مرفأ قراءة... «أولاد حارتنا».. والخلط بين المرجعي والمتخيل!
- 1 -
كانت «أولاد حارتنا» هي أول رواية يكتبها نجيب محفوظ بعد انقطاع دام لسبع سنوات كاملة؛ منذ 1952 (السنة التي انتهى فيها من كتابة الثلاثية) حتى سنة 1959 التي ظهرت فيها «أولاد حارتنا» مسلسلة على صفحات جريدة (الأهرام)، كانت تلك السنوات عصيبة على نجيب محفوظ، وقد أوضح في حواراته وأحاديثه تفاصيل تلك الأزمة "أزمة انقطاع الكتابة الإبداعية" للدرجة التي حدت به إلى أن يقول نصا "اعتبرت نفسي انتهيت أدبيا وأنني لن أعود إلى الكتابة مطلقا بعد ذلك"، وترتب على هذا الإحساس المميت سعيه للانضمام إلى رابطة كتاب السيناريو واعتماده ككاتب سيناريو وحوار للأفلام السينمائية!
ثم ما لبث محفوظ أن شعر بدبيب غريب يسري في روحه ويدفعه للإمساك بالقلم مجددا ويجلس إلى مكتبه وأوراقه من جديد ليكتب رواية يعالج فيها جدلية "الخير والشر" الأزلية، وجدلية "حرية الفرد والمجتمع" والسلطة عبر التاريخ الإنساني، مستلهما في ذلك الموروثات الملحمية والأسطورية والدينية، سواء أكانت غربية أم شرقية، أم إنسانية في العموم.
المجتمع لدى محفوظ هو المجتمع البشري ككل، وقد استلهم في «أولاد حارتنا» حركة الإنسانية من خلال التطور العقيدي والبحث عن الفكرة الكلية والمطلقة، فالأولاد هم البشر و"حارتنا" هي كوكب الأرض، فهو يكتب عن البشر على كوكب الأرض بخيرهم وشرهم، فجاء بآدم وولديه قابيل وهابيل، ثم بموسى وعيسى ومحمد (عليهم صلوات الله وسلامه) إلى أن انتهى في الرواية إلى ضرورة تواصل العلم والتطور العلمي مع الوجدان والتطلع الروحي.
وعلى هذا الأساس جاء بناء الرواية عبارة عن مجموعة حكايات متراتبة تبدأ بحكاية "أدهم"؛ ثم حكاية "جبل"، ثم حكاية "رفاعة"، ثم حكاية "قاسم"، وأخيرًا حكاية "عرفة"، وتؤطرها جميعا ما يطلق عليه في نقد السرديات "ميتا-حكاية" على غرار (ألف ليلة وليلة) في الحكاية الإطار أو المؤطرة لتوالد الحكايات وتناسلها طيلة لياليها الألف.
- 2 -
ونتابع مع المستعرب الفرنسي المعروف ريشار جاكمون، في قراءته المهمة لـ«أولاد حارتنا»، قراءته اللافتة للرواية التي يرى أنها تتسم بثراء جمالي ودلالي وفكري خارق للعادة بكل المقاييس؛ فهي تعبر بامتياز عن خاصية الخطاب الروائي "التخييلي"؛ أي كونه: "لا يعبر عن رأي (صحيح أو خاطئ، مطابق للعقيدة أو مخالف لها) مصرح به في الفضاء العام، بل إنه يقيم نسقًا آخر في اللغة، وهو نسق يفتح إمكانية فضاء آخر، ألا وهو فضاء التخييل، حيث إن الحدود بين الأدب والشهادة، بين الواقع والخيال، بين الحكاية وسردها، تصبح متحركة، مائعة، غير قابلة للتمييز.
ومن ضمن الثنائيات العديدة التي يمكن استخلاصها في الرواية، تتجلى ثنائية "التجديد الجمالي/ الثبات السياسي" -أول ما تتجلى- في الافتتاحية التي استهل بها محفوظ روايته والتي تكاد تنحصر فيها مفاتيح الرواية وتيماتها كلها.
إذ إننا نلتقي فيها بشخصية غريبة على قراء محفوظ ومتابعيه؛ إنه "راوٍ" يتحدث بضمير المتكلم، ويقدم نفسه بوصفه كاتبا سجل حكايات حارته "كما يرويها الرواة وما أكثرهم".
إلا أن السرد ـ الإطار الذي نقرأه في الافتتاحية (وكذلك في الفصول الخاتمة، والفاتحة لكل قسم) لا يرقى إلى مستوى الحكاية؛ إذ لا يتعدى تقديم شخصية الراوي، وسياق عمله، وليس فيه أي حبكة.
يبقى أن هذا الراوي/ الكاتب يتميز عن رواة الحارة بامتلاكه مهارة الكتابة وامتهانه إياها "وكانت مهنتي أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات"، ويذكرنا هذا الكاتب بأنصاف المثقفين هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم، خلال قرون طويلة، تدوين القصص والسير الشعبية التي كان الرواة يتداولونها شفاهيا.
إن هذه العناصر، وعناصر أخرى خاصة بالحكايات نفسها تجعل من «أولاد حارتنا» إحدى أولَيات الرواية العربية الحديثة، إن لم تكن الأولى على الإطلاق، التي تحاول عن وعي وتعمد سد الفجوة بين الشكل المستورد والمضمون المحلي، والتي ظلت ملاصقة للرواية العربية منذ ميلادها في أواخر القرن التاسع عشر.
لكن لهذه الافتتاحية بعدا آخر أكثر أهمية، وهو استخدام محفوظ لشخصية (الكاتب/ الراوي) هذه التي خلقها ليحدثنا عن نفسه وليقدم لنا تصوره للكاتب الحديث. إن الفقرة الأخيرة للافتتاحية غنية بالإيحاءات والتلميحات في هذا الصدد. يقول (الكاتب/ الراوي): "كنت أول من اتخذ الكتابة حرفة في حارتنا" ويكفي أن نضيف صفة "القصصية" أو "الروائية" إلى كلمة الكتابة حتى ينطبق القول على محفوظ نفسه، "على رغم ما جره عليّ ذلك من تحقير وسخرية".. (وكأن محفوظ يشفق على نفسه ويتحسر على كل السنين التي ظل يكتب فيها دون أن يحصل على أي مردود مادي أو رمزي يذكر).
- 3 -
على مستوى الدلالة الكلية للنص، ومحاولة استخلاصها، فإن ما يلفت النظر حقا في هذه الرواية هو طموح محفوظ الخارق لكل المقاييس، فقد أدخل في روايته ليس فقط السرديات الكبرى للديانات السماوية الثلاث، بل كذلك حكاية الحداثة الكبرى، كاشفا بذلك طبيعتها القصصية؛ أي كونها جميعا ليست سوى تمثيلٍ للواقع/ التاريخي"، اعتمادا على الخيال والتخييل.
الرواية إذن لها دلالة دنيوية بحتة وليست دينية، وإن كان يوجد قواسم مشتركة بين الرواية والقصص الأسطورية عند بناء شخصيات أبطالها بحيث تعبر عن صفات أخلاقية واضحة مثل القوة عند جبل، والحب عند رفاعة، والعدالة عند قاسم، وتظل الرواية وفية لهذه الصفات طوال مسارها الروائي، بل إننا نجد عند بداية سيرة كل واحد من هؤلاء الأبطال، وهم بعد في طور الطفولة، إشارات إلى مصيرهم القادم تشبه في سير الأنبياء، التنبؤات بالبطولة في السيرة الشعبية.
يضيف جاكمون: إن من أوضح الأدلة على الطابع الدنيوي لرسالة أبطال الرواية قصة إبلاغ الجبلاوي قاسم عن طريق خادم له يُدعى قنديل برسالته، إذ يقول قنديل لقاسم: يبلغك الجبلاوي بأن جميع أولاد الحارة أحفاده على السواء، وأن الوقف ميراثهم على قدم المساواة، وأن الفتوة شر يجب أن يذهب، وأن الحارة يجب أن تصير امتدادًا للبيت الكبير،
والرواية بالنسبة لجاكمون تعبر عن رؤية لتاريخ الإنسانية مصبوغة بعناصر مصرية أو عربية متميزة، ومن هذه العناصر ما نستطيع أن نسميه "رؤية دائرية شبه خلدونية للتاريخ"، حيث إنه يبدو كتسلسل من فترات نهوض على يد الأبطال المصلحين وركود على يد خلفائهم، والمثير هنا أن الفترة الحديثة التي ترمز إليها «سيرة عرفه» لا تشذ عن هذه الدائرية، إذ إن مشروع عرفة الإصلاحي باء بالفشل، وتنتهي الرواية بالأمل في نهوض جديد على يد مصلح جديد.
كما يؤكد جاكمون أن همّ محفوظ الأساسي في الرواية هو قضية السلطة، حيث تشي الرواية كلها بعدم ثقته العميقة بالسلطة؛ أيا كانت، وباعتقاد راسخ بحتمية فسادها، ومما يثير الدهشة في هذا الصدد قلة تأثير تكوين محفوظ الليبرالي وإيمانه بالحرية والديموقراطية على فلسفته السياسة كما تتجلى في «أولاد حارتنا».
أما الأمر الذي اتهمه البعض فيه بأنه يتجرأ على الدين، فلا تصوير الحارة بتدينها الشعبي، ولا سيرة الجبلاوي الخاضعة لمحاكاة الحكايات الكبرى -دينية كانت أو علمانية- يعبران عن تساؤلات محفوظ حول الوجود والكون.
- 4 -
الغريب حقا أن الناقد محمد بدوي -وهو من أهم النقاد الذين قاربوا تجربة محفوظ الإبداعية- نقديا وجماليا يعتبر رؤية محفوظ "أخلاقية"، يقول ذلك صراحة "أنا أعتبر نجيب محفوظ كاتبا أخلاقيا، وهو يقدم صراع قيم موجودة في كل المجتمعات بين "التقليدي" و"الحديث"، وهي القيم التي تأتي عبر الاحتكاك بالثقافات الأخرى، مع أن هناك قيما تستمر، فالعرب والمسلمون الأوائل كان يطيلون اللحية ويضعون الكحل ويطيلون الشعر إلى الكتف، فهل هذا موجود الآن؟ فالقيم متغيرة ولا توجد قيمة ثابتة".
محفوظ -وفقا لبدوي- يقدم الرموز، والرمز لا يعني شخصا معينا، ففكرة نابليون مثلا رمز للعبقرية العسكرية، الكاتب يستلهم الشخصيات من التاريخ من خلال استلهام مجموعة القيم، فيكتب مجموعة من الرموز. وفي رواية «أولاد حارتنا» يتحدث محفوظ عن تاريخ البشرية، ويرى أن هناك علامات مضيئة في تاريخها تأتي على أيدي مجموعة من الناس..
أما على الجانب الآخر، فوجود فتوة الحارة رمز إلى إبراز الصراع الأبدي بين الخير والشر، والكتابة الفنية لا يمكن أن تخون شروطها، وإن حدث فيجعلها تختلف عن السرد الأخلاقي الذي يقوله الخطيب على منبر المسجد!
