No Image
رأي عُمان

صعود القطبية التكنولوجية

16 يوليو 2025
16 يوليو 2025

تزاحم التكنولوجيا الدول على عرش النفوذ.. اتضح ذلك جليا خلال السنوات الأخيرة، ليس بدءا بما يفعله إيلون ماسك حينما عطل خطة عسكرية أوكرانية بمجرد رفضه توسيع تغطية «ستارلينك» إلى القرم، وليس انتهاء بما تفعله التكنولوجيا في دعم الحروب الجديدة وتوفير كل متطلباتها اللوجستية والاستخباراتية بكل يسر وسهولة.

اتضحت الآن معالم منظومة قوى جديدة، مع تحول عميق يُعيد رسم خريطة السلطة خارج حدود الخرائط السياسية التقليدية.

منذ معاهدة وستفاليا ظلّت الدولة الوطنية محور النظام الدولي. أما اليوم فتبرز «القطبية التكنولوجية» بوصفها بديلا يفرض نفسه؛ شركات مثل «سبيس إكس» و«مايكروسوفت» و«بالانتير» تشارك في صياغة مسارات الحروب، وتؤطر النقاشات العامة، وتتحكّم في البنى التحتية للاقتصاد والجيوش معا. صار المدير التنفيذي يملك مفاتيح كانت حِكرًا على رؤساء الدول ووزراء الدفاع.

ورغم خطر ذلك إلا أن رد الحكومات تأخر وبقي بلا فاعلية حقيقية؛ فرغم بعض التشريعات التي أصدرتها دول في الاتحاد الأوروبي إلا أن الشركات هي من تضع القواعد وتطبقها وتتحكم في خوارزميات توزيع المعرفة. وأسهم الذكاء الاصطناعي في تسريع هذا الانزياح، فموارد الحوسبة والبيانات مركَّزة في أيدي قِلّة، تجعل الدول نفسها زبائن محتاجين لخدمات القطاع الخاص.

ينتج هذا المشهد نموذجا مزدوجا محوره الولايات المتحدة - حيث تتحالف الحكومة مع شركات وادي السيليكون - ويقابله نموذج صيني تُمسك فيه الدولة بجميع خيوط الفضاء الرقمي.

ستجبر دول كثيرة على الاصطفاف مع أحد القطبين، من دون ضمانات كافية لحقوق المواطنين أو شفافية اتخاذ القرار. وتظهر في الأثناء كيانات هجينة مثل «وزارات الكفاءة الحكومية» التي تسمح لرجال الأعمال بالتحكّم في وظائف عامة وجمع بيانات حساسة بدعوى الإصلاح.

لا يميل المستقبل الرقمي إلى الليبرالية الخالصة ولا إلى السلطوية الخالصة؛ بل يتجه نحو مساحة هجينة، متشظّية، تتداخل فيها المصالح التجارية بالأمن الوطني، ويضيق فيها هامش المساءلة. السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت الشركات ستتفوّق على الدول، بل ما إذا كانت المجتمعات المنفتحة قادرة على حماية آليات التوازن والرقابة في حقبة يتحكّم فيها مبرمجو الشيفرات بمصير الأمم.

إن من يملك الشيفرة اليوم قد يملك المستقبل غدا؛ وما لم تُبتكر أنظمة حوكمة تُلزم هذه القوة بالشفافية والمحاسبة، فإن العالم مقبل على نسخة جديدة من التحكم في العالم بدون جنرالات ولا أيديولوجيات، بل خوارزميات وبرؤساء تنفيذّيين.