2112526
2112526
عمان الثقافي

الفن وسيلة نجاة

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

ما إن نقرأ عنوان هذا المقال «الفن كوسيلةِ نجاة» سنؤرجح شفتينا يمنةً ويسرة ونتمتم بأن هذا مبالغةٌ بيّنة، وخاصةً ممن يعتبر الفن من الكماليات وشكل من أشكال الزينة، ويتشبث بالعلم وأصوله، فرضياته وضوابطه المنهجية، فكيف للوحةٍ مسندة إلى جدار أن تسند جسداً منهاراً، أو كيف لتمثال منتصب في ساحة عامة أن يرفع المتعبين من المارة إلى جانبه.

بالطبع إن تأمّل الأعمال الفنية تمنح راحةً نفسية وسكينةً روحية، لما يحمله الفن بأشكاله المتعددة من طاقة إيجابية للمشاهد، وهذا يمكن فهمه أكثر من خلال التوسع في دراسة (النظرية الجشتالتية) والتي تقول بأن لكل شكل وحجم ولون موجود في البيئة المحيطة بالإنسان أثراً مباشراً على نفسية المتلقي، ليس هذا فحسب فقد وُجد بأن الألوان تحديداً تستخدم في العلاج الجسدي أيضاً كنوع من أنواع الطب البديل، وهذا النوع من العلاج معروف منذ القدم في حضارات شرق آسيا والهند، وفي أوائل القرن العشرين نشر (دنشاه ب غديالي Dinshah.P.Ghadiali وهو أمريكي من أصل هندي، دراسة عرض فيها أن لكل عضو في الجسم لون قادر على تحفيزه، وهذا ما يتقاطع مع دوائر الطاقة اللونية أو ما يطلق عليه (chakras) فاللون البنفسجي الموافق لدائرة التاج يوافق القشرة الدماغية والجهاز العصبي المركزي أما اللون الأزرق الموافق لدائرة الحلق ينشط الغدة الدرقية والحلق والفم، واللون الأخضر (دائرة القلب) يوافق القلب وجهاز الدوران وعلى هذا المنوال يكون لكل عضو لونٌ خاص يساعد في علاجه.

هذه المقدمة استعراضٌ بسيط لما يستطيع الفن تقديمه للمتلقي، فيكون سبباً لراحته وشفائه ربما، إلا أن ما يمنحه الفن لممارسيه أمرٌ آخر، أعظم وأهم، فالفن أداةٌ سحرية للسيطرة على العوالم النفسية الداخلية للفنان تربط أناه الضيقة بالكيان المشترك للناس، وبالتالي تصبح مشكلته الخاصة أو حالته الفردية اجتماعية، فحسب رأي كولن ويلسن في كتابه اللامنتمي، على الفنان أن يكرّس نفسه لإنقاذ كيانه الوجودي فحسب، بعيداً عن النزعات الإنسانية.

حيث أن محاولته الخلاص على صعيده الشخصي من خلال ممارسته الفنية، سينتج عنها أعمال تحمل مضامين أوسع من فكرة العمل المباشرة والخاصة، فالفكرة تبدأ بتعرية شعوره في لحظة صدقٍ أمام لوحته البيضاء ليمدده هناك، ثم يعرضه للجمهور وبذلك يكون خفف الحمل قليلاً عن كاهله وأثقل فكر المتلقي بفهم الإشارات داخل العمل وتحميلها دلالة واسعة؛ لذا لا يفترض النّظر إلى عمل من الأعمال الفنية كحادث عابر، بل النظر إليه كحدث شخصي يحرّر الفنان إلا أنه ستترتب عليه آثار عامة، فهو ولد من الواقع الخاص وسيعود ليؤثر بالواقع الاجتماعي الأوسع من خلال فهم المتلقي.

لوحة فريدا كالو «مستشفى هنري فورد» عام 1932 مثالٌ على ما ذكر، والتي تصوّر بها نفسها عاريةً على سرير مشفى والدّم يملأ الملاءة البيضاء، وبيدها تمسك ستة شرايين الأول يرتبط بحلزون والثاني يرتبط بجنين والآخر جزء من الجسد البشري مقتطع من البطن إلى الحوض وكأنه وسيلة إيضاح في كلية الطب، الشريان الرابع مرتبط بعظم الحوض والخامس بزهرة ذابلة أما الأخير يصل لجهاز معدني ملائم لخلفية العمل المملوءة بالمعامل ودخانها؛ في هذه اللوحة كانت كالو تفرّغ الألم الذي اعتصرها بعد إجهاضها الثاني فصورت نفسها على السرير في الفراغ تحيط بها أشياء لزجة، ذابلة، معدنية.... هذه اللوحة صرختها التي رسمتها وعرضتها للجمهور، وباعتقادنا أن المتلقي للوحات فريدا لا يمكنه فهم المراد الدقيق، أو سماع الكلمات التي حملتها الصرخة التي أُطلقت أثناء الرسم مالم يكن ملماً بحدًّ أدنى من المعلومات عن فريدا كالو الفنانة المكسيكية.

بدأت معاناتها في عمر ست سنوات أصيبت بشلل الأطفال ثم تعرضت لحادث مروّع للحافلة وهي في الثامنة عشر من عمرها سبّب كسوراً في حوضها وعمودها الفقري وتركها سجينة أمراضها حيث خضعت بسببه لأكثر من ثلاثين عملاً جراحيّاً، ولم تنته معاناتها هنا فقد أصيبت لاحقاً بالغرغرينا والالتهاب الرئوي الحاد.

فكان الفن رفيقها منذ بداية مرضها ووسيلتها للتعبير عن آلامها الروحية والجسدية، فهو عصاها تهشّ به على أشجار روحها فتتساقط ثمارها على اللوحات.

نجدها تصوّر نفسها في لوحة «الأيل المجروح» 1946بجسد أيل له وجه فريدا ولها قرونه المتفرّعة، يتنصف الغابة التي لا يظهر منها سوى جذوع الأشجار وحيداً، بجسده تسعة سهام أسالت الدماء، هذه السهام هي أمراضها، مصائبها، عملياتها الجراحية التي هاجمتها وهي مسالمةٌ كأيل لكن الحياة كانت صياداً ماهراً لم يرحمها بسهامه، ومع ذلك بقيت منتصبة؛ هذا العمل يصوّر قوة فريدا وتحملها للمصائب بصمت لا يسمعه سوى جمهور أعمالها.

صنعت فريدا بمخيلتها التي أخذت مادتها الخام من واقعها المرير، عالماً جديداً يخصها غرائبي سريالي، كأننا نشاهد حلماً يمرّ في منامها يتأرجح ما بين الفكر الأبولوني والاستسلام الديونيسي(1)؛ وفي كلتا الحالتين منحتنا امتياز رؤية البعد الرّوحي والجمال الداخلي من خلال أعيننا؛ وأصبح سبب ممارستها الفن والذي يتمثل بإيجاد صيغة للتعبير عن الأسى وتصوير شكلها الداخلي وتفريغ شحناتها النفسية، غايتها الأساسية من هذه الممارسة، وقد أطلق الفلاسفة على هذه الحالة اسم «العلّة الغائية».

في لوحاتها تتشابك قضايا سياسية ورموز لحضارات متنوعة (الحضارة المكسيكية والفرعونية والحضارتين اليونانية والرومانية وغيرها....) مع الشجن الداخلي وهذا يرجع إلى رغبة فريدا بأن تعتبر ما تعانيه هو جزء لا يتجزأ من معاناة بلادها ومن القسوة التي تحكم العالم على مدى أزمانه، فنجد في الصفحة 41 من دفتر يومياتها جسداً برأس ثور يذّكر بالإله جانو الرّب الرّوماني، يرمز هذا الإله للعنف والقسوة، وعلى يمين هذا الثور نجد جسد فريدا مرميّاً فوق عامود أثري، وكأنّ انفجاراً حلّ بمنتصفه فتناثرت أعضاؤها: كف، عين، رأس.

وفوق الشكل كُتب: (أنا التّفتّت....) وكأنها ضحية هذا الإله القديم، ضحية من ضحايا الحياة.

وفي الصفحة 128 من المذكرات ذاتها نجد أن فريدا قسّمت الصفحة لأربعة أجزاء غير متساوية في الجزء اليميني العلوي كتب: كل شيء معاكس/أنا؟/شمس/و/قمر/أقدام/و/فريدا/ وبجانب الكتابة آثار قدمٍ يمنى ـ قدمها التي بُترت بسبب الغرغرينا ـ وفي يسار اللوحة تتمدد فريدا باكية بوجه أصفر متدثرة بغطاء بنفسجي وفوقها شمسٌ مستعرة برتقالية وحمراء اللون مكتوبٌ بجانبها (لون السم) –الشمس إله في حضارة الآزتك تجدها فريدا تحمل لون السم وتتوسط السماء- ، في الأسفل قمرٌ أصفر مدفونٌ بين الجذور المخالطة للدم الذي تشربته الأرض(2).

إذن وظيفة الفن هنا هي تطهير الانفعالات النفسية من أدران الواقع، وعرضها للجمهور بعد تحميلها جماليات العمل الفني، حيث أن محاكمة الأمور داخل العمل الفني مختلفة عن محاكمتها في الواقع، ومن هنا كان مصدر الغبطة والمتعة التي نشعر بها بعد مشاهدة عمل فني مأساوي إلى حدًّ ما، كالمتعة التي ترافقنا أثناء تأمّل لوحات فريدا وفكّ ألغازها مع أننا نعرف أننا نشاهد صورة للوجع الذي كان يسكنها، وكالمتعة التي تكتنفنا ونحن نتأمّل لوحة (ليلة النجوم)1889 التي تمثّل ليلةً في مدينة سان ريمي دو بروفانس، مشهد ساحر، هضاب وبيوت بعيدة، سماء مقمرة بصحبة نجوم متلألئة، منفّذة بألوان زيتية تلتف مع الفرشاة بخطوط متموجة ساحرة، تعتبر هذه اللوحة من أجمل أعمال فان كوغ، يشغلنا جمالها دون أن نلقي بالاً أنه رسمها من غرفته في المصح العقلي، وكان بذلك يحاول تخليد تلك الليلة التي كانت تطلّ عليها نافذته، والتي شغله جمالها عن مكان وجوده ألا وهو المصح، أخرج فان كوغ في هذا العمل كمية من توتره الداخلي نبصرها من خلال الآثار التي تركتها في العمل كالخطوط المتقطّعة التي لم يمكّنها توتره من السير في خط مستمر، وكذلك نلمح التيه الذي يعتمر روحه من خلال مراقبة الدوامات اللونية التي تبتلع سماء العمل كزوابع، والسوداوية تظهر بخفر فهو يرسم مشهداً ليلياً يستدعي ألوان كامدة غامقة، إلا أنه أضاء القمر ونجومه في لوحته وكأنهما برائق الأمل في حياته الكئيبة.

أما لوحة (الصرخة) للفنان النرويجي إدفار مونك فلم يتسلل مرضه النفسي إليها بل كانت بمجملها أيقونةً للقلق الوجودي للكائن البشري، حيث كتب الفنان في مذكراته الحادثة السوداوية التي مرّ بها ومن ثم رسمها في لوحته: (كنت أسير في الطريق برفقة صديقين عندما غربت الشمس فجأة، غدت السماء حمراء، لها لون الدم. توقفت وملت على السور وقد غلبني إرهاق لا يوصف. كانت ألسنة اللهب والدم تمتد على الزرقة المسودة لمياه الخليج. واصل صاحباي السير وبقيت واقفا أرتجف من شدة الخوف.. ثم سمعت صرخة الطبيعة هائلة وبلا نهاية». رسم نفسه بصورة رجل يمسك رأسه بيديه ويصرخ حتى نكاد نسمع ارتداد صرخته عند مشاهدة العمل، في الخلفية رجلان بعيدان وسماء حمراء غاضبة، وقد فسرّ علماء النفس الحادثة التي مرّ بها مونك بأنها تجربة ذهانية حادة وقصيرة؛ قد عايش خلالها رهبة الوجود ووحشته، لكنه استطاع أن يخضعها لأدواته ويحبسها ضمن لوحته، وبذلك حبس الرعب الذي كان يحبسه بدوره، وقيّده بخطوط وأشكال وألوان.

بدأت معاناة مونك بموت أخته وأمه بالسل، ثم تربية والده القاسية له، إضافة لمعاناته مع العديد من الأمراض مما جعله يشعر أن شبح الموت يطارده طوال الوقت، وقد حاول التخلص من هذه الهواجس في داخله وتصديرها إلى أعماله التي نذكر منها بعض العناوين: «الفتى المريض» «موكب الدفن» «موت في غرفة المرض» «صراع الموت» «قصة الموت».

رهاننا إذن على الفن الذي سيبقى دائماً صنو الحياة وسيبقى قوياً ينتشل الفنانين من كبواتهم، ورهاننا على الفنان الذي سيبقى يقبس من ناره الداخلية -رغم كلّ الألم- شعلةً يضيء بها ما حوله، فيكون ساحراً بفنه كأورفيوس الذي سحر من حوله بموسيقاه، ساحرٌ يخرج الحزن من داخله بإتقان شديد ليحوّله لأعمالٍ فنية وحمامات بيضاء تمنحه سلاماً وسكينة.

فالإحساس الحقيقي والانفعال العميق هما المادة الخام لصناعة أعمال فنية تشكيلية وأدبية وموسيقية وسينمائية عظيمة.... هناك قول شائع نجهل قائله لأول مرة (الإبداع يولد من رحم المعاناة) أي لابد من التجربة العميقة للفنان قبل أن يتمكن من تحويل مشاعره لمادة ملموسة وقبل أن ينتج فناً حقيقياً يكون وسيلته للنجاة من تلك المعاناة.

هوامش:

1- ديونيسي وأبولوني تعبيران أدخلهما فريدرك نيتشه، يمثّل فيهما أبولو العقل والحضارة، بينما ديونيس يمثّل الغريزة والطبيعة الخام.

2- المعلومات عن مذكرات فريدا من كتاب (يوميات فريدا كالو/ لوحة حميمة) ترجمة علاء شنانة/إصدار دار نينوى/دمشق/2011

بسمة شيخو كاتبة سورية