No Image
عمان الثقافي

دون كيخوتة دي لا مانشا إرادة حرة أم مزيفة؟ العلاقة الملتبسة بين الحماقة والحكمة

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

«إنَّ مؤسس العصر الحديث ليس ديكارت فحسب، بل وثرفانتس. وإذ صحَّ أن الفلسفة والعلم قد نسيا وجود الإنسان، فقد تبدّى على نحوٍ شديد الوضوح أنّه مع ثرفانتس اكتمل شكل الفن الأوروبي العظيم ببحثهِ فحسب عن هذا الوجود المنسيّ».

ميلان كونديرا

ربما يكون في هذا الوصف المكثف لقيمة الكاتب الإسباني الرائد ميجيل دي سرفانتس إيجاز قوي لما يشعر به القارئ بمجرد الانتهاء ينتهي من قراءة عمله الكبير والأكثر شهرة على مر العصور ممثلا في رواية دون كيخوت، وهو النص الذي يدهشني شخصيا أنه لا يزال بكل هذه الحيوية وقوة الدلالات رغم أنه كتب منذ نحو أربعة قرون تقريبا، إذ نشر عام 1605 لأول مرة، ومع ذلك فلا يزال يدهش قراء كثر في أرجاء العالم يعيشون ظروفا وعصورا مختلفة تماما عن العصر الذي كتب فيه هذا النص.

وحينما تلتقط أنفاسك من هذا الماراثون القرائي، وتستعيد ما يمكن لذاكرتك أن تستعيده من المغامرات والمفارقات والصراعات الدموية والحماقات والضحك ثم القفز المتوالي بين الحكمة والجنون ربما يتبادر إلى ذهنك سؤال: كيف نصف دون كيشوت؟ وهل هو مجرد شخص رومانسي اختلط عليه الواقع بالخيال أم مجرد أحمق؟

لكن أعتقد أيضا أن هذا السؤال سيكون على هامش أسئلة عديدة أخرى حول أسباب الإعجاب بالنص، أو أسباب تأثيره لعلها تبدأ غالبا مع اكتشاف غرابة أطوار بطل الرواية نفسه الدون كيخوتة دي لا مانشا، أو السيد كيخادا، أو ألونسو كيخانو، وقصة أسماءه المختلفة هذه هي جزء من سياق الحكاية نفسها التي يوردها سرفانتس.

والحقيقة أن هذه الجزئية الصغيرة وحدها تقدم بعض تفسيرات ما ذكره كونديرا عن علاقة سيرفانتس بالحداثة، لأن هذه الإشارة تطرح مفهوما سرديا ثوريا يتعلق بفكرة الشك؛ بأن ما نعرفه ليس بالضرورة هو كل الحقيقة، وبأن دور الأدب هو أن يقدم لنا الأسئلة التي يطرحها الشك، وليس ما يتوهم أنه الحقيقة كما كان شأن روايات الرومانسية الفروسية التي كانت شائعة في تلك الفترة. وهذا ما يربط سرفانتس أدبيا بكانط فلسفيا على ما أرجو من فهمي لمقولة كونديرا.

بالتالي، فأي اختزال للإجابة بوصف محدد لدون كيشوت يعني في تقديري أن جوهر النص لم يصل إلينا؛ لأن دون كيخوت سيظل ملتبسا من البداية إلى النهاية، بين الحماقة والعقل، وبين الجرأة والتهور، وبين كونه قرأ روايات الفروسية قراءة حرفية واعتبرها نماذج تدريب عملية على الفروسية وبين كونه قارئ يستخلص من بطون الكتب الحكم والمعارف.

وإذا كان القارئ لن يعرف الاسم الحقيقي للبطل بشكل يقيني، لكنه سيعرف أن هذا الرجل، أيا كانت حقيقته، هو الشخص الذي اعتزل العالم ليمارس قراءة روايات الفرسان التي كانت شائعة في تلك الحقبة، واستمر في القراءة واصلا الليل بالنهار حتى اختلط عليه الواقع بالخيال ولم يعد يميز بينهما، حتى اختلت قدراته العقلية فيقرر أن يغدو فارسا مشاء، متأثرا بقراءاته الكثيفة لروايات الفرسان. فيخرج إلى البرية ليحقق العدل ويوقف المظالم ويعيد الحقوق المسلوبة لأصحابها، وينتصر للمظلومين.

وبالرغم من نبل المقصد فإن الإمكانات التي أسس عليها هذا السعي، كما يتجلى في تفاصيل السرد تعاني من وهن كبير. ومن هذا التناقض الجوهري تنبني حالة من السخرية المضمنة في النص، التي تمنح هذا الكتاب سمة أصيلة وجديدة بالنسبة لزمن كتابته، وهي الحس الساخر في تناول موضوع شديد الجدية، أو ربما مناقشة قضايا شديدة الجدية من خلال طرح ساخر. وهو في الحقيقة صياغة بديعة لشكل ملائم لمضمون يناقش العلاقة بين الحكمة والجنون.

الأمر الثاني الذي سيبدو مدهشا هو طبيعة الخيالات أو بالأحرى الضلالات التي تتجول في عقل دون كيخوتة، فكل ما يراه بعينيه، يترجمه عقله الذي يعاني من الاختلال إلى مشاهد أخرى مستلبة غالبا من ذاكرته القرائية.

فمن خلال استخدام النماذج المتضادة أو المتناقضة بين ما يتوهمه الدون كيخوتة في رأسه وبين حقيقة ما يراه في الواقع، تتأسس المفارقة التي تنبني عليها فكرة ومفهوم فن الرواية الجديدة كما نعرفها اليوم، بوصفها عملية سردية لا تقوم على نقل الواقع، وليست استطرادا للأساطير الخارقة، كما أنها ليست نصا يراكم بطولات البطل الخارق فوق بعضها البعض، بل بناء سرديا يشيده كاتبه على أسس مخاتلة الواقع للخيال ومخاتلة الخيال للواقع. يخلق من الخيال ما يبدو واقعا، ويتمثل الواقع ليجعل منه شيئا يشبه الخيال. قدم المحاولة الأدبية التي تقول أن الكذبة السردية هي التي يمكن بها أن نفهم حقائق الحياة. وهي الرواية التي تفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد، ولا تعتمد فحسب على وجهة نظر وحيدة. ويصبح الواقع بداخلها أمرًا معقدًا للغاية.

فمن هو سرفانتس مؤسس الحداثة من خلال السرد الروائي؟

يقال أن ميجيل دي سرفانتس نشأ في أسرة فقيرة ومع ذلك كانت أمه تتقن القراءة وأنها كانت سببا من أسباب تعلقه بالحكايات منذ صغره لأنها كانت تقرأ له القصص. شارك في الحرب الإسبانية عام 1570 وتسببت الحرب في فقدانه ذراعه الأيسر. كما أنه أسر وتم سجنه في الجزائر لمدة خمس سنوات، وأن فكرة روايته العبقرية نشأت في الجزائر.

يقول الروائي الجزائري واسيني الأعرج، إن قصة أسر سرفانتس في الجزائر حقيقية وموثّقة وتتعلق بجندي إسباني ألقى عليه القراصنة الجزائريون والعثمانيون القبض بنواحي مرسيليا الفرنسية رفقة أخيه بيدرو، بينما كانا عائدين من معركة ضد العثمانيين أصيب فيها ذراعه، واقتادوه إلى الجزائر، وهناك عرضوه للبيع في سوق العبيد، فاشتراه أحد رياس البحر ثم وباعه لحاكم الجزائر حسان باشا بـ 500 قطعة ذهبية، وهو مبلغ كبير.

في عام 1614 ظهر جزء ثاني مزيف للكتاب ادعى كاتبه أن الكتاب هو الجزء الثاني من دون كيخوتة، لمؤلف وضع اسما مستعارا هو ألونسو فرناندث دي أبيّاندا، لم يترك مسبة إلا ووجهها إلى سرفانتس الذي كان في تلك الفترة قد أنهى قسما كبيرا من القسم الثاني، فعجل على الانتهاء منه ونشره في عام 1615، وسخر في الفصل 59 من دون كيخوت المزيف وأكد على حقيقة شخصيتي دون كيخوت وسانشو. ونشر الكتاب كاملا بجزئيه لأول مرة عام 1617 ومنذ ذلك الوقت وهو يطير في كل مكان وإلى اليوم.

وبالعودة إلى نص دون كيخوتة الذي تشير مصادر مختلفة أنه بدأ الكتابة عنه خلال وجوده أسيرا في الجزائر، فبين ما يحقق سمات تميزه هو قدرة سرفانتس على إظهار الكثير من الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافة السائدة في المجتمع الإسباني في الفترة التي يتناولها العمل، وعلى الكثير من ظروف الصراعات الخارجية وأعمال القرصنة التي كانت تسود في البحر المتوسط، بالإضافة طبعا للكثير من السلوكيات المرتبطة بالتقاليد والأعراف السائدة في مجتمع كاثوليكي يعيش بين سكانه بقايا الأندلسيين العرب بوصفهم الموريسكيون، وتأثير محاكم التفتيش.

ومن اللافت للانتباه إن كاتبا مثل نابكوف عندما تناول الرواية في سلسلة محاضرات أشار إلى أنها لم تقدم شهادة على عصرها، ولم تكشف طبيعة الواقع أو البيئة الإسبانية العامة في تلك الفترة، وهو بالنسبة لي تعليق مثير للدهشة.

فعلى نقيض هذا التعليق الغريب لنابكوف يقول الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس» لقد عَكَسَ سرفانتس حقبته: إسبانيا متدهورة خلال حقبة آل هابسبورغ، فيليب الثالث وانخفاض قيمة العملة،ثم انهيار الاقتصاد جراء الطرد المتواصل للعمال المهرة اليهود والعرب والرغبة المحتدة قصد التكتم على الأصول العبرية والمغربية مما يقود مجتمعا يرتكز على شخصيات هشة،إلى غياب حاكمين ناجعين حقا يخدمون إمبراطورية واسعة مع اختفاء ذهب ومال الهنود لصالح قوى المحلات التجارية لشمال أوروبا. إسبانيا الصعاليك والشحاذين والسلوكيات الجوفاء، والارستقراطية الغاشمة، والطرق المخربة، والنُزُل الريفية المترهلة والنبلاء الضائعين، الذين اجتاحوا خلال أزمنة أكثر بأسا، المكسيك وأبحروا في الكاريبي، وقدموا إلى العالم الجديد أولى جامعاته ومطابعه:المقدرة الأسطورية لإسبانيا تولت اكتشاف أمريكا.

تأثير الثقافة العربية الإسلامية

هناك جانب يتعلق بتأثير الثقافة العربية الإسلامية بسبب التراث الأندلسي وله وجهان: الأول أن سرفانتس يفترض أن النص الذي يكتبه مدونا حكاية دون كيخوتة هو نص منقول عن شخصية عربية يسميه سيدي حامد بن علي، وهي في تقديري الشخصي إشارة ضمنية لتأثير ألف ليلة وليلة، وكذلك لتأثير الثقافة العربية على إسبانيا بشكل خاص. وسوف نرى في بعض القصص تأثير حبكتها أيضا يذكرنا ببعض قصص ألف ليلة، بل وببعض ملاحم التراث العربي، لكن طبعا هذه المغامرات والقصص التي في النص لها روافد عديدة أخرى خصوصا من تراث الفنون وعصر النهضة الإيطالي، وبين من قاموا بدراسة النص أكاديميا وجدوا تأثير من كتابات الإيطالي بوكاتشيو، وهو تقريبا مؤلف الكتاب الشبيه بألف ليلة في الثقافة الإيطالية.

أما الوجه الثاني لموضع التأثر بالثقافة العربية، فيتعلق بأن النص تتوفر به إشارات إلى ما يبدو أساطير شاعت عن العرب والمسلمين خلال الحروب الصليبية، وأيضا سنجد في الفصول الأخيرة حديث عن موريسكيين بين أحداث ما دبره الدوق والدوقة للسخرية من دون كيشوت وسانشو. أيضا سنجد إشارة للحاكم التركي والباب العالي، وثمة إشارة عابرة إلى تغلغل بعض العادات الإسلامية في الثقافة الإسبانية عند عودة دون كيخوت مع سانشو إلى قريتهما بعد أن ودعا دون ألبارو قائلا: دعك من هذه الحماقات ودعنا ندخل قريبتنا بالقدم اليمنى.

والحقيقة أن هذه الإشارات تتوفر في ترجمة من الترجمات العربية هي ترجمة رفعت عطفة، وهناك كما هو معروف ترجمتان أخريان أقدم وأكثر شيوعا هما ترجمة عبد الرحمن بدوي التي توصف بأن لغتها رصينة وربما أكاديمية بعض الشيء، وإن كنت أعتقد شخصيا أنها الأكثر دقة، ثم ترجمة ثانية لسليمان العطار، وهي شائعة أيضا ولها نسخة تذكارية كان أصدرها المجلس الأعلى للثقافة في مصر. وأعتقد أن ترجمة عطفة تمكنت من إبراز الطابع الساخر للنص بشكل بارز. لكن تعدد الترجمات في كافة الأحوال يمنح فكرة عن مدى خصوبة النص وقبوله لتعدد الترجمات. أما الترجمة الأولى والتي لم تكتمل مع الأسف للأسف لأسباب رقابية فهي ترجمة عبد الوهاب الأهواني للجزء الأول من سرفانتس.

كما يمنح فرصة لتأمل اجتهادات كل مترجم، وفق قدراته وثقافته ومدى معرفته بالثقافتين المنقول عنها والمنقول إليها. وأعطي مثالا هنا يتعلق باستخدام المترجمين الثلاثة لجملة اختلف الثلاثة في ترجمتها إذ منح كل منهم السياق شيئا من ثقافته.

كل ما وجد في الأدب بدأ من هنا

قدم سرفانتس نصا يتمتع بلغة سردية جمعت بين البلاغة وجمال اللغة من جهة، وتضمينها بالسخرية التي يفجرها بنبرة تبدو رصينة لكنها بما تصفه من ضلالات دون كيخوت تصبح قادرة على أن تقدم سخرية قادرة على تفجير الضحك في أشد المواقف درامية، كما لو أنه يقدم دروسا في مفهوم المآسي التي تولّد ضحكا كالبكاء. من دون أن نغفل عشرات الابتكارات الوصفية التي كشف بها عن براعة في الخيال والوصف على السواء

ولعل أهم ما أبرزه سرفانتس تمثل في قدرة الوهم والخيال على تقديم مفاهيم واقعية عن الطبيعة البشرية والمفاهيم المتعلقة بمعنى الحياة. فكل الأسئلة التي تتولد خلال القراءة عن الحرية والعدل وحرية الإرادة والظلم تنبثق بسبب ضلالات دون كيخوتة، الذي وصف في أغلب المواقع التي شوهد فيها بأنه مجنون، تعرض للإهانات أحيانا وللضرب المبرح أو حتى استهدافه بالقتل، وحاولت ابنة أخيه وخادمته عدة مرات إنقاذه من الجنون بإخفاء الكتب التي اعتقدتا أنها سبب جنونه، كما حاول صديقاه الكاهن والحلاق علاجه من الجنون أكثر من مرة.

ومع ذلك فإن كل مغامرة خاضها كانت تولد معرفة بنقائص بشرية أو بمظالم هنا أو هناك، بالإضافة إلى أنه قدم، رغم جنونه وربما بسبب جنونه، نموذجا للجسارة والشجاعة وعدم التردد للمخلّص النبيل الباحث عما يراه حقا وعدل، وبالرغم من ذلك فقد انتهت مغامراته بإعلانه الفشل، الذي تسبب في وقوعه في الاكتئاب، وسرعان ما اختفت كل علامات الجنون التي كانت سببا لمغامراته العديدة، وأعلن أنه النبيل ألفونسو كيخادا وليس الدون كيخوتة، وبدأ يتهيأ للموت.

نبل المقصد وزيف الإرادة

في قراءة دون كيخوتة ثمة جانب يرتبط بإعادة تأمل فكرة الأصالة والتقليد، بمعنى اختبار أصالة رغبة دون كيشوت في الفروسية، وتفسيرها يعود للناقد الفرنسي رينيه جيرار في تحليله لفكرة «مثلث الرغبة»، الذي يقدم اقتراحا لسبب فشل دون كيخوتة يتمثل في الإرادة المزيفة أو الرغبة المزيفة.

الناقد الفرنسي رينيه جيرار له قراءة للأعمال الأدبية ترى أن محور كل عمل أدبي هو الرغبة، بوصفها «الدافع» الحقيقي لأي شخصية في الواقع أو في الأدب. ويرى أن الرغبة ترتبط بثلاثي يتكون من الراغب والوسيط وموضوع الرغبة. وفي حالة دون كيشوت فإن رغبته في أن يكون فارسا مشاء لم تكن رغبة حرة بل مجرد تقليد لفارس مخترع في كتب الفروسية يعرف باسم أماديس الغالي.

يقول: «لقد تخلى دون كيشوت، ولصالح أماديس، عن الامتياز الأساسي للفرد: فهو لم يعد يختار موضوعات رغبته، بل آمادیس هو من يختارها بالنيابة عنه، والمريد يندفع نحو الموضوعات التي يدله عليها، أو يبدو أنه يفعل، نموذج الفروسية. وسندعو هذا النموذج وسيط الرغبة، فحياة الفروسية هي إذن محاكاة لأماديس».

وبالتالي فما فعله دون كيشوت كانت محاولة للتقليد لا أكثر.

يرى جيرار أن «الأصالة»، أي الرغبة النابعة من إرادة حقيقية، هي التي تحقق النجاح وأن فشل دون كيشوت يعود لأنه كان «مقلدا»، وعلى ذلك يمكن قياس نماذج عديدة من المدعين والمقلدين في العصر الحديث.

إبراهيم فرغلي روائي وصحفي مصري