No Image
عمان الثقافي

استبدال التأمل بتفاعل مسعور! «الرسائل».. كطبعة أيدي الصيادين في الكهوف

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

كانت هنالك بصمة يد بشرية قبل 30 ألف سنة، دُمغت على جدار كهف «تشوفيه بوند دي آرك» في جنوب فرنسا، وكأن أحدهم حاول أن يقول: «كنتُ هنا يوما» كما يشير لذلك كتاب «العاقل» ليوفال نوح هراري. فإنسان الكهف منذ ذلك الأمد البعيد، أراد أن يترك رسالته للعالم الذي سيأتي بعده، كما فعل الصيادون الجامعون قبل 9 آلاف سنة، الذين تركوا طبعات أيديهم أيضا في «كهف الأيدي» في الأرجنتين، «تبدو الأيدي الميتة منذ آمادٍ بعيدة وكأنّها تحاولُ الوصول إلينا»، أو قول شيء ما، تلك الرسائل البدائية أثارت بداخلنا أسئلة جامحة حول رغبة الإنسان في ترك تلويحة ضئيلة للعالم القادم!

عندما غادر الإنسان البدائي الكهف، لم يتخلص بيسر من رغبته في كتابة الرسائل وإن اختلفت مقاصدها وأساليبها، لقد ترك لنا رسائله على القبور والألواح والجدران، إلى أن تطور الأمر إلى الصيغة التي نعرفها اليوم، كأنّ «المُرسل» لن يُوقف رسائله إلى أبد الآبدين، لأنّها تشكل شيئا من حقيقته وهوسه وشغفه بالإخبار عن شيء ما يعبر حياته.

لكن من جهة أخرى، وفي فوضى حواسنا واضطراب إحساسنا بالزمن، لوحظ في الفترة الأخيرة اختفاء الرسائل من الأدب، أو تزحزحها إلى الهامش، أو ربما أخذت شكلا آخر، فقد أحدثت «التكنولوجيا» الحديثة تغيرا محسوسا، فهل كتب هذا التغير نهاية الرسائل التقليدية، وبداية شكل آخر!

ليس عندنا ساعي بريد

«نادرا ما نجد في صندوق البريد شيئا جديرا بالاهتمام، ومع ذلك نستمر في انتظار الرسائل». هذا ما تقوله فرجينيا وولف، وأفكر الآن بهذه المشاعر التي يخسرها الجيل الجديد.. فلم يعد بإمكانهم أن يشعروا بنشوة وصول رسالة بواسطة اليد وعليها طابع بريدي من رائحة بلد آخر، فتوقف الرسائل قضى على وظيفة ساعي البريد وقلل فوائد المكاتب أو ربما استبدلت الرسائل بمنافع أخرى، ولكننا بالمقابل لم نعد مضطرين للانتظار أسابيع إلى أن تصل رسائلنا أو انتظار أن يُرد عليها خلال شهور أخرى، لم نعد نقع في الحيرة حول إن كانت مكاتباتنا تصل لأصحابها أم تضل طريقها!

هنالك أيضا من رأى الارتباط الوثيق بين الحب والرسائل في مجتمعات مُتحفظة، بينما الآن يتيسر اللقاء بين الأحبة دون حاجة لمكاتبات سرية وكان آنذاك يمثل الرومانسية في أوجها، وبعضٌ آخر رأى أننا نكابد الآن ضعفا عاما في الكتابة.. فالكتابة تذهبُ إلى مباشرة وظيفتها السطحية، ألا وهي الإخبار، فلم تعد لها قيمة أبعد من لحظتها الفانية، فضلا عن السرعة التي تخطفنا جميعا، وتخطف إمكانيات التأمل، فلا تتيح للكاتب أن يعيش هناءة التبصر في الأفكار.

الفيلسوف والروائي أمبرتو إيكو وجد أن الغرض من حياته هو تجنب الرسائل الكثيرة التي تصله وليس الذهاب إليها!

اضمحلال التأني العذب

والسؤال: ترى هل الإنسان الذي تحكمه قبضة الآلة الآن أكثر حرية من إنسان الكهف الذي ترك لنا رسائله المُعبرة عن تصوراته البدائية لنفسه وللكون المحيط به؟ وهل الآلة التي تُقنن عدد كلمات رسائلنا، تتحكم -بطريقة ما- بمشاعرنا؟ وهل نحن حقا إزاء كائن بشري مُعاصر ملول يبحث عن «زبدة الحكي»، بينما كان إنسان الكهف يمد تصوراته لآفاق غير محدودة؟

هل تغير الزمن حقا حيث لم يعد بيننا من ينكبُّ لساعات طويلة مُدبجا رسائله بالكلمات والأفكار، مُعتنيا بخط يده، سارحا بين كل جملة وأخرى.. هل اضمحل ذلك التأني العذب؟

وكما يبدو فإن تطور التقنية يُصيب لغتنا وأساليبنا بنصيب من التأثر، فتظهر فنون كتابية وتضمر أخرى، ولكن السؤال الأهم: هل نختلف نحن كتاب رسائل بين ما يمكن أن نكونه على صفحات أوراق بيضاء وبين ما قد نصير إليه في وسائل التواصل الجديدة؟

يقول عالم الاجتماع البولندي زيجمونت بومان‏: «إن محادثاتنا على الإنترنت والهواتف والرسائل النصية على مدار ٢٤ ساعة يعمل على استبدال تأمل النفس بتفاعل تافه مسعور».

علينا أن نفكر مليا في هذه الأسئلة: هل يمكن لهذه الآلة أن تغير شيئا في دفقة المشاعر التي نشعر بها؟ هل تولد التقنية الحذر؟ هل تبعثرت الحالة الحميمية التي تملكت الإنسان القديم؟ ولعل السؤال الأهم بينها: هل كان الكاتب يتمتع بالحرية رفقة الورق أكثر من تلك التي ترافقه الآن في رحلته مع الأجهزة الصماء؟ بمعنى آخر: هل صرنا نقول الأشياء بشكل مباشر عندما خذلتنا المواربة؟ هل يمكننا أن ننظر الآن لهذه الأجهزة التي تُعيد استقراء أسرارنا بدقة باعتبارها أقل براءة من الأوراق؟ فنحن الآن لسنا مكشوفين أمام الأصدقاء وحسب، بل تتحول رسائلنا ورغباتنا وأمانينا إلى منظومة بيانات نُصنفُ بحسبها، بل ربما يتم عبرها التحكم بنا!

لذا أليس جديرا بنا أن نرتعب ونحن نُسلم رسائلنا إلى جواسيس استقراء البيانات؟!

قُدر لبعضها أن يغدو أيقونة أدبية

ربما لم يكن مخططا للكثير من المراسلات أن تصير أدبا في لحظتها، فلقد كتبت بكل عذوبتها وقسوتها، بهيجان مشاعرها ورقتها، بتأنيها وتعجلها دون أي نوايا أن تصير شيئا متاحا لأعين العالم. لكن قُدر لبعض الرسائل الخلود كأيقونات تُزاحم أشكال الآداب الأخرى. بعضها نتاج نقاشات أدبية أو سجالات حوارية، وبعضها الآخر نشأ من قصص الحب المُخبأة أو المُعلنة، ولذا ليس غريبا أن يُطلق نزار قباني على البريد مُسمى «موزّع الأشواق».

فالرسائل أشبه ما تكون بهدايا تبزغ من مكان سري لتضيء الروح وتُخرجها من رتابتها في وقت كانت المُلهيات قليلة والوقت كافيًا لتأمل التفاصيل الصغيرة.

«ويرى البعض أنّها تجاوزت في جمالياتها وتقنياتها الفنية الكثير من المنتج الأدبي نفسه، وأسست جنساً عُرف بأدب الرسائل».

لقد ترك لنا التراث العربي والإسلامي كما ترك لنا العالم إرثا خصبا من المراسلات، فقد «ظهر أدب الرسالة بعد توسّع الفتوحات العربية والإسلامية وتأسيس الدولة نتيجة إلى بعد المسافة الجغرافية بين المرسل والمرسل إليه، مما خلق حاجة إلى اعتماد الكتابة كوسيلة للتواصل». هنالك أيضا رسائل إخوان الصفا، رسائل ابن عربي، مقامات بديع الزمان الهمذاني التي تمتعت بدرجة عالية من البلاغة وروح الفكاهة.

الشخصي يتحول لوثيقة

علينا أن نتخيل المُرسِل، في تلك الحياة البعيدة بأوجهها المتعددة، حيث يمر الوقت ببطء، بينما يُدبجُ المُرسِل عباراته قابضا على ريشته فوق بياض الصفحات مفكرا بحساسية كل كلمة سيكتبها لحبيبة أو لصديق أو لعائلة. ولقد ذكرتُ في مقال سابق مراسلات بعض الكُتاب التي تحولت لأيقونات أدبية خالصة، كقصّة أوسكار وايلد الذي كتب 80 صفحة ضمن أوراق السجن الزرقاء، «لا ليدافع عن سلوكه بل لكي يوضحه»، بعد أن سُلبت منه حياته الصافية، وزُجّ به في السجن. كتب رسالة غير نمطية عام 1897 فتحولتْ إلى سيرة شديدة الجاذبية. «تلك الصراحة القاسية ولوم الذات وإبكائها دون تحفظ»، وذلك التحول اليائس من أوسكار العظيم إلى مجرد رقم (3.3.ج)! ورغم أنّ أوسكار كتب بأنّ «العالم لن يعرف شيئا عن طبيعة كلمات الأسى أو العاطفة أو الندم أو اللامبالاة» التي كتبها، ظنا منه أنّ الرسالة لن تتجاوز المرسل إليه إلا أنّ كلماته تُقرأ وتترجم إلى يومنا هذا.

وكما يمكن للصورة الفوتوغرافية أن تُجمد الزمن يمكن أيضا للرسائل أن تفعل الشيء ذاته، مقدمة انتصارها عليه، وذلك عبر ما نستطيع استقراءه حول الظروف السياسية والاقتصادية الاجتماعية المتمثلة بنمط العلاقات بين الناس، كما يمكن لتلك المساجلات أن تكون كاشفة عن وضع ثقافي فكري لمرحلة ما، كما حدث بين الكاتبة الأمريكية «هيلين هانف» التي أخذتْ تُكاتب متجر الكتب المستعملة في لندن بواسطة فرانك دويل لمدة عشرين عاما، وذلك لتأمين الكتب المستعملة التي لا تجدها في نيويورك، فوثقتْ هانف تلك المراسلات ضمن كتاب «شارع تشيرنغ كروس 84»، في عام 1949، وعبر تلك المراسلات الشيقة عثرنا على تفاصيل حياة كاملة، وقد تحولت هذه الرواية إلى فيلم من بطولة آن بانكروفت وأنطوني هوبكنز.

ومن الأفلام التي ارتكزت فكرتها على تبادل الرسائل أيضا فيلم you have got mail، من بطولة توم هانكس ميج رايان.

فمن كان يظن بإمكانية تحول الرسائل الشخصية الحميمية إلى وثيقة تتجاوز المُرسل إليه، لتمر عليها أعين ولغات العالم؟ في الحقيقة.. الأمر حقا فوق تصور الخيال والظنون. ذلك الإيقاع الزمني الذي يتكثف ليصنع هالته العظيمة، فعلى سبيل المثال: هل ظنّ الطفل ابن الثانية عشرة أنّ رسالته الأولى إلى أمّه ستكتسب كل هذه الأهمية لتبقى وثيقة إلى اليوم؟ يمكننا أن نتيقن من ذلك عندما نقرأ «الرسائل» التي تداولها دوستويفسكي مع أفراد عائلته في القرن التاسع عشر ناقلا عذابات الفرد وفرحه، جوعه ورغباته وشقائه وانتصاراته القليلة، في مجلدين يضمان 250 رسالة تتناول جميع مراحل حياة الكاتب، منذ الرسالة التي أرسلها إلى أمّه وحتى الرسالة التي أملاها على زوجته وهو على سرير الموت.

وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمراسلات التي دارت بين دوستويفسكي وتورغينيف التي كشفت، «عن البُغض النفسي والعاطفي بينهما، فكل شيء كان يثير كراهية متبادلة، رغم أنّ كل واحد منهما يُدرك بصمت موهبة الآخر»، وغيرها العديد من المكاتبات التي تحولت إلى وثيقة شاهدة على عصرها.

أتذكر الآن شكلا من أشكال العزلة، ومن انطفاء الحوار بين أمّ وابنتها، كما ظهر في رواية «حياة على باب الثلاجة» للكاتبة الإنجليزية أليس كويبرز. فتاة مراهقة اسمها كلير، وأمّها المنفصلة عن والدها، تعمل طبيبة توليد في مناوبات ليلية، الأمر الذي كان يُصعب لقاء البنت بأمّها. تبدو الحياة بينهما شديدة الانفصال، ولا يجمعهما سوى نتف رسائل مُعلقة على باب ثلاجة. الرسائل بينهما شبه جافة، حول ما تصنع إحداهما للأخرى من طعام أو شراء للأغراض، تفاصيل صغيرة عمّا قد يحدث في مدرسة البنت أو مستشفى الأمّ. لا تدخل الرسائل في سرد متصل، الأمر الذي يعزز شعورنا بالعلاقة الفاترة والباردة بينهما. تكتب كلير: «أتصرف وكأنّ لا أحد غيري في هذا العالم، وكأنكِ لا تحتاجين إليّ»، ولكن نبرة الرسائل ووتيرتها تتغير، فما أن تصاب الأمّ بالسرطان، حتى تتشنج الرسائل ويعلو منسوب القلق فيها.

هنالك رسائل كُتبت بسبب الحزن اللامحدود لأحبة رحلوا عن الحياة، ولم يكن من السهل تجاوزهم، الرسائل كانت شكلا من أشكال استعادتهم لإخراجهم من شبحيتهم المؤلمة كعزاء أخير، وأتذكر هنا رسائل أحمد الراشدي لابنته فدوى، ورسائل شريفة التوبي لصديقتها سعاد، حيث تجلت العذوبة الإنسانية في أعمق صورها.

الأشباح تشربها في الطريق

يتهيأ لنا إمكانية وجود رسائل مخفية لم تُكشف بعد، ولم تُخرج إمكانياتها السحرية، فهنالك تصور مرعب - من قِبل الكُتاب أنفسهم- بأن تغدو مراسلاتهم مكشوفة، وأن تكون حياتهم الخاصة في يد الآخرين. هنالك خشية تتعلق برقابة المجتمع أو الرقيب الأعلى في ظرف الكتابة وما يجاوره من ظروف أخرى، لكن الأمر يغدو هينا بعد موت المُرسِل، إذ يمكن لرسائل الميت أن تستقبل بدرجة أقل من الحدية.

بينما قد لا يحتمل الإنسان العربي الرسائل التي تقول رأيا يصدم قناعاته وقد يراها شأنا فضائحيا، «فالروائي والأديب الراحل سهيل إدريس الذي امتنع عن نشر بعض الرسائل والتي إن عُرفت لأدت إلى حرائق في الكثير من المنازل».

ورغم أنّ إيزابيل الليندي تقول: «الجميع يَندمون فيِما بَعد على رسائل الحُب التي كَتبوها»، إلا أنّهم أرسلوها على كل حال، وقد نقلها ساعي البريد من يدٍ إلى أخرى، فتحولت من شأنٍ شخصي إلى شأنٍ عام قرأته جموع النُخب وتُرجم بعضه إلى لغات مختلفة، وتنافستْ دور النشر على اقتناء حقوق الطبع، لا سيما للأسماء الكبيرة من الكتاب والأدباء، فصرنا أمام ثراءٍ فارق.

وعلينا ألا ننكر بأن الفضول يدفعنا لنعرف هؤلاء الكتاب من مسافة قريبة، مساحة جيدة لإظهار ما قد لا يظهر في الكتابة الأدبية، مساحة للاعتراف والتعبير عن الحميمي وعن الآراء الحادة أو الودودة دون الحاجة للتخفي وراء الشخصيات. حصل هذا عندما قرأنا رسائل من سيلفيا بلاث، رسائل مارسيل بروست، رسائل أنطوان تشيخوف، مراسلات بين غوركي وتشيخوف، رسائل يونغ وفرويد، رسائل محمود درويش وسميح القاسم، فيرناندو بيسوا وحبيبته، غسان كنفاني إلى غادة السمان، هنري ميلر إلى أناييس نن، أنطونيو غرامش إلى أمّه، كافكا إلى ميلينا، نهرو إلي انديرا، رسائل متبادلة بين جبران خليل جبران ومي زيادة، ديكارت واليزابيث.. والعديد مما لا يمكن حصره في هذه العجالة.

وكما يقول كافكا: «يتعرّى الكُتاب في رسائلهم، ويبكون ويركعون ويخونون». ويقول أيضا: «كتابة الرسائل، معناها أن يتجرد المرء أمام الأشباح، وهو ما تنتظره تلك الأشباح في شراهة، فلا تبلغ القبلات المكتوبة غايتها، ذلك أن الأشباح تشربها في الطريق».

لقد كان كافكا يخاف من الرسائل، رغم أنّه كتب آلافًا منها، فقد كتب ذات مرّة إلى خطيبته ميلينا، بأنّه يكره كتابة الرسائل، وليس أدل على سوداويته من أنّه أمر في إحدى رسائله صديقه ماكس أن يحرق رسائله كلها، وربما من حسن حظنا أن صديقه لم يفعل. هنالك أيضا رسالة فاتنة كتبها كافكا إلى والده وقد نشرت في عدد يناير ٢٠١٧ من مجلة نزوى، وكانت مليئة بالجرأة والأسئلة واللوم.

هنالك من الكُتاب من لا يجد مشكلة في هذا التعري والانكشاف، وبث المشاعر تماما كما تعتمل في نفسه. وهنالك من يجد أنّه أمام عائق هائل لا يستطيع تجاوزه!

أنقذتهم أم عقّدت مصائرهم !

قرأنا في مقالاتٍ عديدة، عن عديد من الكُتاب الذين أنقذتهم الرسائل وأنقذت أحبتهم وأنقذت وهجهم أو عقدّت اشتباك مصائرهم بالآخرين، فعلى سبيل المثال كتبت مارغريت دوراس إلى زوجها عقب الحرب العالمية الثانية، بعد أن اكتشفت أنّه كان سجينًا في معتقل نازي. وعرفنا وجها آخر لبورخيس غير الذي نعرفه في كتاباته وقصصه، عندما أظهر عشقه للكاتبة الأرجنتينية ستيلا كانتو. ريلكه كتب لمحبوبته سالومي: «يوما ما، بعد سنوات، ستفهمين ما تمثلينه لي. ماذا تمثل عين الماء في الجبل للعطشان»، مثلما ترك غسان كنفاني رسائله لغادة السمان والتي نشرَتها بعد عشرين عاماً من وفاته. ومن لا يعرف عن مكاتبات هنري ميلر لأناييس نن: «للمرة الأولى في حياتي أنا منغمس تماماً في كائن آخر، فيكِ/ لقد صعدتُ من أعماق سحيقة لأعثر عليكِ»، أو عن علاقة سارتر بسيمون دي بوفوار، «حبي يُغير الأشياء من حولي».

يتحول البريد لمادة أساسية في الأدب أيضا من مثل رواية أنطونيو سكارميتا «ساعي بريد نيرودا»، فماريو قرر ألا يعمل في الصيد كأقرانه، ورغب بشدة أن يصبح ساعيا للبريد في قرية لا يوجد فيها إلا رجل واحد يرسل ويستقبل البريد، إنّه بابلو نيرودا العظيم، فنشأت بينهما علاقة قوية، منشأها الأول الرسائل والبريد. ماريو أراد أن يكون شاعرًا، لكن «الشعر ليس ملك الشاعر وإنّما ملك من يحتاجه».

تزدهر أو تموت !

تحوُّل الرسائل إلى كُتبٍ حماها من الضياع وكشف جوانب سرية وغامضة في نفوس الكتاب. لقد كتبت سعاد قوادري، أرملة الروائي الكبير عبدالرحمن منيف لمجلة نزوى حول رغبتها بنشر رسائل دارت بين زوجها الراحل منيف والناقد فيصل درّاج في مجلة «نزوى»، حتى لا تذهب رسائلهما سدًى، وحتى تتبلور في صياغات جدية وفاعلة، لا سيما وأنّ تبادل الرسائل كان فنًا رائجًا، ونشرت مجلة نزوى أيضا تراسليّة عابرة للأقطار والأجيال، بين تجربتين مختلفتين في الحياة والمعرفة التخييليّة، كانت بين الرّوائي البلجيكي جورج سيمونون - الذي اشتهر بروح انضباطه العالية في العمل الإبداعي، وإخلاصه الشديد لأعراف الجنس الروائي، فقد أنتج ما يربو على مائة رواية - وبين السّينمائي الإيطالي فديريكو فيلليني الذي اشتهر بكتابته السينمائية الطّريفة والمبتكرة التي خرجت عن الكثير من تقاليد الجنس السينمائي المتعارف عليها في حينه وقد أعد المادة وترجمها الروائي المغربي أحمد الويزي.

ولكن السؤال الآن: هل فن الرسائل موشكٌ على الانتهاء؟ بعد أن تحولت صوره ووسائطه من جدران الكهوف والجلود وأكتاف الجِمَال إلى الوسائط الحديثة؟ هل ستسمح هذه العجالة والوسائط الجديدة بتشكل أدب جديد؟ وهل ما يدور بين كتّاب عصرنا الراهن من خواطر ورسائل قصيرة عبر الشبكة العنكبوتية، سيبقى محفوظًا وذا أهمية لأجيال لاحقة؟

في الحقيقة نحن لا نعرف الإجابة على وجه الدقة، كما لا نعرف لماذا قُدر لبعض الرسائل أن تموت وتهمل وقُدر للأخرى أن تعيش وتزهر لتهز مشاعر أجيال متعاقبة، وكأن قدر بعض التجارب الإنسانية أن تكون كطبعة أيدي الصيادين التي ستظل تلوح طويلا لمن سيأتي بعدها، وبعضها كطبعة اليد على سطح الماء تتلاشى فور ما أن ترفع يدك عنها.

هامش:

تمت الاستفادة من مقالات سابقة للكاتبة، نُشر أحدها ضمن كتابها «تأمل الذئب خارج غرفة المكياج» وحمل عنوان: «التعري أمام الأشباح»، بالإضافة إلى مقالين نشرا في جريدة عُمان وهما: «التلويحة الغامضة للكلمات»، «نفاد الوقت على باب ثلاجة».

هدى حمد روائية وصحفية عمانية