No Image
عمان الثقافي

فنُّ المقامات: بلاغة الظهور وأسئلة الأفول

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

مرَّتْ بالأدب العربي طوال فتراته الزمنية أجناسٌ أدبية مختلفة، شعراً ونثراً، منها ما استفاد من غيره واستمرّ في التعبير والإنتاج، ومنها ما ظهر واندثر وظل تاريخاً يُسجَّلُ في قائمة الأجناس الأدبية التي عرفها الناس وترنّموا بها في عصورهم المختلفة.

إنّ التحديث في شكل ومضمون الأجناس الأدبية واقعٌ وحتمي؛ لا سيما في التغيرات التي تشهدها في العصور الأدبية، والانفتاح الحاصل على الأمم والثقافات الأخرى، فالناظر في الشعر العربي مثالاً يجد تحولاً كبيراً في مضمونه الشعري من عصر إلى آخر، فالانتقال الحاصل في موضوعاته من العصر الجاهلي إلى الإسلامي ومن ثم الأموي والعباسي والعصور المتأخرة بظهور موضوعات واختفاء أخرى وصولا إلى الأشكال المعاصرة في الكتابة الشعرية يدل على ارتباط الآداب بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية الخارجية، الأمر نفسه في النثر والانتقال من فنون الخطابة وسجع الكهان في العصر الجاهلي إلى الخطابة في العصر الإسلامي حين رافقت الفتوحات الإسلامية وتغيّرت خصائصها اللفظية، ومن ثم فنون التوقيعات والرسائل وبعدها المقامات، كل ذلك يدل على تغييرات أدبية في خارطة الأدب العربي ظهوراً واختفاءً، ولعل المتغيرات المختلفة تتحكم بطبيعة هذا الظهور والاختفاء.

ويُعدُّ فنُّ المقامات من أهم الفنون الأدبية التي ظهرت في الأدب العربي ثم اختفت. لقد ظهر هذا الفنُّ في القرن الرابع الهجري عند مؤسسه بديع الزمان الهمذاني، ثم ظهر عند غيره من الأدباء من مثل الحريري والسيوطي وآخرين من الذين رأوا في المقامات فنّاً بلاغياً محكمَ الصنع، ونصاً لغوياً بديعَ الأثر، وموضوعاً إبداعياً يتقوّى بالشعر والحكم والأمثال والفوائد التاريخية والجغرافية، لكنه سرعان ما اختفى تاركاً أسئلة عامة عن هذا الاختفاء والأفول، مثلما أثار الظهور الأول أسئلة منطقية في النشأة وأسبابها.

النشأة والتأسيس

عرف النثر العربي في العصر العباسي حركة ازدهار كبيرة، واكبها ظهورُ كُتّابٍ لهم إسهاماتهم الأدبية في النثر العربي، لعل أبرزهم الجاحظ، وابن المقفع، والثعالبي، وابن العميد، والأصفهاني وغيرهم ممن نوّعوا في الأساليب الكتابية النثرية، واستحدثوا موضوعات جديدة تناولت صورة المجتمع والحياة والناس، ومن هذه الموضوعات ما جاء به الهمذاني في فن المقامات التي كتبها في إحدى وخمسين مقامة، قائمة على الكُدية والاحتيال في أكثرها بهدف تعليمي يظهر باستنباط الأمثلة والحكم المستفادة من القصص والحوادث التي أتى بها بطل مقاماته أبو الفتح الأسكندري على لسان راويها عيسى بن هشام.

يتناول شوقي ضيف الانتقال الزمني في تعريف لفظة المقامات منذ العصر الجاهلي(1) التي جاءت بمعنى المجلس أو مَنْ يكونون فيه، وفي العصر الإسلامي استُعملَتْ بمعنى المجلس يقوم فيه شخص بين يدي خليفة أو غيره ويتحدث واعظاً، إلى أن تصل إلى استعمالها بعد ذلك بمعنى المحاضرة.

ورغم اختلاف المراجع الأدبية في تأثّر الهمذاني في مقاماته بابن دريد وأحاديثه الواردة في أماليه، أو أنّ الهمذاني أخذ فكرتها من أستاذه ابن فارس الذي ينسب له مقامة مفقودة بعنوان «المقامة الطيبية»(2) فإنّ شوقي ضيف يؤكد على أنّ «بديع الزمان الهمذاني هو أول من أعطى كلمة مقامة معناها الاصطلاحي بين الأدباء، إذ عبّر بها عن مقاماته المعروفة وهي جميعها تصور أحاديث تُلقى في جماعات، فكلمة مقامة عنده قريبة المعنى من كلمة حديث».(3)

إنّ الحديث عن الريادة في وضع هذا الفن حديثٌ طويلٌ قائمٌ على اعتبارات عدة، وقراءات تاريخية لم تستند إلى مراجع معتبرة يمكن التأكيد عليها، ويبقى رأي شوقي ضيف قوياً ومعتبراً وأقرب إلى الدقة التاريخية كون المصطلح الذي أتى به الهمذاني هو أقرب إلى فكرة المقامات بابتعادها عن الأحاديث أو القصص كونها تهتم بالأسلوب والبلاغة اللفظية أكثر من اهتمامها بالسرد القصصي. ومع ذلك فإن شوقي ضيف لم ينفِ أن يكون الهمذاني قد استفاد فعلا من الجاحظ أو من ابن دريد في تطوير فن المقامة وإخراجها بالشكل الذي يقصده، يقول شوقي ضيف: «إننا نظن أنّ البديع [الهمذاني] قد استوحى في عمله ما كتبه الجاحظ وقَصَّهُ عن أهل الكُدية، كما استوحى في عمله أيضا ما كتبه ابن دريد من أحاديثه المعروفة في كتاب الأمالي، فهو قد اطّلع على العملين ومن غير شك يعلو في التأثير فيه العمل الأول على العمل الثاني، فابن دريد وجّهه ليكتب أحاديث تعليمية أي أنه أثّر فيه من جهة الشكل، أما الجاحظ فأثّر فيه من جهة الموضوع، إذ جعله يدير أحاديثه أو مقاماته على الكدية».(4)

إنّ الظهور المفاجئ لهذا الجنس الأدبي أحدث إشكاليات في تحديد موضع الريادة، وأسباب النشأة، والتعامل مع الأسلوب الحكائي الذي رافق المقامة بدءاً من الراوي والبطل والغرض أو الهدف منها. فهل لنشوء المقامات في الأدب العربي عوامل سياسية معينة أم إن الجانب التعليمي فعلا كان هو الدافع الرئيس لاستحداث هذا الفن؟

يشير أغلب النقاد أن الهدف الرئيس من فن المقامات هو تعليمي بحت، لاسيما أنّ الهمذاني كان قائماً على مهنة التعليم، ومع ذلك فإنّ المقامات لم تخلُ من إظهار البراعة اللغوية والبلاغية، وتغليب جانب الفصاحة، لا سيما في عصر برز فيه الاهتمام بأشكال الكتابة البديعة وتزيينها، فكان لابد أن يؤتى بفن يوازي هذه الأشكال ويفوقها براعة وقوة وجودة. ومع ذلك أيضاً فإنه يمكن لنا الربط بين نشأة المقامات وبين العامل السياسي؛ وذلك لارتباط كُتّاب المقامات بالخلفاء ومجالسهم، لا سيما وأنّ الخلفاء صاروا يميلون في هذا العصر إلى مجالس النثر ومسامراتهم وإظهار بلاغتهم الأدبية، كما برزت حاجة الكُتاب إلى الخلفاء للتزود من معين كتبهم. إنّ ظهور مثل هذا الفن قد يكون له علاقة وثيقة بين الطرفين في النشأة والتكوين، فهذا الهمذاني على سبيل المثال قد «ترك همذان إلى حضرة الصاحب بن عبّاد فتزوّد من آثاره وحسن ثماره»،(5) ويُذكرُ أيضا أنه لما كتب الحريري المقامة الحرامية «وتناقلها الناس، وشاع ذكرها ومدحها، بلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر القاشاني وزير المسترشد بالله فدعاه إليه وطلب منه أن يضم إليها غيرها، فأتمها إلى خمسين مقامة. وهنالك رواية أخرى تقول إنّ الحريري قد صنّف مقاماته للوزير جلال الدين عميد الدولة علي بن صدقة وهو وزير المسترشد، ذلك لأنه عثر على نسخة مخطوطة من مقامات الحريري، وهي بخط مصنفها، وقد دون عليهم أنها مهداة إلى الوزير المذكور».(6)

ومع ذلك فإنّ ارتباط كُتّاب المقامات بالخلفاء والحكام لا يمكن قراءته بعيداً عن المشهد الثقافي في ذلك العصر، فارتباط الحكام والخلفاء بالشعراء مثلا وطيد وقديم، وتشجيعهم للشعراء أضاف لمحة أدبية على فترة خلافتهم في التاريخ. لكنّ حنّا الفاخوري يقدّم رأياً مهماً في نشأة المقامات، وهو رأي يعود من خلاله إلى المجتمع والحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية التي عليها البلاد في تلك الفترة، يقول الفاخوري: «إنّ المقامة ثمرة تيارين في الأدب العربي: تيار أدب الحرمان والتسول الذي انتشر في القرن الرابع للهجرة، وتيار أدب الصنعة الذي بلغ به المترسلون مبلغاً بعيداً من التأنق والتعقيد».(7) كما أنه رجح تأثر الهمذاني بالحياة الاجتماعية في إنشاء المقامات، يقول: «كما نستطيع أن نقول إن البديع هذا لم يكن متأثراً حين أنشأ هذه المقامات بأحد من الكُتّاب الذين سبقوه، وإنما كان متأثراً بواقع الحياة العامة: بالبؤس والحرمان والإملاق، تلك الظواهر الاجتماعية التي حملت كثيراً من الناس على التكدي والتسول بمختلف الوسائل والحيل».(8)

من المضمون إلى الأفول

كانت نشأة المقامات حدثاً كتابياً مهماً في الأدب العربي؛ لما تميّزت به من بلاغة في القول، وفكاهة في القصة، وفائدة وعبرة من نهايتها وهو ما لم يكن معروفاً بهذه الصورة من قبل، لكنّ أفول هذا الجنس الكتابي بعد ازدهاره أثار أسئلة متعلقة بهذا الأفول، مع أن الكتابة في فن المقامات ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا دون أنْ ننكر أنّ بريق هذا الجنس قد خَفَتَ مع مرور الوقت، ولعل ذلك -في رأيي- راجع إلى عدّة أسباب يمكن إجمالها فيما يلي:

أولا: قد يكون للغموض في مفردات بعض المقامات دورٌ في صرف الكُتّاب عن الإتيان بما يوازي المقامات عند الهمذاني والحريري وغيرهما، وقد أشار الباحث جرير أبو حيدر إلى أنّ العائق الأكبر في وجه انتشار فن المقامات هو «صعوبة طبيعة المقامات وغموضها؛ فقد كُتبت بنثر مسجوع مما أدى إلى التضحية بالمعنى وإلى الغموض من أجل الشكل والجرس، ناهيك عن الأحجيات القواعدية واللغوية، واستعجال المرادفات».(9) هذه الصعوبة قد تكون سبباً في عجز كثير من الكُتّاب عن الإتيان بمثل هذه المقامات التي تقوم في جوهرها على الاشتغال على عناصر محددة في كتابتها، لا سيما وأنّ «إتقان كتابة المقامة يحتاج لموهبة لغوية، وذاكرة غنية بالحكم والأمثال والأشعار، بالإضافة إلى أذن موسيقية لتزاوج بين الجمل المتتالية، وتأتي بسجع مقبول بعيد عن التكلف».(10)

ثانيا: خفوت قيمة الكاتب القادر على الإتيان بفصاحة وبلاغة المقامات، إذ إنها في الأصل مجاراة بلاغية ولغوية نثرية تُظهر قيمة الكاتب وما يُقدّمه، لذا فإنه ببروز مثل هؤلاء الكُتّاب وإظهار مَلَكتهم الأدبية والبلاغية واللغوية تظهر القيمة الفنية لهذا الجنس الأدبي.

ثالثا: على ذلك يمكن القول إن معيار الفصاحة والبلاغة والكتابة الأدبية متذبذب من عصر إلى آخر، فما نجده بعد العصر العباسي من انحدار في طرائق الكتابة وأساليبها الإبداعية له دور في أفول وضعف بعض الأجناس الأدبية، مثلما هو معلوم في الشعر على سبيل المثال في العصور التي تلت العصر العباسي.

رابعا: يمكن إضافة غياب عنصر التحفيز والتشجيع في الكتابة والتأليف من قبل المؤسسة الرسمية، مثل الخلفاء والحكام والوزراء في زمن الهمذاني وكُتّاب المقامات الآخرين، وهو سبب كافٍ ومؤشر على قيمة الارتباط بين المؤسستين الرسمية والإبداعية.

خامسا: ينبغي الإشارة أيضا إلى أنّ الموضوعات التي طرقتها المقامات عند الهمذاني والحريري على سبيل المثال موضوعات فريدة في تناولها، فبالإضافة إلى موضوع الكدية والتسول والحيلة ظهرت موضوعات تمس المجتمع وتنقل صورته الاجتماعية، إضافة إلى موضوعات أخرى نجدها تتناول جوانب نقدية ودينية وتعليمية ووصفية وجغرافية، هذا النقل لصورة المجتمع كان شائعا في أكثر من مصدر في الأدب العربي نجده مثلا عند الجاحظ في البخلاء وعند غيره ممن نقلوا لنا المجتمع العباسي، لكن ابتعاد الكُتاب بعد ذلك عن نقل صورة المجتمع لأسباب كثيرة ومختلفة مثلما فعل أصحاب المقامات، لم يمنحهم فرصة بناء نص مشابه لما جاءت به المقامات.

أضف إلى ذلك أنّ موضوع الكدية والحيلة موضوع حسّاس في تناوله يحتاج إلى دقةٍ في النقل والتعبير عنه والتخيل فيه، وربما نجح الهمذاني والحريري في الكتابة عنه ووصفه لمعايشتهم الواقع، وملامستهم حاجات الناس، والوقوف على الصورة الحية للمجتمع، لكنِ اللاحقون آثروا عدم الخوض فيه، والابتعاد عن مجاريه وسُبُله.

لقد تصدّر فنُّ المقامات عند نشأته واجهةَ الكتابة النثرية؛ إذ رسم صورة واضحة عن قيمة الكتابة الأدبية المتمثّلة في البلاغة والفصاحة وثورة اللغة وثقافة المؤلف في ذلك العصر، ولعلها قيمة مشتركة بين الأدب والأديب أيضا، وصورة للمجالس التي كانت تُعقد، والمدن التي يمكن تخيّلها في النصوص، وهو ما لم نجده بمثل هذه الصورة في الشعر على أقل تقدير؛ لذا تجلّت القيمة الأدبية للمقامات في أمرين اثنين: الأول في رسم صورة بلاغية أدبية لهذا الفن وتجويد الصورة الفنية للكتابة الأدبية، والآخر في النهوض بهذا الفن الأدبي كونه جنسأ يجاري الأجناس الأخرى ويرتفع إلى مصافها، وهو ما دفع اللاحقون في تقليد السابقين في كتابته رغم أفول نجمه الأدبي، وانحسار البلاغة على مر العصور.

وهنا ظلّت المقامات -رغم أفولها التاريخي- تُشكّل ظاهرة في تاريخ الأدب العربي، من كونها ظاهرة فريدة النشأة والتكوين والريادة والهدف، إلى كونها جنساً يقدّم أسئلة في مضمون الاختفاء وعدم تطور مضامين الكتابة فيها، ومدى اقترانها بعصر معين أو كُتّابٍ معينين وببلاغتهم وثقافتهم الواسعة. ومع ذلك ستظل المقامات من النصوص التي رفدت الأدب العربي برصيد هائل من الفوائد الجمالية والبلاغية والأدبية والتاريخية في محاولة كبرى للبحث في خطابها الأدبي والبلاغي واللغوي.

خالد بن علي المعمري أكاديمي وشاعر عماني