مرفأ قراءة .. إبداع بهاء طاهر ( 3-3)
-1-
نختتم هذه السلسلة من المقالات التي حاولت قدر الجهد والطاقة أن تكثف جماليات كتابة بهاء طاهر السردية، وإبداعه القصصي والروائي، بالإلماع إلى أبرز سمات كتابته الروائية والقضايا والأسئلة التي اشتغل بمعالجتها جماليا فيما ترك من روايات التي لم تكن كثيرة بحال، فلم يترك سوى ست روايات فقط.
واستكمالا لما عرضناه في سيرة بهاء طاهر الكتابية عموما، وإسهامه المعتبر في فن القصة القصيرة كما عرضنا لذلك في المقال السابق، يدور الحديث في هذا المقال عن رواياته الست التي كتبها خلال الفترة من 1981 حتى 2006، ومثّلت كل رواية منها نقلة فنية مهمة في مشوار بهاء طاهر، ونالت اهتمام النقاد والقراء على السواء ما يستحق التنويه بها وتسليط بعض الضوء عليها.
-2-
في مطلع ومنتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وعقب صدور روايتي «قالت ضحى» و«شرق النخيل» وبما أحدثهما ظهورهما من أصداء كبيرة، واصل بهاء طاهر العزف بمهارة فائقة على أوتار تلك الروح الإبداعية، فكتب رائعته «خالتي صفية والدير» (صدرت عن روايات الهلال عام 1991)، والتي صدّرها بمقدمة تمثل سيرة ذاتية مختزلة (كما أطلق عليها الناقد الدكتور سامي سليمان) كشف فيها عن تفاصيل غاية في الأهمية عن نشأته وتكوينه ورؤيته الإنسانية والفنية التي تبلورت منذ دراسته الأساسية حتى اللحظة التي كتب فيها هذه المقدمة.
في «خالتي صفية والدير» يستكمل بهاء طاهر الخيط الفني الساري في روايتيه الأوليين، وبالأخص استلهام البيئة المصرية الصعيدية شديدة الخصوصية التي تتأبى على الدخيل عليها وتستغلق على الغرباء منها، ولا تسلم دواخلها وأسرارها إلا لابن عزيز من أبنائها. سيتخذ بهاء طاهر من تيمة «الثأر» في الصعيد محفزا على البحث عن إيجاد أسطورة التعايش والجوار السلمي بين أصحاب الديانات المختلفة، حب صفية الذي يتحول إلى كراهية تؤججها مشاعر الانتقام والغضب ليس ثأرًا لمن قتل زوجها القنصل «البك»، بل لمن اجترح مشاعرها وطعنها في أنوثتها بإهمال ولا مبالاة.
في حوار سابق أُجري معه يكشف بهاء طاهر أن الكاتب لا يملك السيطرة أثناء الكتابة على مسار الأحداث والشخصيات، فبعض القصص قد تحمل في أحشائها جنين رواية مكتملة، ورواية أخرى ينتهي بها المطاف إلى مجرد «قصة قصيرة»، وضرب مثلًا على ذلك بشخصية «صفية» التي ظهرت كشخصية ثانوية في قصة «المقدس بشاي» التي تطورت بدورها لتصبح رواية مكتملة، وتحتل فيها «صفية» مكانها كشخصية رئيسية أو محورية تحرّك الأحداث وتقود دفتها إلى مصيرها المعلوم.
يقول بهاء طاهر «أظن أن الكاتب الواعي هو الذي يترك كامل الحرية لشخصياته في أن تفعل ما تريده وتتحرك وفق رؤيتها لا يفرض عليها الكاتب أي قيود أو ضوابط، وأن تأخذ أفكارها مجراها الطبيعي في سياق الأحداث والبناء العام للرواية».
وستحظى «خالتي صفية والدير» باهتمام نقدي وافر، إذ كتب عنها عشرات المقالات والدراسات النقدية، وأفرد لها الناقد صلاح فضل فصلا كاملا في كتابه «أساليب السرد في الرواية العربية» كنموذج على ما أسماه «الأسلوب الدرامي».
-3-
وتأتي انتقالة تالية، لكنها لافتة وفريدة، للمبدع الأصيل الواعي، المهموم بقضايا وطنه وامتداداته القومية، فيكتب رائعته «الحب في المنفى» (روايات الهلال 1994)، وقل عنها ما شئت: مرثية للحلم الناصري، توثيق فني لمذابح صبرا وشاتيلا، استشراف روائي لتغول رأس المال وجموح العولمة وغسيل الأموال، رصد دقيق للتحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع المصري خلال العقدين التاليين لحقبة الستينيات، وتوصيف جمالي مدهش لعلاقة المثقف بالسلطة في زمن الأنظمة الشمولية، وما بعدها.
تدور أحداث الرواية على خلفية عريضة تسع العالم كله وجمعت خيوط الواقع الإنساني المعاصر بأزماته الوجودية وإشكالياته المعرفية وتناقضاته الإنسانية في فنية متفردة ومن خلال لغة عذبة رائقة تفيض سلاسة وعذوبة، ورغم غلبة نمط الراوي المتكلم (الأنا) على هذه الرواية إلا أنه استطاع بحنكة وحرفية عالية أن يجعل هذا الراوي يحتوي على أصوات متعددة ومتباينة، وأن يجعل لكل صوت منها خصوصيته واستقلاله.
كل ما سبق جعل من الرواية حديث المدينة وقبلة القراء والنقاد والباحثين. وانتزعت صيحات الإعجاب من حناجر النقاد، فيصفها علي الراعي بأنها «رواية كاملة الأوصاف»، ويعدها الناقد الكبير شكري عياد «نمط جديد من الرواية الواقعية»، وتحصد الرواية جائزة أحسن في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1995.
-4-
في عام 2001، وبعد حوالي 7 سنوات من صدور «الحب في المنفى»، يكتب بهاء طاهر روايته الجديدة «نقطة النور»، يعاود بهاء البحث عن «نقطة النور» داخل أنفسنا، والكشف عن الحقيقة الإنسانية وجوهر وجودها في روايته الهادئة المظهر، وهي رواية في ظني لم تنل ما تستحقه من تأمل وتحليل، رواية خادعة، يغري مظهرها السردي البسيط بتناولها على أنها عمل واقعي اجتماعي، تعد بصورة أو أخرى استكمالا لما طرح بعضه في «الحب في المنفى»، لكني في الحقيقة أراها أعمق وأبعد من هذا كله، فمن خلال تقنية تعدد الأصوات التي تستحق دراسة دقيقة في كتابة بهاء طاهر، سنواجه ثلاثة أصوات متمايزة؛ صوت «سالم» الحفيد، و«لبنى»، و«الباشكاتب» الجد، متباينة تماما في لغتها وأحاسيسها وأفكارها وتصوراتها عن العالم وعن الأزمة التي يعانيها كل منهم..
حاول بهاء طاهر في هذه الرواية أن يقيم تماثلا بينها وبين فكرة الفرق بين «الروح» و«النفس» و«الجسد» عند قدماء المصريين، حيث كان المصريون القدماء يفرقون بين (الكا) و(البا).. رمزوا للروح التي تصعد إلى العالم العلوي بـ(الكا)، والنفس التي تظل معلقة بين العالمين بـ(البا)، هذه الفكرة للأسف لم يلتفت لها كثير من النقاد وقارئي الرواية.
-5-
وتأتي «واحة الغروب» 2006، آخر ما كتب بهاء طاهر، لتستحوذ على اهتمام القراء والنقاد وجمهور الرواية بشكل عام، بما طرحته من رؤية جديدة وتوظيف فريد أيضًا لتقنية تعدد الأصوات، ففي حين نرى أن تعدد الأصوات لا يظهر بوضوح وجلاء في رواياته الثلاث الأولى، نرى أنها شهدت تناميًا ملحوظًا وحضورًا لافتًا في رواياته الثلاث الأخيرة، وخصوصا في «واحة الغروب» التي يظهر فيها وبوضوح ظاهرة تعدد الأصوات، بما يجعلنا مطمئنين إلى أن نطلق عليها (رواية بوليفونية)، بحسب المنظر والناقد الروسي الشهير ميخائيل باختين.
فنحن لا نرى فيها صوتًا واحدًا مهيمنًا على مجريات السرد، بل نحن إزاء أصوات متعددة لا يطغى فيها صوت على صوت، فكل صوت يعبّر عن نفسه وذاته بوضوح واستقلال كاملين.
ويظهر هذا التعدد من خلال توزيع فصول الرواية الذي يوزع السرد على صوتين أساسيين (محمود-كاثرين)، وتستكمل السرد أصوات لاحقة (الشيخ يحيى)، وعلى هذا فحوارية الرواية ظاهرة جلية، واعتراف بهاء طاهر بشخصياته وبحقها في التحدث عن نفسها بمعزل عن تصورات الآخرين لها.
هذا الشكل الحواري (البوليفوني) الذي يسمح لأصواته أن تتحدث كيفما تشاء جعل الحقيقة نسبية ولم يجعلها مطلقة، ولم يسمح لأي من هذه الأصوات أن تحتكرها، أو أن تهيمن على ما عداها من أصوات، وبالتالي منح القارئ أيضًا أفقًا غير محدد لتصوراته وتوقعاته.
-6-
وعن هذا الطرح في تحليل الرواية، يقول بهاء طاهر «جميل جدا أن يكون هناك من يدرك هذه الجماليات الكامنة في أعمالي الروائية.. أنت لا تتخيل كم أبذل من جهد في محاولة تقمص كل شخصية من شخصيات الرواية، وأحاول أن أجعلها تفكر تفكيرها الخاص بها وتتحدث لغتها الخاصة بها».
ثم يضيف «أنا أعتقد أن فكرة التباين والاختلاف بين الأنماط اللغوية للأصوات الروائية هي فكرة خطيرة وجوهرية، وكثيرون يعتقدون أن تعدد الأصوات هو فقط تعدد الرواة أو الساردين في الرواية دون الانتباه أو الالتفات إلى أن الصوت الواحد قد يحتوي بداخله الكثير من الأصوات المتعددة والمتباينة، بما يوازي بينها وبين الصوت الواحد».
رحم الله بهاء طاهر المبدع الراقي وصاحب الكتابة الراقية.
