ثقافة

الغيطاني خلف مكتبه

18 أكتوبر 2022
18 أكتوبر 2022

لمدة سنوات كان «الخميس» من كل أسبوع هو «يوم الفرح» بالنسبة للروائي المصري جمال الغيطاني، فهو موعد وصول النسخ الأولى من جريدة «أخبار الأدب» -التي أسسها ورأس تحريرها- إلى مكتبه، ومن ثم وصولها صباح اليوم التالي «الجمعة» إلى أقاليم مصر من الإسكندرية شمالا إلى أسوان جنوبا، وإلى العالم العربي ومختلف عواصم العالم.

في إحدى المرات رأيتُ عامل المطبعة يجلس أمامه على الكنبة الجلدية وهو يرتدي زي العمل «العفريتة الزرقاء»، يُقلِّب عددا من الجريدة بورقة نظيفة حتى لا تتلوث بالشحم الأسود في يديه. وبدوره أمسك الأستاذ جمال بالنسخة وقلَّبها، وتبادل حديثا مع العامل، كأنه صديق حميم، وطلب منه بأدب جم الاهتمام بصورة في صفحة أو بلوحة في أخرى أو بتفصيلة يرى أنها غائمة وتحتاج إلى تدخل، وهرول العامل مسرعا إلى المطبعة في الدور الأرضي من مبنى أخبار اليوم، محاولا إصلاح ما أراده الأستاذ.

لم يكن الغيطاني «الصحفي» يدِّخر جهدا لإنجاح مطبوعته، حتى لو انحصر هذا الجهد في محاورة العمال البسطاء، ومحاولة الاستفادة منهم. يجلس كل فترة مع عمال التوزيع. يحضر أحدهم إليه في غرفته الصغيرة ممسكا بدفتره الضخم، ويبدآن في تقليبه وهما يبحثان عن نقاط القوة والضعف في القاهرة وبقية المحافظات. يستمع الغيطاني باهتمام إلى الموظف، وهو يخبره بأن أعداد الجريدة في إحدى نقاط التوزيع تتبخَّر بينما تعود نصف أعدادها من نقطة توزيع أخرى، وينصحه في هذه الحالة بسكب الماء من الإناء الممتلئ في الإناء الفارغ، بمعنى إعادة توزيع أعداد «المُرتَجع» إلى النقاط التي باعت كل نسخها. حفظ الغيطاني -بمرور الوقت- كل هذه النقاط، وفهم أيّ المناطق تحتاج إلى أعداد أكبر، كما فهم أن بعض المناطق تحبُّ الثقافة، وبعضها تخاصمها. لا يكابر، لكنه لا يستسلم أيضا، فإذا أراد أن يُنعش التوزيع في محافظة ما، كالسويس مثلا، يطلب منا إعداد ملف عنها، وقد سافرتُ إليها -منذ سنوات بعيدة- وقابلت المناضل الرحل الكابتن غزالي وأجريت معه حوارا وكتبتُ تحقيقا عن المدينة التي وقفتْ في وجه العدوان، وكيف ردم هشيمُ مبانيها جزءا من البحر الأحمر، كما صوَّرتُ مسجد الشهداء، ونشرتُ إبداعاتٍ ضمن الملف لأدباء السويس. كانت الجريدة تنشر ملفا عن مدينة ما كل فترة، ولأن الغيطاني آمن ببُعدِها العربي نشر كذلك ملفاتٍ عن البلدان العربية المختلفة، بشكل حافظ على إحساس الأدباء في الشرق والغرب بأن الجريدة ملكٌ لهم.

لم يكن مغرورا أو متعاليا أو منعزلا عما يحدث حوله، وهو في قلب «أخبار اليوم» أدرك أنه في قلب مؤسسته وعمله وأكل عيشه. مد يد الصداقة لكل شخص حوله، ولذلك أحبه العمال البسطاء والسعاة، إذ تعامل معهم بندية وأبوية، ولذلك سارعوا إلى تلبية ما يريده فورا.

بالنسبة للاتصالات وقبل زمن الموبايلات كنا نلجأ إلى الغيطاني في حالتين، أن نرسل فاكسا إلى أحد الأدباء العرب لنطلب مشاركته في تحقيق، أو نهاتفه على رقمه الدولي، وكان الغيطاني يوقِّع على ورقة تفيد بموافقته على الاتصال، ومن ثم نرفعها إلى القسم المختص، وإذا تأخر الموظف عن تلبية طلباتنا يتصل به الأستاذ ويطلب منه بود أن يُسارع لتنفيذ ما نطلبه. تحدثتُ عبر التليفون الدولي مع معظم الكتّاب العرب الكبار، سميح القاسم، ومحمد علي شمس الدين، وقاسم حداد، ومحمد بنيس، ومحمود درويش، وغيرهم، ثم في وقت لاحق كان الغيطاني يتصل بهم من تليفونه الشخصي ويمنحني أحدهم لأحدثه.

الغيطاني كان كذلك على اتصال بموظفي الأرشيف، والمكتبة، والعلاقات العامة وسائقي سيارات التوزيع. وكانت علاقته بمساعده الراحل محمد دياب عظيمة، فيها محبة وندية وغضب، أصبح دياب كاتم أسراره، يعلم بكل تحركاته في القاهرة تقريبا، ويعلم بهوية كل ضيوفه قبل مجيئهم، فهو من يستقبلهم. كان الغيطاني يتحرك غالبا بين مكان سكنه في المعادي ومقر عمله في منطقة الإسعاف وفي كثير من الأحيان يصطحب ضيوفه إلى الحُسين ليريهم عالم نجيب محفوظ وشخصياته وأسراره، يجلس معهم في مقهى الفيشاوي، أو يصطحبهم في جولة عبر شوارع القاهرة الفاطمية، ويحكي لهم قصصا ممتعة لا يمكن أن يجدوها في كتاب.

يطلب مني محمد دياب أحيانا ألا أفشي السر، ويخبرني بمكان الغيطاني، لكني حفظتُ غالبا أن موعد مجيئه يكون بين الثامنة والعاشرة صباحا فإذا تأخر أكثر من ذلك فمعناه أنه في الحُسين. كان دياب ينسخ على ماكينة التصوير نسخا من مقالات الغيطاني لأخبار الأدب أو لجريدة الأخبار المصرية أو للجرائد العربية، ثم يضعها بمساعدة الغيطاني نفسه في "فايلات". يقضيان دقائق كل يوم في ترتيب الأوراق وإعداد مهمات ومقابلات الغد، لكن يحدث أحيانا أن يغضب الغيطاني لأي سبب عليه، بالضبط كما يغضب علينا، يرتفعُ صوته، فنعلم أن هناك مشكلة، تستمر لفترة، فإذا سألت دياب عن موعد وصول الأستاذ يجيبني بأنه لا يعرف فأفهم أن الخصام مستمر بينهما، فإذا أجاب بالموعد أفهم أن علاقتهما عادت بشكل عادي، فأبتسم ويبتسم.

لم يُضع الغيطاني دقيقة من وقت العمل. كان ينادي على مسؤولي الأبواب في الجريدة ليناقشهم في بعض القضايا، أو ليمنحهم بعض المواد التي وصلته على بريده الشخصي، وكنت في فترة من الفترات مسؤولا عن البريد، أوزع على الزملاء ما تجود به الخطابات من أعمال، وإذا لاحظتُ أن هناك رسالة شخصية للغيطاني أضعها في يده فيقرؤها باهتمام، وكثيرا ما يرد على صاحبها كتابة أو يتصل برقمه المدون في الرسالة.

كان الغيطاني، الذي تمر أمس (18 أكتوبر) ذكرى ميلاده، بخلاف براعته في الصحافة، إداريا من الطراز الرفيع، وإنسانا بسيطا، إذا أشرقت عليه الشمسُ يعرف أن القدر منحه يوما جديدا لا ينبغي إضاعته في مهاترات، والأفضل الاستمتاع بالحياة ونِعمِها، وعلى رأسها نِعْمة العمل.