No Image
رأي عُمان

الإنسانية في ميزان غزة

15 يوليو 2025
15 يوليو 2025

تجاوزت مأساة غزة حدود ما يمكن للعقل أن يستوعبه من بشاعة الحروب، لم تعد مجرد جريمة ضد شعب أعزل، بل تحوّلت إلى مختبر دامٍ تُختبر فيه قدرة الإنسان على تسويغ القتل، وتُفضَح فيه أنظمة العدالة حين تعجز عن لجم الطغيان. ما يحدث هناك ليس فقط سقوطا للقانون، بل سقوط للإنسانية ذاتها.

لقد انتهكت إنسانية الإنسان في هذه الحرب كما لم تنتهك من قبل إلى حد لم يعد أحد يستغرب غياب مجلس الأمن عن وقف هذه الجرائم، ولكن السؤال الأبرز هو أين إنسان هذا العصر؟ وأي معنى تبقّى للعدالة إذا لم تَعد تصرخ حين ترى الإبادة تُبث على الهواء مباشرة؟

تأسس النظام الدولي عقب الحرب العالمية الثانية بوعد ألا تتكرر المأساة الإنسانية، لكن غزة تكشف أن المذابح يمكن أن تتكرر، بشرط أن تكون الضحية «خارج السياق الغربي» والقاتل «داخل دائرة الحصانة». ومتى ما جُعلت حياة شعب بأكمله قابلة للدهس بذرائع الأمن والخوف والاستثناء؛ فإن العالم لا يكون قد فشل في تطبيق قوانينه فحسب، بل يكون قد تنكّر لإنسانيته.

إن جرائم إسرائيل في غزة من قتل للمدنيين والأطفال، وتدمير المستشفيات والمدارس لا يعطينا تصورا عن حجم انهيار الجانب الأخلاقي لدى هذا المحتل؛ فقد أثبت ذلك عبر الزمن وعبر كل أفعاله، ولكنه في الحقيقة يعطينا تصورا عن حجم التدهور العالمي في مفهومه للعدالة؛ فالعدالة لا يمكن أن تكون رهينة لتوازنات القوى، ولكن ذلك يحدث حينما يقيد دور المحكمة الدولية، حينئذ لا عجب أن تصير غزة مسرحا للمثل هذه الحرب التي يتفرج عليها العالم دون أن يحرك ساكنا. وهذا الصمت هو أبشع ما يحدث؛ فهو ليس حيادا، ولكنه تواطؤ. إن الصمت الذي يفضح أن الإنسانية -كما تُدرّس، ويُحتفل بها في المحافل الدولية- لا تشمل الجميع بالتساوي، بل تخضع لخرائط القوة، واللون، والمصالح.

أمام هذا السقوط المدوي لا بد أن نقول: إذا كانت عدالة القانون قد أُعطِبت فعدالة الضمير لا ينبغي أن تُصاب بالخرس. وإذا كانت المؤسسات عاجزة فإن الكلمة الحرة، والموقف الأخلاقي، وصرخة المظلوم، هي التي تبقى. صحيح أنها لن تستطيع تغيير موازين الحرب، لكنها وحدها ما تبقى لنا؛ كي لا نغرق جميعا في وحل التواطؤ.

وغزة اليوم ليست جرحا فلسطينيا أو عربيا، ولكنها علامة فاصلة على وجه الحضارة الإنسانية. علامة تقول بصوت لا يحتمل التجاهل: إما أن تبقى إنسانا، وإما أن تكون جزءا من الجريمة.