No Image
عمان الثقافي

تجليات الظهور والكمون والتداخل في حركة الأجناس الأدبية

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

عرف تاريخ الآداب المحلية والعالمية تجليات متنوعة لحركة الأجناس الأدبية والأنواع المتفرعة عنها داخل كل أدب أو في دوائر التواصل بين حلقاتها المتداخلة والمتشابكة، فهذه الأجناس والأنواع لا تظهر فجأة وتختفي مواكبة لفترات وظواهر زمنية أو طبيعية، كما تتفتح زهرة جديدة في إحدى الحدائق مع زهرات الندى ذات صباح، ولكن جذورها وفروعها قد تمتد وتتداخل مع فترات سابقة أو لاحقة، أو مع ظواهر موازية في مجالات ثقافية أو مضامين أخرى.

ولقد حاول مؤرخو الأدب منذ القرن التاسع عشر دراسة الأجناس الأدبية في ضوء الروح العلمية التي سادت العصر، باعتبارها منتمية إلى شريحة الفصائل والأنواع الخاصة للنشوء والارتقاء وانتسابها للوجود والفناء، تبعا لقوانين موضوعية طبيعية يمكن رصدها في الآداب المختلفة من خلال دراسات الأدب المقارن.

وكان الناقد الفرنسي هيبوليت تين (1828-1893) من أكثر النقاد اهتماما بالبحث عن تفسير علمي موضوعي لظاهرة الأجناس الأدبية وتطورها واختفائها، متأثراً دون شك بآراء معاصره دارون الخاصة بالفصائل والأنواع والنشوء والارتقاء، وكان يبحث عن قوانين موضوعية حاكمة تفسر حركة الأجناس الأدبية. وقد انتهى إلى وضع قانون الثلاثي المشهور الذي يؤثر في هذه الظاهرة اعتمادا على اجتماع ثلاثة عناصر هي «العصر» و«والبيئة» و«الجنس». وفي ضوء هذا التصور يمكن مثلاً دراسة الوقوف على الأطلال في الشعر من خلال ارتباطه بالجنس العربي في زمن ما قبل الإسلام في البيئة الصحراوية، فإذا انتفى واحد من هذه الشروط الثلاثة انتفت ضرورة وجود الظاهرة أو أصبحت تكلفا. فيقول «تين» في كتابه «مقدمة في الأدب الإنجليزي» السؤال الذي يطرح أمامنا الآن هو السؤال التالي: ما الحالة المعنوية التي تقف وراء إنتاج أدب ما أو فلسفة ما أو فن ما أو طبقة معينة من الفن؟ وما الظروف المتصلة بالعصر والجنس والبيئة التي تعين على نحو خاص على إيجاد هذه الحالة المعنوية؟ إن هنالك حالة معنوية ملائمة للفن بعامة، وحالة ملائمة لكل فرع من فروعه مثل الشعر والموسيقى والنحت والعمارة، وكل فرع يمثل حيزه الخاص داخل الحقل العام لنشاط النفس البشرية. كل حسب «قانونه الذي يحركه، وامتثالاً لذلك القانون فإننا نرى فرعاً ما ينهض فيما نحسب أنه مصادفة وهو ينهض وحده بين ترنح جيرانه، كما حدث بالنسبة للرسم في هولندا في القرن السابع عشر، والشعر في إنجلترا في القرن السادس عشر والموسيقى في ألمانيا في القرن الثامن عشر، في هذا العصر وحده داخل هذا الإطار المحدد، توافرت الظروف الملائمة لقيام فن ما ولم تتوافر لقيام غيره، توافرت لإخصاب فرع واحد في إطار الجدب المحيط به، وهذه الظروف العامة للإخصاب الإنساني هي المهمة التي يجب على تاريخ الأدب المعاصر أن يبحث عنها، إذ يجب قيام دراسة نفسية خاصة وراء كل فرع أو جنس أدبي، يجب رسم لوحة عامة للظروف الخاصة التي يجب أن تتهيأ لإنتاج لون من ألوان الأدب أو الفن».

إن أفكار هيبوليت تين والزاوية التي اختارها لمعالجة قضايا «الأجناس الأدبية»، أو استفاد في صياغتها من الروح العلمية للقرن التاسع عشر ما تزال قابلة للحياة معها، والاسترشاد بها وإمكانية تجاوز كثير من جزئياتها، وعدم التقيد ببعض الدوائر الضيقة فيها في محاولة إلقاء نظرة عابرة على قضايا «الأجناس» في مسيرة الأدب العربي الطويلة التي بلغت رقماً قياسياً في التواصل الحي لفتراتها الزمنية المتعاقبة.

إن إلقاء نظرة طائر على تاريخ الأدب العربي الطويل العريض والذي يتجاوز خمسة عشر قرناً متصلة، يمكن أن تجعلنا نرى ظاهرة الأجناس الأدبية في تجلياتها المختلفة، ظهوراً وانتشاراً، أو كموناً واختفاء، أو تداخلاً وتوالداً، في ضوء الظواهر الحضارية والثقافية والاقتصادية والسياسية المتنوعة التي مرت بها المنطقة الكبرى التي ساد فيها الأدب العربي إبداعاً وتلقياً ومحاكاة، وسادت فيها اللغة العربية لغة حياة وحضارة.

إننا لا نستطيع أن نعزل شكل الأدب العربي فترة ميلاده قبل أكثر من قرنين من ظهور الإسلام، عن ثقافة المشافهة شبه الكاملة التي كانت تسود الجزيرة العربية آنذاك، وتجعل الأدب الجيد هو الذي يحفظ خصائص تدوينه في إيقاعه وموسيقاه لا في حروفه وزخرفته، وكانت الثقافة العربية من هذه الناحية مختلفة عن مثيلاتها اليونانية والمصرية مثلا في طريقة التدوين، فلم يخلف لنا العرب في هذه الفترة كتابا مقروءا في أي فرع معرفي. وقد خلفوا الأدب الشفاهي، الذي حرص على أن يميز مفرداته عن مفردات الحياة العملية وتراكيبها، من خلال التفنن في الإيقاع بدءاً من أصغر مقاطعه إلى أكبر وحداته، فكانت موسيقى السجع والجناس. والتكرار المحسوب وسيلة إلى وجود أجناس مثل سجع الكهان، والأمثال المكثفة والحكم السائرة، وأراجيز اللحظات المتوهجة، التي تطورت إلى القصيدة المقصدة، والمعلقة المطولة. ومن هنا كان ميلاد الشعر أعرق أجناس الأدب العربي وأشدها إحكاماً، وأطولها عمرا، وأكثرها صلابة في مواجهة المتغيرات. وجاء عصر «الكتابة» بعد الإسلام ليجد صعوبة في تقبل ثقافة «الكتابة» ذاتها، فقد كان شعار بعض علماء العصر: «نحن لا نكتم، ولكننا لا نكتب» وكانت الثقة قليلة فيمن يتلقى العلم عن «صحافي» أي عن المشتغلين بالكتابة والصحف، وكانوا يفضلون على ذلك تلقي «المشافهة» عن الثقات، وأذكر أنني في دراستي عن «جابر بن زيد» منذ نحو أربعين عاماً، تبين لي أنه كان من أوائل من مارسوا ثقافة التدوين والكتابة في كتابه «ديوان جابر». إن هذه الظاهرة الثقافية في القرن الأول الهجري، هي التي هيأت الظروف لميلاد الأجناس الأدبية النثرية منذ بداية الدولة الأموية، فقد ظهر جنس «التوقيعات» وهو المقابل الكتابي لجنس «الحكمة والأمثال» الشفاهي، حيث تتزين الأوامر الرسمية به، فيأخذ مثلاً الحكمة والمثل، إن «التوقيعات» كانت نموذجاً لدخول «جنس» أدبي جديد مع تغير عصر المشافهة في العربية إلى عصر «الكتابة والتدوين».

وإذا قلنا إن حوالي منتصف القرن الأول الهجري يصلح بداية لعصر ثقافة الكتابة في اللغة العربية وما تبعه من تجدد في الأجناس الأدبية في الثقافة العربية، فمن الإنصاف أن نشير إلى اتساع مفهوم الثقافة العربية لتتجاوز بها مفهوم الانتماءات العرقية العربية، امتداداً للمقولة الشهيرة المنسوبة إلى نبي الإسلام : (ليست العربية من أحدكم بأبيه، ولا بأمه، وإنما العربية لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي) لقد اتسع مفهوم «الثقافة العربية» وخاصة بعد الخطوة الإدارية التي اتخذها عبد الملك بن مروان، بتعريب الدواوين، والتي تعلم بسببها العربية الملايين من أبناء الأقاليم غير العربية الواقعة تحت حكم الإمبراطورية الإسلامية في آسيا وأفريقيا، وكثير منهم أتقنوا العربية مثل أبناء العرب، أو زادوا عليهم أحياناً، ودخلت أجناس أدبية جديدة إلى تاريخ الأدب العربي. فقد دخل جنس «الرسالة» مع عبد الحميد بن يحيي الذي قالت عنه كتب الأدب: بدأت الكتابة بعبد الحميد، وانتهت بابن العميد، وكلاهما من هذه الشريحة في الثقافة العربية.

إن أبناء هذه الشريحة من المثقفين بالعربية هم الذين أثروا الأدب العربي بأجناس أدبية جديدة، فعبد الحميد صاحب «التوقيعات» هو أستاذ عبد الله بن المقفع الذي عمق الرسائل وأضاف «جنس» القصص على ألسنة الحيوانات حين قدم للعربية ترجمة حرة لحكايات كليلة ودمنة الفارسية المترجمة عن البنانكا تانترا الهندية. وحين عمق ابن المقفع جنس «أدب السلوك» في كتابيه الأدب الكبير والأدب الصغير، وامتدت مفردات هذا الجنس الأدبي لتشكل منتجاً أدبياً ملحوظاً في العصر العباسي على نحو خاص، واستمر توالد «الأجناس» الأدبية التي أفرزها عصر ثقافة الكتابة والتدوين، على يد الأدباء الذين ينتمون إلى الثقافة العربية

بمفهومها الجديد الواسع سواء كانوا من المنتمين إلى الجذور العرقية العربية أم كانوا من المنتمين إلى الثقافة العربية.

وسوف نلاحظ أن الأجناس الجديدة والإنتاج الغزير، سينطلق غالباً من الجانب الشرقي للدولة الإسلامية، وهو الجانب الذي كانت تسود فيه حضارات «كتابية» سابقة على العربية مثل الحضارة الفارسية والهندية، وغيرهما من الحضارات التي هضمتها الحضارة العربية، وتجلى ذلك في كتابات أبناء الثقافة العربية الجديدة الذين كان ينتمي جدودهم إلى هذه الحضارات العريقة، التي احترمتها العقيدة الإسلامية حتى ما كان يخالفها صراحة مثل الحضارة الإغريقية الوثنية.

في هذا المناخ الثقافي ظهر في القرن الرابع الهجري جنس «المقامة» يروده اثنان هما عربي عماني هو ابن دريد الأزدي، وتلميذه صاحب الثقافة الجديدة «بديع الزمان الهمذاني» الذي أحكم فكرة أستاذه، وحولها إلى جنس أدبي محكم، امتد بعد ذلك قروناً طويلة حتى وصل للشيخ عبد الله بن علي الخليلي، آخر كتاب المقامات.

على أن الملاحظة التي لا بد من تسجيلها تكمن في أن عصر ثقافة الكتابة الذي أنتج «أجناساً» أدبية جديدة لم يحارب أجناس عصر المشافهة، ولم يسخر منها، بل ظل الشعر يترعرع ويزدهر، وتلك هي الطريقة التي حفظت للأدب العربي قيمته التاريخية الطويلة. فلم يهدم اللاحق السابق، ويعتقد أنه وحده الجدير بالبقاء، كما نرى الآن أحياناً.

وفي الوقت ذاته، فإن الأجناس السابقة لم تتجمد أو تنزوِ، بل واصلت تطوير أدواتها وإثراء نتاجها، بمعطيات الثقافة الجديدة التي أحاطت بالعصر، وما قدمته ثقافة الكتابة من قراءة نتاج الحضارات الأخرى من العلوم والفنون والآداب، التي تركت أثارها الواضحة على تطور جنس الشعر نفسه، فنمت فيه كثير من الأجناس الجديدة، والمذاقات المعرفية والتصويرية التي فجرت قضيته (القديم والحديث) بشدة في مذاهب الشعر العربي منذ القرن الثاني الهجري.

ونما عنصر مهم من عناصر الثقافة الحديثة لتنتعش الأجناس الأدبية القديمة التي تعتمد على المشافهة ومتعة الصوت والإيقاع. وهو عنصر «الموسيقى» والغناء الذي نما نمواً هائلاً في الحجاز بعد الفراغ السياسي الذي حل به عقب انتقال الخلافة منه إلى الشام. ثم نما في الشام والعراق، وأثر على تطور جنس الشعر، وضروب مذاهبه وإيقاعه وأصواته، حتى أصبح هذا التنوع الموسيقي الثري مدخلاً لتاريخ الأدب العربي كله عبر موسوعة أدبية موسيقية مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي اعتبر أكثر كتب القدماء رواجاً وطرافة، وأبان عن مدى انتعاش الجنس الشفاهي العربي «الشعر» في ظل ثقافة العصر التالي له دون محاولة لإنكار جنس لآخر، ومن خلال تنافس متكامل، ثم من خلال إثراء كل جنس بمزايا وخصائص الجنس الآخر، مع الحرص على المحافظة على الخصائص الأصلية لكل جنس، فيظل الشعر شعراً والنثر نثراً. وتشع على كل منهما مزايا من الجنس الآخر وتطوره، ونستطيع هنا أن نرصد، كثيراً من الأجناس الشعرية المتنوعة، والتي تمتد من جرير والفرزدق إلى أبي العلاء المعري مروراً ببشار وأبي نواس وأبي العتاهية، وذي الرّمة ومسلم بن الوليد وابن الرومي ومهيار والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي فراس وعشرات غيرهم من مجيدي الشعراء الذين ظلوا حول محور الشعر الرئيسي المنحدر من عصر المشافهة، وأثروه بكل ما أضفاه عصر الثقافة الجديدة على شخصياتهم ومذاهبهم في العطاء.

وإذا كان الانتقال من بيئة المشافهة الصحراوية إلى بيئة «الكتابة» الحضرية في آسيا وأفريقيا قد ترك هذا اللون من التطور في الأجناس الأدبية العربية، فإن الانتقال الأوسع إلى البيئة الأوروبية في شكل وجود العربية في الأندلس واختلاطها بورثة الحضارة اللاتينية والرومانية والإغريقية، فقد مهد لمزيد من التوسع في تطور الأجناس الأدبية العربية استجابة للمؤثرات الجديدة وكان تأثير الموسيقى الواضح على الشعر قد ولد جنس «الموشح» الأندلسي. وهو جنس يقترب بالنص الشعري من مناخ الموسيقى، ويعطيها المقام الأول في دائرة الاهتمام، ويجعل الكلام في خدمتها دون أن يتخلى عن الأسس الرئيسية لفن الشعر الشفاهي الذي انطلق منه.

وسوف يعكس المناخ الثقافي للأندلس ظلاله على معظم الأجناس الشعرية والنثرية المشرقية في محاولة كبيرة لاستنساخ الروح العربية الآسيوية والأفريقية على ألسنة العرب الأوروبيين. لكن يلاحظ أن هذه التجربة الأندلسية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس نحو ثمانية قرون لم تطمع في محو التجربة الأساسية ولم تحل محلها، وإن كانت قد نشطتها. وحين اختفت الظروف الثقافية التي أوجدتها، انكمشت وتراجعت وأصبحت جزءا من تاريخ الشعر العربي والنثر العربي، وواصل التيار الرئيسي للنهر مجراه، وذلك في ذاته درس تاريخي مفيد لحركات التجديد التالية، التي لا ينبغي أن تطمع في القطيعة مع التراث ولا في تجاهل مجرى النهر، وإنما في تنقيته وتجديده، والامتداد به، والإفادة منه. وإذا كان صلب التجربة الأندلسية وتجديدات الأجناس من خلالها، يكمن في انتقال الثقافة العربية من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا، فإن تجربة التجديد في أجناس العصر الحديث، تكمن في الاتجاه المعاكس أي في انتقال الثقافة الأوروبية الحديثة إلى العربية في قلاعها التقليدية في آسيا وأفريقيا، عبر التواصل الثقافي مع مصر والشام والعراق وشمال أفريقيا أولاً، ثم امتداد التواصل إلى سائر العالم العربي. لقد أحدث هذا التواصل أثره في نشأة عدة أجناس أدبية رئيسية أو فرعية في مجالات الشعر والرواية والقصة القصيرة، والمسرحية والفنون الجميلة، وكانت ترجمة الشعر إلى العربية على يد رفاعة الطهطاوي وسليمان البستاني وعثمان جلال وغيرهم مدخلاً لميلاد أجناس الشعر المسرحي والشعر التاريخي والشعر الملحمي وجنس الحكاية على لسان الحيوان التي أسهم أحمد شوقي في إثرائها، كما أتاحت قراءاته في الأدب الفرنسي فتح المجال لأجناس شعرية فرعية مثل الشعر التاريخي ومثل جنس «الإبيجراما الشعرية» الذي شاع عند شوقي وخليل مطران والعقاد وغيرهم. وامتد تأثر الشعر العربي بالشعر الغربي إلى صلب البناء الشعري فكان التجديد في القافية، وإنشاء قصيدة موزونة غير مقفاة مثلما فعل عبد الرحمن شكري، وكان التوسع الموسيقى في شكل توزيع مقاطع القصيدة وأبياتها والذي شاع عن شعراء المهجر وشعراء جماعة أبوللو، وكانت محاولة كتابة الشعر المنثور الذي ظهر منه نموذج في ديوان خليل مطران 1908 وظهرت محاولات تالية عند شعراء آخرين.

ثم كانت محاولات كتابة شعر التفعيلة مع على أحمد باكثير ولويس عوض، وصولاً إلى نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب. وأخيرا محاولة كتابة «قصيدة» النثر» السائدة حالياً، والتي تذكرنا تجربتها بتجارب التجديد السابقة نفسها مثل الموشحات التي عاشت نحو ثمانية قرون، وأسهمت في إثراء مجرى الشعر العربي، ثم تراجعت، واستمر مجرى النهر الرئيسي في العطاء بعد أن أثرته تجارب التجديد التي مر بها، ولم يجعل من هدفه إغراق الجزر الناشئة، ولا جعلت الجزر من أهدافها سد مجرى النهر المتدفق.

إن التجديد نفسه تم في مجرى الأدب القصصي في الرواية بأشكالها المتنوعة والقصة القصيرة والأقصوصة والومضة، وهي أجناس تثري مجرى نهر النثر العربي، وتستفيد منه، وها نحن نرى الاستفادة بأشكال تراثية كثيرة في الفن القصصي والروائي تثري التجديد في عروقها عبر التواصل الخلاق مع تراث أدبي يمتد أكثر من خمسة عشر قرناً، ويحتاج إلى صيانة مجراه الأساسي وتطهيره من العوائق، وتجديد قنواته من خلال التواصل معه تواصلا مستنيرا غير متجمد، مراعيا طبيعة العصر وتقدمه، وتطور وسائل التعبير والتصوير، والاستفادة من معطيات الآداب والفنون والعلوم التي على الأديب أن يجعلها تنعكس انعكاسا غير مباشر على الأديب وتجربته، فتشف في نهاية المطاف عن روح الأصالة والتطور معا والتوقف عن محاولات ردم النهر أو طمس هويته.

د. أحمد درويش أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة