No Image
عمان الثقافي

فرط الحركة

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

«أذيه وين بنية..»، هكذا كانت جدتي عزة بنت سعود تبدأ حكاياتها، وأذيه عندنا تعني هذه وبنية تعني بنت، أما «وين» وتنطق أحيانا «أوين» فيقصد بها تهيئة المتلقي، بكل ما تعنيه من إضمار للتخلي عن المسؤولية.

هي تهيئة وتواطؤ بين الجدة وأحفادها، بين القاص وحلقة المستمعين، بين الكاتب وقرائه، بين شهرزاد والعالم وبيني وبينكم الآن.

مسافة العزلة

في كل مكتبة هناك رف بعيد، رف لا تطاله الأيدي ولا يجب لها، رف توضع عليه تلك الكتب الممنوعة، وعلى رف عال في مكتبة أبي اصطفت بوقار ستة مجلدات من ألف ليلة وليلة.

تلك المسافة بين المخلوق الأرضي القصير والرف الذي بدا وكأنه علق على شرفة من شرفات السماء، جعلت الطفلة المفرطة في حركتها تقف لدقائق، وتحاول بعينيها بلوغ ذلك الرف، إذ إن أباها أخبرها أن ألف ليلة وليلة كتاب سحري، يعيد كتابة نفسه كل ليلة، وأن عليها أن تكون في مثل سنه حتى يتسنى لها الاطلاع على ذلك السحر.

لم تكن الطفلة تعرف عمر والدها، ولم تكن تعي الممنوع ولا تدرك ما لألف ليلة من سلطة على القراء والكتاب وكارهي النساء ومحبيهن في الوقت نفسه، لكنها تلك المسافة، وعجزها عن أن تطال ما يطوله الآخرون أو أن تقرأ كما يفعلون، ما جعلها تتوقف تلك الدقائق القصيرة عن ملاحقة ثوب أمها.

في الخامسة من عمرها قرر أبوها أن الوقت قد آن لدخول المدرسة والنجاة من مهالك الخطوات الذاهبة بلا هدف، وهكذا سلمتها أمها لـ «أم عايدة» معلمة القرآن أمام مبنى الإرسالية الأمريكية، بعينين تفيضان بالدموع وبخوف لا شفاء منه.

لم تأخذها المعلمة في حضنها، ولم تطبطب عليها، بل أمسكت بكفها وقادتها بحزم إلى غرفة الدرس الصغيرة، التي اكتشفت فيها الأطفال الآخرين واخترعت في نفس الوقت عزلتها الخاصة.

لم يرحب بها أحد، هي التلميذة المتأخرة عن بداية العام الدراسي والفائضة عن العدد، والتي لا تربطها بأي أحد منهم وشيجة أو صلة أو جيرة، هي الغريبة في تلك اللحظة وهي الغريبة دائما، ولهنيهة خطر في بالها أنها غير محبوبة وأنه قد تم التخلي عنها وإلى الأبد، وكان بإمكانها أن تبكي، فلقد رأت أطفالا يبكون بلا أسباب بينما بدا لها أنها ستبكي للسبب الأهم، ورغم أنها لم تعرفه إلا أنها أحست به يتضخم في قلبها حتى كاد أن يصل إلى حلقومها وينفجر.

لم تحب الأطفال الآخرين ولا الفسحة ولا الألعاب التي لم تكن لها، فصارت تتسلق السدرة الوارفة أقصى الحوش وتجلس لتراقبهم من علٍ، وتتخيل أن لكل واحد منهم أمًّا، أبًا، بيتًا، إخوة وألعابًا وحزنًا يخصه.

فخذ الدجاجة

بعد سنوات وكانت البنت في الصف السادس قرر أبوها أن يصطحب العائلة إلى صلالة، ولأنه كان موظفا في الدولة فقد خصص له بيتا في حي الشاطئ، وطاقم سفرجية لا يكفون عن غرف الطعام في الصحون، ثم الوقوف في خلفية المشهد، وكحرس الثكنات، كانوا دائما في حالة ترصد لأي حالة هروب، أو لأي كأس ماء يفرغ منه مقدار شفة.

وفي يوم خريفي مشغول برقة الرذاذ، وقد عاد الجميع من رحلة في سفح أتين، جلست البنت وأسرتها إلى طاولة الغداء، ووضع السفرجي على صحنها، قطعة دجاج وخضروات مطهية على البخار ومقدارًا من البطاطا المهروسة.

كان كل ما عليها فعله أن تلتقط الشوكة والسكين وتبدأ بفصل اللحم عن العظم، وهي لم تفعل ذلك من قبل، على الأقل ليس مع فخذ الدجاجة الذي يبدو تقطيعه أصعب من عملية تغيير الشريان الأورطي، وأصابعها هي كل أدوات المائدة التي اعتادت استخدامها، لكنها كانت مضطرة لذلك فهناك أبوها وهناك سفرجي في خلفية المشهد.

لذا حاولت أن تقلد حركة يدي أبيها الرشيقة وهي تتعامل مع تلك الأدوات الباردة، إلا أن التقليد لم يكن موفقا فطارت الدجاجة فجأة من الصحن لتحل في حضنها لثوان ثم لتنزلق إلى الأرضية تحتها، حينها تقدم السفرجي والتقط فخذ الدجاجة بحركة ميكانيكية وغادر.

كانت محرجة بما فيه الكفاية، وإخوتها الكبار حاولوا كتم ضحكاتهم، فألقت شوكتها وسكينها على الصحن، أحدث ذلك رنينًا حادًّا كما هو متوقع، فرفع أبوها رأسه ورمقها بتلك النظرة التي تعرفها، والتي تجعلها تتضاءل في مكانها حتى تكاد تختفي.

بعد الغداء ذهب أبوها إلى قيلولته وذهبت هي إلى دفترها، وعبرت عن غضبها بكتابة رسالة حادة، ثم تركتها عند التلفاز، حيث تعرف أنه سيجدها، وفعلا وجدها، وعلق متجاهلا غضب رسالتها، «خطش زين».

بيت وأطفال

لم أرد أن أكون كاتبة، في الحقيقة لم أعرف أن هناك من يريد ذلك فعلا، فبالنسبة للطفلة تكتب الكتب نفسها، وأظن أني ما زلت مؤمنة بذلك نوعا ما، رغم أني أنفقت أكثر من ربع عمري جالسة على الكرسي وأنا أحاول أن أكتب شيئا يقولني.

نعم أيها الأصدقاء تكتب الكتب نفسها، وعلي أنا كقارئة أن أقرأها، ثم على كل تلك الكلمات أن تجد لنفسها نسقا ما في إدراكي، حتى أستطيع أن أرى العالم وأن أفهمه أو فقط لكي يخاطبني بلغة يستدل عليها قلبي ويفهمها.

لم أرد أن أكون كاتبة، لم يكن ذلك طموحي، فلقد تمنيت دائما أن يكون لي بيت وأطفال، ولكن لأن الله رحيم وكريم، فقد منحني بيتا وأطفالا وكتبا، البيت والأطفال لأنه يعرف أن قلبي يفيض، والكتب لأنه يعرف بأن الكتابة هي الخيار الأول في المفاضلة بينها وبين الجنون.

صرصار

لأسباب لا يعلمها إلا الله وجدت البنت الغارقة في القراءة طريقها إلى تدوين مشاعرها، كانت تفعل ذلك كي تنجو من أشياء كثيرة أهمها الحزن، لكنها ما تخيلت أنها في يوم من الأيام ستكتب وستنشر أول قصة لها بسبب صرصار تسلل إلى حوض استحمامها وقتلته بدم بارد.

ولم تتوقع أن تلك القصة التي نشرت في جريدة الوطن في مايو ١٩٩٦ ولم تنشر في أي مجموعة قصصية، سيتوالد من ورطة حدوثها، ثلاث مجموعات قصصية «رفرفة»، و«صائد الفراشات الحزين» و«حبيب رمان»، و«غبار» التي ستحتار دائما في تصنيفها رغم أنها قد تكون الأقرب إلى قلبها، ولم تتخيل أيضا أنها ستصدر كتابين شعريين «مظلة الحب والضحك» ثم وبعد سنوات «ما الذي ينقصنا لنصبح بيتا؟».

فرس حرون

في الابتدائية قرأت الطفلة «ديفيد كوبرفيلد» و«أحدب نوتردام» و«الزنبقة السوداء» و«قصة مدينتين» و«البؤساء» و«مرتفعات ويذرينغ» و«الكونت دي مونت كريست»، و«كوخ العم توم»، وغيرها من روائع الأدب الكلاسيكي في طبعات مختصرة للناشئة، وكان ذلك العالم البعيد المتكامل الذي شكلته الكلمات، تلك الحياة بتلونها وتفاصيلها وآلامها وأشواقها، هو ما تريد وإن لم تدرك ذلك.

تعرف أنها تجيد كتابة القصة القصيرة المكثفة لكن قلبها كان يريد كتابة الرواية، إلا أن الرواية فرس برية حرون، فلقد حاولت غير مرة وفشلت، لكن صار لزاما عليها أن تتعلم ترويضها، وقبل ذلك عليها تعلم الصبر، وأن تكرس عنادها لمغالبة تقلب مزاجها، والأهم الجلوس لمدد طويلة، متجاهلة خلخال الحركة الذي يرن في كاحلها باستمرار.

أخذ ذلك تدريبا طويلا، دروسا في التأمل، حضور ورش للكتابة الإبداعية، قراءة كتب نقدية عن فن الرواية، الغرق لأشهر في بحث مضن لاستحضار تاريخ عمان الحديث، وأيضا الكثير الكثير من المقابلات الميدانية.

أفادتها نزعتها للكذب التي صقلتها القصة القصيرة بلا شك، لكنها اكتشفت أن ما ينقصها في الحقيقة كانت الجرأة، الجرأة على القول، الجرأة على الاقتراب من مكانها الأثير وأن تحكم بنائه كي تمنعه من التساقط على رأسها، كانت تعرف أنه إما أن يزهر باغها وإما أن يصاب قلبها بالتصحر، فلا قصة قصيرة ولا شعر، لا سرد ولا نثر سيتدفق من قلبها إن فشلت.

جلست البنت للكتابة، وبعد نجاح الباغ بسنوات قصيرة، سُئِل أبوها عن ابنته الكاتبة فقال «آه، نعم، عندي بنت تحاول الكتابة».

الغضب

هل ما زالت بشرى تكتب عن غضب؟ غضب الطفلة المتروكة أمام مبنى الإرسالية؟ عن فخذ الدجاجة اللعين ذاك؟

هل ما زالت بشرى تكتب عن غضب العزلة والغربة وتاريخ عمان الذي تحاول تركيبه من مصادر عدة؟ أم أنها تكتب رفضها للتراتبية الاجتماعية والجندرية؟ أم أن بشرى التي تمضي مترنحة في عقدها السادس صارت أهدأ، وشعورها بالغربة والغرابة تحول إلى سكينة واستكانة لتصاريف الزمن وحكمته؟

أم أنها تكتب عن خوف، الخوف من الصرصار، الخوف من الوحدة، الخوف من أبيها، الخوف من نظرة الآخرين وتقييمهم، الخوف من الصراع الجيوسياسي، الخوف من إعادة التاريخ دورته، الخوف من فقدان الذاكرة، الخوف من المرض، الخوف على البلد، الخوف على الولد.

كانت خائفة من كل شيء، لكنها لم تكن تعرف ذلك.

مرضت ثم شفيت ثم كتبت «دلشاد»، هكذا يبدو الأمر سهلا، لكنه في الحقيقة لم يكن، فبدلشاد تجاوزت خوفها، ذلك أنها واجهت أكثر الأماكن إظلاما في داخلها، الشك في قدرتها على العودة للكتابة، الشك في صلاحيتها للحياة التي اختارتها، فقدان الذاكرة، تشتت الانتباه، اضطراب النظر، واجهتها ونجت، عرفت في «دلشاد» التصالح مع منابع الغضب أيضا وروَّضته.

لذا وبعد إعادة النظر أظن أنها لم تعد تكتب عن غضب ولا عن خوف، وإن كانا أفضل ما قد يدعيه المرء، ولكنها تكتب كي تعبر ذلك الفراغ الفاصل بين العقل والجنون دون أن تسقط وإلى ما لا نهاية من الرف العالي الذي كان أبوها يضع ألف ليلة وليلة عليه.

بشرى خلفان روائية عمانية.