No Image
عمان الثقافي

«حكايات الرزنامة» صنع منها هيبل جنسا أدبيا مستقلا وأعاد بريشت إحياءها في القرن العشرين

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

حتى وقت قريب أو ربما ليومنا هذا لا تزال تُطبع في عالمنا العربي تلك التقويمات أو الرزنامات التي تُنزع ورقتها يوما بيوم وفي بعضها كانت تُكتب على ظهر كل ورقة أو أسفلها حكمة أو حديث نبوي، أو أحجية. هذا التقليد قديم ويعود في أوروبا إلى فترة ما بعد ظهور الطباعة في القرن الخامس عشر، وقد انتشرت الرزنامات من وقتها وأصبحت موجودة في كل بيت تقريبا وكانت تعد بمثابة الكتاب العائلي الذي يملكه كل بيت إلى جانب الكتاب المقدس وكتب الترانيم. كانت الرزنامات تحتوي على إرشادات للطقس والحصاد ومعلومات فلكية ووصفات طعام وقصص ونوادر وملح تتسم عادة بالإيجاز والقصر، وكانت مصحوبة أيضا برسوم منقوشة على الخشب وقد وصفها لايبنيتس بأنها «مكتبة الرجل الصغير»، ولو كان المرء أميا يستطيع أيضا تأمل اللوحات المصاحبة للنصوص، أي أن الجمهور المستهدف لهذه النصوص كان هو عامة الناس والفلاحين وصغار الموظفين والعمال. وقد ظلت حتى بدايات القرن التاسع عشر وقبل ظهور الرواية وانتشارها على نطاق واسع، وسيلة الإعلام والتثقيف والترفيه الوحيدة للبسطاء. وقد أشرف الشاعر يوهان بيتر هيبل (1760-1826)، الذي ذاع صيته بداية بقصائده المكتوبة باللهجة الألمانية، على تحرير الرزنامات في الجزء البروتستانتي من دوقية بادن ابتداء من عام 1808 وقد زاد توزيع نسخ الرزنامات بعد توليه من عشرين ألفا إلى الضعف ووصل بعد بعض الوقت إلى خمسين ألفا. أطلق هيبل على رزناماته اسم «صديق البيت من منطقة الراين» والعنوان الفرعي «تقويم جديد بأخبار فيها العبر وحكايات مرحة». كان هيبل إذن هو أول من حول نصوص الرزنامات إلى جنس أدبي خاص، إلى نصوص قصصية قصيرة، لكنها متنوعة في طابعها وتضم أحيانا أغاني أو قصائد أو قصص توراتية، ونوادر وملح، لكن ما يميزها عن الحكايات الشعبية الخيالية التي جمعها الأخوان غريم مثلا، هي أنها قصص واقعية من حياة الناس تظهر حذقهم وحيلتهم وشجاعتهم تارة وتتندر على سذاجتهم وغفلتهم تارة أخرى، وهي بعيدة عن الخرافة والشعوذة أو التطير، ففي قصة بعنوان «حكاية أشباح» يصر تاجر على الإقامة في قصر قيل إنه مسكون بالأشباح وعندما يقضي الليلة هناك يكتشف أن ثمة عصابة تخيف كل من يأتي إلى القصر لأنها تقوم بتزييف العملات هناك. تتقاطع حكايات الرزنامة مع نوادر البخلاء للجاحظ ونوادر جحا، بل إن قصة جحا وحماره وابنه الشهيرة ترد ضمن حكايات الرزنامة دون ذكر لجحا وللتدليل على عاقبة من يريد إرضاء كل الناس. كانت «حكايات الرزنامة» لهيبل كنزا أدبيا حقيقيا وأشاد بها كتاب كثيرون مثل فرانتس كافكا وفالتر بنيامين وإرنست بلوخ.

ورغم أن عددا من الكتاب مثل غوتفريد كيلر وكارل ماي وأوسكار ماريا غراف وكريستوف هاين وبوتو شتراوس قد ألفوا أيضا قصصا بعنوان «حكايات الرزنامة»، إلا أن حكايات الرزنامة التي كتبها الشاعر والمؤلف المسرحي الكبير برتولت بريشت (1898-1956) وصدرت عام 1949 كانت لها الشهرة الأوسع في القرن العشرين. وربما وافق هذا الطابع الشعبي لحكايات الرزنامة والجمهور الذي تخاطبه من عامة الناس والبسطاء، هوى بريشت، فهو نفس جمهوره في المسرح، كما أنه وجد في تنوع الأشكال الأدبية الموجودة في داخلها فرصة أيضا لتقديم القصص في شكل نثري أو شعري. وقد لعب التاريخ دورا محوريا عبر كل نصوصه، فهو يحكي قصصا على امتداد ألفي عام من يوليوس قيصر إلى هتلر. ونجد فيها أيضا أثر الحرب والدمار والفقر والجوع الذي خلفته، والخراب الذي ألحقه النازيون بألمانيا وبالعالم، ولكن بأسلوب بريشت الذي يدعو قارئه إلى التفكير، ويبرز ذلك بوضوح من خلال حكايات السيد كوينر القصيرة اللاذعة والذكية، وهو يستهل العمل بحكاية «دائرة طباشير أوجسبورج» وهي قصة مشابهة لمسرحيته دائرة الطباشير القوقازية، ولكنها تدور في مسقط رأسه أوجسبورج خلال حروب الثلاثين عاما. ولكي نتعرف عن كثب إلى هذا الجنس الأدبي الذي نشأ بفضل الرزنامة ثم استقل عنها، لتصبح استعادته مجرد إحالة لفن أدبي مندثر، نعرض هنا نماذج مترجمة من «حكايات الرزنامة» لكل من هيبل وبريشت:

صبي الحلاق من زيغرينغن

يوهان بيتر هيبل

يجب على المرء ألا يجرب الرب، ولكن عليه أيضا ألا يجرب البشر. لأنه في خريف العام الفائت جاء إلى المطعم في زيغرينغن رجل غريب من الجيش، كانت له لحية كثيفة، وبدا تقريبا غريب الأطوار، أي أنه لم يكن من الممكن حقا الوثوق به. وقال لصاحب المطعم قبل أن يطلب شيئا للأكل أو للشرب: «أليس لديكم حلاق هنا في المنطقة، يحلق لي ذقني؟» قال صاحب المطعم نعم وأحضر الحلاق. فقال له الغريب «عليك أن تحلق لي ذقني، لكن بشرتي حساسة، إن لم تجرح وجهي سأدفع لك أربع تالرات فضية. لكن إذا ما جرحتني، فسأقتلك طعنا. وأنت لست الأول.» وبمجرد أن سمع الرجل المفزوع ذلك (لأنه من تعبير وجه الغريب بدا وكأنه لا يمزح، والسلاح الحاد البارد كان موضوعا على المائدة) هرب على الفور وأرسل مساعده. فقال له الرجل الكلام نفسه. وعندما سمع المساعد الكلام نفسه، هرب في الحال وأرسل الصبي. انبهر الصبي بالمال وقال لنفسه: «سأتجرأ وأفعلها. وإذا تم المراد ولم أجرحه، فسأستطيع أن أشتري بالتالرات الفضية الأربعة معطفا من سوق العيد ومطواة جيب. وإذا لم يتم، فأنا أعرف ماذا سأفعل.» وحلق للسيد. بقي السيد ساكنا، لا يدري أي خطر موت مفزع يتهدده، وصبي الحلاق الجريء يتجول بدم بارد بالموسى في وجه الرجل وحول أنفه وكأن الأمر يتعلق بستة قروش، أو في حالة الجرح بقطعة صوفان أو ورقة نشاف توضع عليه، وليس بأربعة تالرات فضية أو الحياة، وأزال عنه اللحية من الوجه دون جرح أو دم وقال لنفسه عندما انتهى: الحمد لله!

لكن عندما نهض السيد ونظر في المرآة وأعطى الصبي التالرات الأربعة، قال له: «لكن أيها الشاب من الذي أعطاك الشجاعة لكي تحلق لي، فسيدك ومساعده فرا هاربين؟ لأنك لو كنت جرحتني لطعنتك.» لكن صبي الحلاق شكره على المال الجيد وقال: «أيها الرجل الكريم، ما كنت لتطعنني، لأنك لو ارتعشت، وجرحتك أنا في وجهك، لسبقتك وقطعت رقبتك في لحظتها وهربت.» عندما سمع الرجل الغريب هذا وفكر في الخطر الذي كان فيه، أصبح في البداية شاحبا من الفزع والخوف من الموت، ومنح الصبي تالرا آخر إضافيا، ولم يعد يقول لأي حلاق بعد: «سأقتلك طعنا إن جرحتني».

وصفة جيدة

يوهان بيتر هيبل

في فيينا كان الإمبراطور يوزف ملكا حكيما وخيّرا، لكن لا يعلم كل الناس أنه كان طبيبا أيضا وعالج امرأة فقيرة. قالت امرأة فقيرة مريضة لابنها الصغير: «يا بني، اذهب وأحضر لي طبيبا، وإلا فلن أكون قادرة على التحمل أبدا من فرط الألم» ذهب الولد للطبيب الأول وللثاني ولكن لم يرغب أي منهما في القدوم، لأن ذهاب الطبيب إلى المريض في فيينا كان يكلف جيلدر(عملة كانت تستخدم في النمسا) ولم يكن الصبي المسكين يملك شيئا سوى دموعه، التي تعد على الأرجح عملة جيدة في السماء، ولكن ليس بين الناس على الأرض. لكن عندما كان في طريقه للطبيب الثالث، أو الى البيت، مر الإمبراطور من أمامه في عربة مكشوفة تسير ببطء. ظنه الصبي على الأغلب رجلا غنيا، ولم يعرف في الحال إن كان هو القيصر أم لا، وقال لنفسه: أريد أن أحاول: «أيها السيد الكريم. ألا تريد أن تمنحني جيلدر، لتكن رحيما!» فكر الإمبراطور: «إنه يوجز ويظن إذا ما حصلت على جيلدر مرة واحدة، فلن أحتاج لأن أتسول ستين مرة من أجل كرويتسر(عملة نمساوية)» «هل تكفيك ستة كرويتسرات، أو قطعتين بعشرين؟» سأله الإمبراطور. قال الصبي «لا»، وصارحه بسبب احتياجه للجيلدر. ومن ثم أعطاه الإمبراطور الجيلدر وعرف منه بدقة اسم أمه وأين تسكن، وأثناء انطلاق الولد إلى الطبيب الثالث وفيما كانت المرأة المريضة تصلي في البيت داعية الرب ألا يتخلى عنها، توجه الإمبراطور إلى منزلها وقد تخفى قليلا بمعطفه، بحيث لم يكن لأحد أن يتعرف عليه حقا، إلا من نظر متعمدا. لكن عندما دخل على المرأة المريضة في غرفتها الصغيرة، التي بدا المنظر داخلها فارغا تماما وحزينا، ظنت أنه الطبيب، وحكت له عن وضعها، وكيف أنها بالإضافة إلى ذلك فقيرة جدا ولا تستطيع الاعتناء بنفسها. قال الإمبراطور: «أريد أن أكتب لك الآن وصفة» وقالت هي له عن المكان الذي يضع فيه الولد أدوات الكتابة. ومن ثم كتب الوصفة وأبلغ المرأة بالصيدلية التي يجب أن ترسل الصبي إليها عندما يعود، وترك الوصفة على المائدة. لكن ما كادت دقيقة أن تمر بعد مغادرته، حتى جاء الطبيب الحقيقي. اندهشت المرأة كثيرا، عندما سمعت أنه طبيب أيضا واعتذرت قائلة إن طبيبا كان هنا ووصف لها شيئا، وكانت فقط تنتظر الصبي. لكن عندما أمسك الطبيب بالوصفة وأراد أن يعرف من كان عندها وماذا وصف لها من شربة أو حبوب، اندهش هو أيضا كثيرا وقال لها: أيتها المرأة، لقد وقعت في يد طبيب جيد، لأنه وصف لك خمسة وعشرين دوبلونا، تسحبينها من مصلحة المدفوعات: وبأسفل مكتوب: يوزف إن كنتِ تعرفينه. مثل هذه الضمادة للمعدة والبلسم للقلب وقرة العين ما كان باستطاعتي أن أصفها لك.» عندها توجهت المرأة بنظرتها للسماء ومن فرط الامتنان والتأثر لم تستطع أن تقول شيئا، وقد صُرف المال من بعد من مصلحة المدفوعات على نحو صحيح ودون تعقيد، ووصف لها الطبيب خلطة طبية، ومن خلال الدواء الجيد والرعاية الجيدة، التي استطاعت الآن أن توفرها لنفسها، وقفت بعد أيام قلائل على قدميها ثانية. إذاً فقد عالج الطبيب المرأة المريضة وعالج الإمبراطور المرأة الفقيرة، وهي لا تزال حية وقد تزوجت من بعد ذلك مرة أخرى.

الابنان

برتولت بريشت

في يناير عام 1945، عندما انتهت حرب هتلر، حلمت فلاحة من منطقة تورينجن أن ابنها المتواجد في ساحة القتال يناديها، وعند خروجها ناعسة إلى الفناء، ظنت أنها ترى ابنها يشرب من مضخة المياه. لكن عندما تحدثت إليه أدركت أنه واحد من الأسرى الروس الشباب الذين كانوا يقومون بالعمل القسري في المزرعة. وبعدها بعدة أيام عاشت تجربة غريبة. لقد جلبت للأسرى طعامهم عند أجمة قريبة، حيث كانوا يحفرون لاستخراج جذوع الأشجار. وأثناء مغادرتها، نظرت للوراء من فوق كتفها للأسير الشاب نفسه، وكان بالمناسبة إنسانا عليلا، وهو يلتفت بوجهه إلى الوعاء الصفيح الذي ناوله إياه أحدهم وبه الحساء، التفاتة محبَطة. وفجأة تحول هذا الوجه إلى وجه ابنها. تكرر حدوث التحولات السريعة الغائمة لوجه هذا الشاب إلى وجه ابنها كثيرا في الأيام التالية. ثم مرض الأسير: وظل راقدا دون رعاية في الشونة. شعرت الفلاحة برغبة متزايدة في أن تجلب له شيئا يقويه، لكن أخاها المصاب في الحرب، والذي يدير المزرعة ويعامل الأسرى بفظاظة، منعها، خصوصا بعدما بدأت كل الأمور تنقلب رأسا على عقب، وبدأت القرية تخشى من الأسرى. لم تستطع الفلاحة نفسها أن تقاوم حجج أخيها: فهي لا ترى إطلاقا أنه من الصحيح أن يساعد المرء هؤلاء البشر الدون، الذين سمعت عنهم أشياء بشعة. لقد عاشت خائفة مما يمكن أن يفعله الأعداء بابنها المتواجد في الشرق. وهكذا، لم تكن بعد قد أتمت مسعاها المتردد لمساعدة هذا الأسير، عندما فاجأت ذات مساء مجموعة من الأسرى في حديقة الفواكه المغمورة بالثلج وهم يتشاورون بحماس، وغالبا أجروا مشاوراتهم في عز البرد للحفاظ على سريتها. وكان الشاب من بينهم وكان يرتعش من الحمى. ومن المرجح أنه بسبب حالته الواهنة للغاية كان فزعه منها هو الأشد. وفي وسط فزعه حدث مرة أخرى هذا التحول الغريب في وجهه، بحيث كانت تنظر في وجه ابنها، وكان فزعا للغاية. شغلها ذلك بعمق، ورغم أنها أبلغت أخيها بحسب ما يقتضيه الواجب بالمشاورات في حديقة الفواكه، قررت أن تدس للشاب من الآن فصاعدا شحمة الجمبون الجاهزة للأكل. وقد تبين من ذلك كم هم صعب وخطير للغاية، عمل بعض الأشياء الطيبة في الرايخ الثالث. بهذا الفعل سيكون أخوها عدوا لها، كما أنه لم يكن ممكنا لها أن تأمن جانب الأسرى. ورغم هذا تمكنت من عمل ذلك. لكنها اكتشفت في الأثناء أن الأسرى ينوون الهروب حقا، لأن الخطر بأن يقوم الجيش الأحمر المتقدم بالدفع بهم إلى الجبهة الغربية أو أن يقضي عليهم، أخذ يزداد يوما بعد يوم. لم تستطع الفلاحة أن ترفض طلبات معينة للأسير الشاب، الذي تربطها به هذه التجربة الغريبة، وكان يفصح عنها بالإشارة وببضع كلمات قليلة بالألمانية، وهكذا تورطت في خطط هروب الأسرى. وأحضرت جاكيتا ومقراضا كبيرا للصفيح. وللغرابة لم يعد التحول يحدث منذ ذلك الحين: والآن أصبحت الفلاحة تساعد فقط هذا الشاب الغريب. وهكذا كانت صدمة بالنسبة لها عندما طُرق ذات صباح في نهاية فبراير على النافذة، ورأت عبر الزجاج عند الشروق وجه ابنها. هذه المرة كان ابنها. كان يرتدي الزي الممزق لوحدات الإس إس المسلحة، كانت فرقته قد سُحقت، وقال بتوتر إن الروس على بعد كيلومترات قليلة من القرية. وأنه لا بد من التكتم بالضرورة على عودته إلى البيت. وفيما يشبه مجلس الحرب الذي عقدته الفلاحة مع أخيها وابنها في السقيفة، تقرر في المقام الأول التخلص من أسرى الحرب، لأنه من المحتمل أن يكونوا قد رأوا رجلا من الإس إس وقد يدلون عموما بشهادات عن سوء المعاملة. كان ثمة محجر بالقرب من المكان. وقد أصر رجل الإس إس بأن عليه أن يستدرجهم واحدا واحدا من الشونة ويقتلهم، ثم يكون بإمكانه نقل الجثث إلى المحجر. ورأى الأخ أنه ينبغي أن يحصلوا في المساء على بعض جرعات من البراندي، ولن يلفت ذلك انتباههم كثيرا، لأنه كان هو وخدمه في الآونة الأخيرة لطفاء مع الأسرى الروس من أجل أن كسب ودهم في اللحظات الأخيرة. عندما شرح رجل الإس إس الشاب الخطة، رأى أمه ترتعش فجأة. وقرر الرجلان ألا يجعلاها تقترب بأي حال من الشونة. وهكذا ترقبت حلول الليل بكل فزع. وعلى ما يبدو فإن الروس أخذوا البراندي شاكرين وسمعتهم الفلاحة يغنون أغانيهم الحزينة وهم سكارى. لكن عندما ذهب ابنها في حوالي الساعة الحادية عشرة إلى الشونة، كان الأسرى قد فروا. لقد مثلوا أنهم سكارى. فهذا الود الجديد وغير الطبيعي من أهل المزرعة، أقنعهم بأن الجيش الأحمر قريب جدا بالضرورة. وقد جاء الروس في النصف الآخر من الليل. رقد الابن مخمورا في السقيفة، فيما حاولت الفلاحة التي أصابها الهلع حرق زي الإس إس الخاص به. وقد سكر أخوها أيضا؛ كان عليها أن تستقبل الجنود الروس وتطعمهم. فعلت ذلك في البداية بوجه متحجر. ورحل الروس في الصباح التالي، استمر الجيش الأحمر في زحفه. والابن منهكا من السهر، طلب المزيد من البراندي وأفصح عن نيته الانطلاق للحاق بفرق الجيش الألماني المتقهقرة، لكي يواصل القتال. حاولت الفلاحة أن تشرح له أن مواصلة القتال تعني الانهيار. ومن يأسها اعترضت طريقه وحاولت بجسدها أن تبقيه، فدفعها لتسقط على القش. وأثناء قيامها ثانية تحسست في يدها مضربا خشبيا للكتان وبكل ما أوتيت من قوة قذفت به الشاب المندفع فأسقطته.

وفي الصباح نفسه توقفت فلاحة تقود عربة يد عند القيادة العسكرية الروسية في البلدة الأقرب، وقدمت لهم ابنها مربوطا بألجمة ثور كأسير حرب، من أجل أن -هكذا حاولت أن تشرح للمترجم الفوري- يحتفظ بحياته.

أسئلة عامل قارئ

من بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟

في الكتب ترد أسماء ملوك.

هل جلب الملوك صخور الجبال؟

وبابل التي دُمرت مرارا

من بناها عدة مرات؟ في أي بيوت عاش عمال البناء في ليما المشعة بالذهب؟

إلى أين ذهب البناؤون في الليلة التي انتهى فيها بناء

سور الصين؟

روما العظيمة، مليئة بأقواس النصر. من شيدها؟

على من

انتصر القياصرة؟ وبيزنطة التي يُتغنى بها كثيرا

ألم توفر لسكانها سوى القصور؟ وحتى في أطلنطا الأسطورية

زعق الغارقون في الليلة التي ابتلعها فيها البحر

منادين على عبيدهم.

والإسكندر الشاب غزا الهند

غزاها بمفرده؟

هزم قيصر الغاليون

ألم يكن معه طباخ على الأقل؟

بكى فيليب ملك إسبانيا، عندما غرق

أسطوله. هل بكى أحد سواه؟

انتصر فريدريش الثاني في حرب السنوات السبع

من

انتصر سواه؟

كل صفحة هي نصر

من طبخ وليمة النصر؟

كل عشر سنوات رجل عظيم.

من يدفع النفقات؟

قصص كثيرة.

وأسئلة كثيرة.

من حكايات السيد كوينر

الصبي عديم الحيلة

تحدث السيد ك عن رذيلة تقبل وابتلاع ظلم واقع في صمت وحكى القصة التالية: «سأل عابر صبيا أخذ في البكاء وحيدا عن سبب حزنه. «كان لدي قرشان للسينما» قال الصبي «ثم أتى ولد وانتزع أحدهما من يدي». وأشار إلى الولد الذي كان من الممكن رؤيته بعيدا بعض الشيء. «ألم تصرخ عندئذ طالبا العون؟» سأل الرجل. «بلى» قال الولد وزاد من نحيبه قليلا. «ألم يسمعك أحد» سأل الرجل وهو يربت على الولد بحب. «لا» ولول الصبي. «ألا تستطيع أن تصرخ بصوت أعلى؟» سأل الرجل. «إذن أعطني هذا أيضا.» وأخذ من يده القرش الباقي واستمر في سيره دون اكتراث.“

السؤال عن إن كان ثمة إله

سأل أحدهم السيد ك إن كان ثمة إله، فقال السيد ك: «أنصحك بأن تفكر فيما إذا كان سلوكك بعد الإجابة على هذا السؤال سيتغير أم لا. إذا لم يكن ليتغير، يمكننا أن نتخلى عن السؤال. أما إذا كان سيتغير، فيمكنني على الأقل مساعدتك» إلى حد أن أقول لك إنك قررت بنفسك: أنت بحاجة إلى إله».

حب الوطن، كراهية الأوطان

لا يرى السيد ك أنه من الضروري العيش في بلد معين. يقول: «أستطيع أن أجوع في كل مكان» لكنه تجول ذات يوم عبر المدينة المحتلة من عدو البلد الذي عاش فيه. وقابله ضابط تابع للعدو وأرغمه على النزول من على الرصيف. نزل السيد ك عن الرصيف وأدرك أنه غاضب من هذا الرجل، بل وليس من هذا الرجل فحسب، ولكن أيضا من البلد الذي ينتمي له هذا الرجل، أي أنه يتمنى لو مُحي هذا البلد من على سطح الأرض. «من خلال ماذا؟» تساءل السيد ك، أصبحت في هذه اللحظة قوميا؟ من خلال أنني قابلت رجلا قوميا. لكن لذلك لا بد من القضاء على هذا الغباء، لأنه يجعل من يقابله غبيا».

المصادر:

Johann Peter Hebel. Hamburger Lesehefte Verlag. Husum 2004.

Bertolt Brecht. Kalendargeschichten. Text und Kommentare. Suhrkamp Bibliothek. Kalendargeschichten Berlin 2020.

أحمد فاروق مترجم مصري