرعباً، فالأحداث المقيّدة بالتاريخ ما هي إلا ستارة المسرح التي تتكشف عن تطور الأفكار والمشاعر، وتناقض الرؤى والدواخل، تدعي أنها ابنة الراهن واللحظة لكنها رحلة نحو الداخل لا تقطعها إلا ذات قادرة على مخاطبة نفسها دون مواربة، تتظاهر بوصف الشوارع والطرقات، لكنك تكتشف أنها ابتلعت عينها في جوفها». وتتساءل: «من أنا لأفعل؟! ألم أصنع عالماً متخيلاً في قصصي هرباً من الواقع، وأبطالاً شجعان هرباً من هشاشتي وضعفي، وأوطانا آمنة هرباً من وحشية الخرطوم؟!، فمن أين لي الشجاعة لأقف عارية قبالة نفسي وأنا المليئة بالندوب؟!».

قرأت رهام عدداً من اليوميات، لغسان كنفاني، سيلفيا بلاث، كافكا، وغيرهم من الأدباء والمفكرين. كانت تبحث فيها عن البشري، عن هشاشته وصدقه وعفويته، لم تقرأها بحثاً عن منابع إبداعهم أو التجسس على حيواتهم الخاصة، لم تُخضع إبداعهم لمحاكمات بناء على يومياتهم، ولم تقارن بين أعمالهم التخييلية وتدوين يومياتهم، فكتابة اليوميات هي فن أيضاً لكنه ضرب مختلف ويخضع لمعايير خاصة به.

بعد ظهور الإنترنت ظن البعض، بحسب رهام، أنه سيجعل كتابة اليوميات سلوكاً جماعياً، فما إن تدخل على الفيسبوك حتى يواجهك بسؤال: «بماذا تفكر» أو: «ماذا يحدث» في تويتر، وبإمكانك بث الأفكار والأحداث مرفقة بالصور، ويزودها الموقع بالتاريخ والمكان. لكن هذه المواقع ألغت الحدود بين الشخصي والعام، وانمحت عوائق الجغرافيا فأصبح ما يحدث في أقصى بقعة في الأرض يصلك وأنت مستلقٍ على وسادتك، ويؤثر على مشاعرك ومزاجك، فبدلاً عن توثيق يومياتك الخاصة وضعتك هذه المواقع موضع رد الفعل، وأصبحت اليوميات تفاعلاً مع الشأن العام، فتحول السؤال إلى: «بماذا يريد منك الآخرون أن تفكر؟». لذا بتنا نتساءل إن كان فن اليوميات، بشكله السابق، كما أحببناه، سينجو في عصر السوشيال ميديا.

تدريب مبكر

كان أستاذ الفرنسية أول من طلب من الشاعرة المغربية سُكينة حبيب الله وهي في الرابعة عشرة من عمرها أن تكتُب يومياتها، لتطوير لغتها وكذلك لتفهم نفسها، استشهد أثناء ذلك من الكتاب الأول لاعترافات روسو بجملة يقول فيها: «دع أيّ شخص منهم، يكشفُ بالصدق نفسه أسرار قلبه ثم ليقل لو كان يجرؤ: كنتُ أفضل من هذا الرّجل!» لم تكن قد قرأتْ حينها سوى مقتطفات قصيرة ضمن المنهج من روسو، لكن هذه الجملة نزلت عليها كالصاعقة. تعلق: «أردت أيضاً وأنا أدوِّن يومياتي، أن أكون بذلك الصدق «المزعوم». بدأت أدوّن كل شيء، وأعني بذلك، حتى ما لم يحصل وطاف فقط في بالي. وهنا بدأ يتحول الكتاب الذي يُفترض به أن يكون تمرين كتابة ممتعاً، إلى قنبلة تتربص بي، كنت أصحو أحياناً خائفة من النوم لأتفقد مكانه وأتأكد أنه لم يصل إلى يد أحد غيري. تخلصت منه بعد سنة، ومنذ ذلك الوقت، بدأت أجد صعوبة في كتابة الحقيقة واضحة وصرت أبذل جهداً كبيراً لأقول الأشياء وأدوخ قبل أن أصل إليها».

لم تعد سُكينة إلى كتابة اليوميات إلا قبل ثلاث سنوات، حين كانت في أمريكا: «شرعت في كتابة يومياتي. كانت تجربة ثرية تعلمت منها الالتزام، أنا التي تهربُ على الفور من ثقل أبسط الأشياء حين يصير القيام بها واجباً. وثقتُ أحداثاً ومشاعر هائلة وزلقة في الوقت نفسه، لأن الذاكرة تقف أمامها عاجزة مثل كاميرا هاتف متواضع يحاول التقاط جلال وسحر وعظمة شفق قطبي. تظن أن بوسعك استعادتها بدقتها لكن ما تفعله ليس سوى تعميق الحسرة على انفلاتها بتلك الصورة المشوشة. وحدها الكتابة تستطيع توثيق هذه الأحداث والمشاعر بأمانة كاملة. وأقصد بالأمانة، جلالها وأثرَها لا مصداقيتها. لكني توقفت بعد شهرين من كتابة اليوميات، حين فطنتُ إلى أني بدأت أعيش أيامي كناقد طعام أمام طبق في مطعم. لا أستمتع بها ولا أختارها، إنما أبحث داخلها عما أملأ به تقريري. ثم عدت بعدها بسنةٍ للفيسبوك، وأعتبره صفحة يوميات، أتعامل معها، لا كمُتهّمة في غرفة تحقيق فأكتب وأنا أرتعد خائفة أن تؤخذ كل كلمة ضدي، ولا كشخص يحمل في يده كاشف معادنٍ على شاطئ، يترك البحر أمامه يضيع سدى ويضيع يومه في نبش الرمل يبحث بين أغطية القناني عن الذهب الموعود، بل كطفل يشاركك اكتشافه المذهل أن بوسع يديه لو اجتمعتا معاً أن تُحدثا صوتاً».

حكاية متخيلة

الكاتبة البحرينية ليلى المطوع ترى أن السرد بكل أنواعه هو حالة توثيق، سواء كان توثيقاً لخيال الكاتب، أم أحداثاً وقعت على أرض الواقع، وقد لا يستهويها هذا النوع من الأدب، إلا إذا كان الكاتب قد استخدم طريقة اليوميات لسرد تفاصيل حكاية متخيلة، أو سرد فترة زمنية تثير فضولها، مثل «القوقعة»، وهي عمل قد يكون متخيلاً يسرد يوميات سجين، وكذلك يوميات آنا فرانك، ويوميات كافكا، ويوميات عجوز مجنون.. وهو عمل روائي متخيل لكنه جميل للغاية.

تعلق: «تستهويني اليوميات التي توثق حدثاً غير مألوف يمر به المجتمع، أو تسرد أفكاراً لشخصية مهووسة مثل يوميات عجوز مجنون. أو شخصية قلقة مثل سيلفيا بلاث التي تعاني بصمت. أو حالة تحول في البلد مثلما سردت شيرين عبادي تغير نظام البلد والأوجاع التي مرت بها إيران في عملها «إيران تستيقظ». أو أن تكون اليوميات عبارة عن رسائل توثق حالة الشخص وما يمر به مثل رسائل غسان كنفاني التي عرَّت مشاعره أمام أعين القراء وعرفنا عنه جزءاً لم يتوقع هو نفسه أن يُنشر هكذا على مرأى الجميع، أو رسائل أنطونيو غرامشي إلى أمه وهي من أروع ما قرأت وتسرد يومياته في السجن، وتبوح بأدق مشاعره».

أدب اليوميات بحسب ليلى المطوع حساس للغاية، فيه كمية مشاعر تظهر حين يشعر الكاتب أن ما يكتبه لن يقرأه أحد، أو يكتبه لشخص معني. لكن الزمن يحولها لمادة أدبية تروي الكثير عنه وعن ما عاصره، تراه أدباً صادقاً للغاية، بما يحتويه من تساؤلات، إحباط، وسرد للذات البشرية من دون تكلف، فاليوميات تعري الإنسان. ولا تعلم ليلى إن كانت ستنشر هذا النوع من الأدب، لكنها تعرف الكثير من الكتاب بدأوا بكتابة اليوميات أثناء فترة الجائحة، ليوثقوا كل ما يحصل في العالم، لأنه ربما في المستقبل نحتاج لإرث أدبي يسرد مشاعر الخوف والقلق والعزلة الإجبارية التي عشناها وتجاوزناها.

وتقول: «بعضهم يبدأ في كتابة اليوميات بعد الأربعين، لاعتقاده أن ما سيحدث لاحقاً مهم جداً وعليه توثيقه. ولكنهم كتبوا هذه اليوميات للقراء، وهذا أمر مختلف، أما من قرأنا يومياتهم الرائعة فقد كتبوها لأنهم ربما توقعوا ألا يقرأها أحد، فكانت حقيقية للغاية، أو كانت رسالة وداع طويلة لشخص محدد عندما كان الخطر على الأبواب مثل آنا فرانك. مدى أهمية اليوميات لا تحدد وفقاً لزمنها الحالي الذي كُتبت فيه، أهميتها تحدد من قبل الأجيال القادمة. مثل ألواح سومر التي كانت لطالب يسرد يومياته وهي تعود لما يقارب ٢٠٠٠ ق.م وشكلت مادة أدبية وتاريخية، نتعرف من خلالها على عالم انتهى ولم يبق منه إلا بعض كلمات نُقشت على الحجر».

ذات الكاتب

الكاتب العماني يحيى سلام المنذري يكتب يومياته وقت الحنين إليها، ووقت تذكرها، كأيام الطفولة والمراهقة وما صاحبها من أحداث ومشاهد، ولكنه لا يسردها مباشرة كيوميات أو سيرة ذاتية، بل يستثمرها في الاشتغال على نص قصصي قصير. ودائماً ما يندم على عدم تدوينه لحكايات وأحداث يومياته وخاصة تلك المتعلقة بالسفر والرحلات لأنها حتما ستكون ذات فائدة لنصوص سردية. وكثيراً ما راودته أمنية الالتزام بكتابتها، يحاول، لكنه يفشل، فقط يسترجعها لاحقاً، ولكن قد تغيب بعض التفاصيل، فالذاكرة لا تسعف كثيراً.

يرى يحيى سلام أن الكاتب إذا التزم بكتابة يومياته وعمل على توثيقها ونشرها بأسلوب فني رفيع، وبالهيئة الأدبية المناسبة سواء أكانت نصاً سردياً أو سيرة ذاتية أو مقالاً أو حتى قصيدة، فهو بذلك يترك أثراً ثميناً في حقل الإبداع. يقول: «اليوميات مرتبطة بذات الكاتب، يعترف من خلالها عن رؤاه وأفكاره تجاه حياته وتجاه بيئته ومن حوله من أشخاص، فهو يعبر عنها ويسجلها لأهداف مختلفة كتوثيق أحداث هامة مرت به، أو أحداث أثرت فيه وفي محيطه، ويسردها في قالب أدبي كمذكرات أميرة عربية لسالمة بنت سعيد، وكتاب «متشرداً في باريس ولندن» لجورج أورويل، وأصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ التي كتبها بأسلوب غير مباشر».

وبحسب يحيى قد يكتب عن الكاتب كاتبٌ آخر قريب إليه وأحد معاصريه كمذكرات آنا غريغوريفنا عن زوجها الكاتب دستويفسكي، وهناك أيضاً أدب الرسائل بين كاتبين كما حدث في كتاب «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان»، وكتاب «رسائل مختومة بطابع المسرة» لجورج سيمونون وفيلليني. يقول: «نستطيع القول بأن كل ما سبق من أمثلة هي أشكال مختلفة من اليوميات وسير الكتاب والمشاهير، تكشف عن شخصياتهم وحياتهم الخاصة وبعض من أسرارهم، وتكون مواد دسمة للقراءة والتحليل والنقد».

فن صياغة الإنسان

رغم الطابع الخاصّ والفريد لأدب اليوميات إلا أن الكاتبة التونسية هدى الهرمي لم تفكّر يوماً في خوض غمار هذه التجربة، وتعتقد أنها غير مستعدة الآن للكشف عن أغوار نفسها ورصد بعض الأحداث والتجارب اليومية الخاصّة دون تكلّف أو قيود.

أدب اليوميات بحسب هدى هو فنّ صياغة العالم الإبداعي والإنساني الحميم بجرأة وشفافية وحريّة أيضاً، لأنه ضرب من توثيق الحياة الشخصية. لذلك تحتاج كتابة اليوميات إلى الشجاعة والصدق وعدم الحذر من العواقب، بغضّ النظر عن الصياغة الأدبية والأسلوب الفنيّ. وقد يلجأ الكاتب إلى هذا النوع الأدبي لتدوين أفكاره ورصد انفعالاته النفسية والبوح بمكنوناته، لأنها كتابة حرّة تخوّل له الانعتاق من الحواجز اللغوية ومن الاستعراض الأدبي المنمق، وهذا أشبه بالأداء الذاتي المختلف وغير المشروط لسرد الحياة بيقين الواقع.

ترى هدى أن أبرز نموذج عربي في كتابة اليوميات هو الكاتب والمفكّر والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني، ومن النماذج الفريدة والمفحمة أيضاً، يوميات الشاعرة والروائية الأمريكية سيلفيا بلاث صاحبة «الناقوس الزجاجي»، وقد كتبت يومياتها بين عام 1950-1962 لتكشف عن عمق الهوّة التي تفصلها عن الحياة ومدى صراعها مع الذات.

الرحلات الطويلة

الكاتب السوداني طارق الطيب كتب قبل ٣٨ سنة شيئاً مشابهاً لليوميات في بداية إقامته في فيينا، لكنها كانت تتضمن الكثير من الكآبة والأحوال المباشرة والصعبة. فكانت في كل استعادة تبعث على التشاؤم، لذا توقف، ولعلَّه كما يقول أحسن لنفسه بهذا التصرف.

في بعض رحلاته الطويلة نسبياً كتب كذلك بعض اليوميات، ومنها رحلة أدبية إلى السودان لمدة شهر كامل في ٢٠١٢، كما كتب ملاحظات حول ما يراه ويعيشه يومياً في رحلة أدبية أخرى إلى أمريكا دامت ثلاثة أشهر ضمن برنامج الكتابة العالمي الذي دُعي إليه في «أيوا سيتي». لكنه لم يرجع إلى هذه اليوميات حتى اليوم.

كتابة اليوميات يراها الطيب نوعاً أدبياً مقبولاً وملهماً إذا تناول موضوعاً مبتكراً ولو على مستوى الأحاسيس الفريدة التي تنتاب الشخص وتواجهه وتوجهه. يقول: «من وجهة نظري تحتاج اليوميات أيضاً إلى عدم الحشو في الكتابة أو سطحية التناول أو الابتذال».

وبحسب الطيب ربما يلجأ الكاتب إلى تدوين اليوميات في الفترات الحرجة أو الموجعة من الحياة، وهي الأوْلى بكتابة هذا النوع من الأدب. اليوميات تتطلب كتابة أحداث حقيقية أو تأويلات يرى كاتبها أنها صادقة ومؤثرة في وجدانه، وبالتأكيد يمكن الحكم على شخصية الكاتب من اليوميات بشرط ألا يدّعي أو يبالغ أو يكذب، وحسب تناول موضوع اليوميات، يمكن اعتبارها نوعاً من الاعتراف أو اعتبارها شهادة على فترة من عصره.

صورتك في مجتمع غريب

جرَّب الكاتب الفلسطيني بشير شلش على مدى العقود الثلاثة الأخيرة أكثر من مرة أن يلتزم بتدوينة يومية لكنه لم يستطع الصمود طويلاً. في المرة الأولى، كان مراهقًا بأحلام أدبية وفنية عريضة، ينفتح أمامه باب تشجيع وتترك قصائده أثراً لدى من يقرأها، ثم لاحقاً في الجامعة وفي برلين تحديداً عاد إلى تدوين هواجس وخربشات يومية، كان الدافع هو الدهشة من العالم الذي وجد نفسه مفتوناً به، إذ لقي نفسه محاطاً بلغة جديدة ومجتمع جديد وواقع يجعله تحت الانكشاف الكامل للآخر الألماني، وفي فترة لاحقة أيضاً، بعد الانفصال واضطراره لمغادرة بيته في حيفا، والابتعاد الإجباري عن طفليه، وجد نفسه يسجل بعض المواقف والذكريات التي لم يكن قادراً على استيعابها والتعامل معها. هكذا كان اللجوء لتدوين اليوميات بالنسبة له في توقيتات تشكل بداية مراحل جديدة ومفصلية في حياته.

يقول: «تُكتب اليوميات في الغالب من أجل ألا تُنشر، أو من أجل ألا تُنشر في حياة صاحبها، ولهذا السبب تحديداً، تبدو كأنها نشاط حميمي شخصي بين الكاتب ونفسه، ما يعطيها قدراً من الصراحة والمباشرة، ويحوّلها من هواجس فردية إلى نوع من الوثيقة التاريخية لا سيّما أن هناك كتاباً يواظبون على مدى عشرات السنوات على كتابة يومياتهم دون أن ينشروا منها شيئاً.

والكاتب الذي يلجأ لكتابة يومياته يقوم بشكل واعٍ وحميمي بتدوين حر لأسئلة عالمه الداخلي وهواجسه الإبداعية، ويكون بطبيعة الحال أكثر حرية وانطلاقاً في هذه التدوينات من عالمه الأدبي المعلن، وقد يلجأ الكاتب لهذه التقنية إما في مراحل صعبة من الحياة، في الحروب والمجاعات والأوبئة مثلاً، أو بعد تعرضه لأحداث شخصية جسيمة، مثل الفقدان والحب، أو بفعل العادة، إذ ثمة كتّاب يعودون بين فترة وأخرى للعمل على تحرير يومياتهم واستغلالها في نصوص سردية وروايات».

في الأدب العالمي قرأ بشير شلش يوميات أغلب الكتاب لا سيما الذين صاروا لاحقاً مكرسين ومشهورين بفعل تحققهم الأدبي، عربياً أيضاً، اطلع على أغلب ما نشر من يوميات سواء لكتاب وفنانين أو لشخصيات سياسية عامة، ومؤخراً عمل على تحرير يوميات الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني التي كتبها بين 1959-1965 أثناء إقامته في الكويت: «اللافت فيها أن كثيراً من قصص غسان التي ظهرت لاحقاً ضمن أعماله القصصية كانت بذورها موجودة في هذه اليوميات، التي نشرتها مجلة الكرمل في عددها الثاني عام 1982، قبل اجتياح بيروت وسرقة دفتر اليوميات نفسه من مركز الأبحاث الفلسطيني حيث نهبت إسرائيل محتوياته ونقلتها إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية في القدس».

مَنْ أَنا لأقول لكمْ

في بداية العشرينات من عمر الكاتب المصري إبراهيم المطولي داوم على كتابة يومياته لمدة سنتين وكانت أغلبها مشاهد من المستشفى الحكومي، حيث عمله اليومي الطويل. يقول: «كان يشغلني وقتها معاناة المرضى، التي نعتادها بعد ذلك فلا نحسها، والجميلات من الزميلات. بعد ذلك توقفت عن الكتابة بدوافع عديدة، أولها يفسره بشدة قول درويش: «مَنْ أَنا لأقول لكمْ ما أَقول لكمْ؟» ومصارحتي لنفسي أني لا أستطيع أن أكون صريحاً تماماً حتى لو كنت أكتب لذاتي. فنحن نحتاج أن نخدع ونكذب على أنفسنا أحياناً تحقيقاً لسلامنا النفسي. أنا أتشكك بالأساس أن تكون اليوميات نوعاً من أنواع الكتابة الإبداعية، لأنها عكس جوهر الكتابة الأدبية التي تحتاج إلى تأمل وبحث وإعادة كتابة عدد مفتوح من المرات. أما كتابة اليوميات فهي سريعة وآنية وتسجل الحدث بلا تحليل. ربما يلجأ لها البعض نتيجة عدم القدرة على الكتابة الحقيقية، أو كعلاج، فالكتابة الشخصية نوع من الخلاص».

ويرى المطولي أنه في الغرب يمكن الحكم على الكاتب من اليوميات، حيث القيم مختلفة والعلاقات الإنسانية يُنظر لها بشكل مختلف، فيكون للكاتب مساحات واسعة من الفضفضة التي لا يتمتع بها الكاتب العربي الذي يخشى نقمة المجتمع عليه وحتى لو كانت لديه القوة والجرأة لأن يتجاهل المجتمع فهو يقع غالباً تحت ضغط عائلته وأصدقائه.

حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري