الاقتصادية

هل العملات الرقمية للبنوك المركزية سوف تصبح سائدة؟

19 مايو 2023
19 مايو 2023

في عام 1992 دشَّن بنك فنلندا وهو البنك المركزي لذلك البلد بطاقة غريبة اسمها أفانت. كانت تبدو مثل بطاقة الخصم المصرفية غير أن القصد منها استنساخ خصائص النقود. كانت الأموال المختزنة في البطاقة مدعومة بواسطة بنك فنلندا وليس بواسطة بنك تجاري. وهذا ما جعلها حسب ادعاء البنك أول عملة رقمية يصدرها بنك مركزي في العالم.

لم تكن لدى حاملي تلك البطاقة حسابات في البنك. بدلا عن ذلك كان يتم تعقب أرصدتهم المالية عن طريق شرائح إلكترونية يتم إدراجها "ماديا" في البطاقات. وكما هي الحال مع النقود كان ذلك يعني أن مستخدميها مجهولو الهوية. استمر العمل ببطاقة أفانت لمدة ثلاثة أعوام قبل خصخصتها. ثم توقف لاحقا. لقد كان استخدامها محدودا جدا مقارنة بقنوات المدفوعات الأخرى مثل بطاقات الائتمان التي تمنح نقاط مكافأة. كما فشلت اقتصاديا (لم تكن مربحة).

مرت 30 سنة أخرى قبل إحياء فكرة النقود الرقمية للبنوك المركزية بشكل جاد (العملة الرقمية نسخة إلكترونية من العملة الورقية يصدرها البنك المركزي وينظم استعمالاتها – المترجم.)

حتى وقت قريب لا يتعدى عام 2016 لم يكن هنالك تقريبا بنك مركزي ينظر بجدية إلى النقود الرقمية للبنوك المركزية. أما الآن فمعظمها يفعل ذلك. انحسار استخدام النقود وظهور العملات المشفرة وإصدار فيسبوك المحتمل لعملة رقمية تدعي "ليبرا" كانت كلها عوامل دفعت البنوك المركزية إلى البحث عن طرق تُجنِّبها فقدانَ السيطرة على أنظمتها المالية.

ما لا يقل عن 114 بلدا تمثل اقتصاداتها أكثر من 95% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم إما أصدرت عملات رقمية أو تستكشف إمكانية إصدارها وذلك مقارنة بحوالي 35 بلدا في منتصف عام 2020، حسب المجلس الأطلنطي. هنالك على الأقل 10 بلدان دشنت عملاتها الرقمية بالكامل والصين هي البلد الأكبر من بينها الذي ينفذ مشروعا تجريبيا لعملته الرقمية.

على الرغم من الضجة الإعلامية تطرح مجموعة صغيرة ولكنها متزايدة من الساسة ومسؤولي البنوك المركزية أسئلة حول الغرض من إصدار هذه العملات الرقمية.

عملة رقمية لمعاملات التجزئة

في يناير 2022 ذكر تقرير لمجلس اللوردات البريطاني أن المجلس "لم يستمع بعد إلى حجة مقنعة تبرر حاجة المملكة المتحدة إلى عملة رقمية لمعاملات التجزئة (الخاصة بالأفراد والشركات)."

وفي مارس نشر البنك المركزي السويدي (ريكسبانك) تقريرا من 900 صفحة أشار فيه إلى أن مبرر إصدار كرونا رقمية ليس مقنعا (في بلد به درجة عالية من الاستغناء عن استخدام النقود).

انضمت إلى بنك ريكسبانك بنوك أخرى لا ترى ميزة تذكر في السعي لاستخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية بالنظر إلى الطبيعة المتقدمة لأنظمة مصارفها ومدفوعاتها.

مع ذلك من الخطأ استبعاد العملة الرقمية. فالبنوك المركزية هي مؤسسة التسوية النهائية لأي نظام مالي.

من الممكن أن تجعل عملات "الجملة" الرقمية المتاحة فقط للمؤسسات المالية أنظمةَ المدفوعات أكثر تنافسية بتمكين شركات التقنيات المالية من التعامل مع البنوك المركزية مباشرة وليس عبر البنوك (التجارية). وقد تساعد النقود الرقمية في تطوير المدفوعات عبر الحدود وتجعل التسوية الفورية عبر أزواج العملات (بين عملتين) ممكنة. حتى بالنسبة للبلدان التي لديها أنظمة مدفوعات متقدمة يمكن أن تؤثر العملات الرقمية للبنوك المركزية في حال تبنيها على المعايير التي تحكم تصميم العملات الحديثة.

ومن غير المتصور أن تصبح العملات الرقمية للبنوك المركزية في يوم ما عملات سائدة. وعلى الرغم من الشكوك التي ثارت مؤخرا إلا أن نائب محافظ بنك إنجلترا السير جون كونليف الذي لا يميل إلى المبالغات وتهويل الأمور يرجح أن "تكون هنالك حاجة إلى الجنيه الرقمي في المملكة المتحدة."سيعتمد تأثير العملات الرقمية للبنوك المركزية بقدر كبير على تصميمها. فهي كلها مطلوبات (خصوم) على البنك المركزي. بمعنى أنها لا تصاحبها مخاطر السحب الفجائي للودائع (في حالات الذعر المصرفي) كما هي الحال مع البنوك التجارية.

بعضها يستخدم سلاسل كُتَل خاصة به وبعضها لا يفعل ذلك. مع ذلك العملات الرقمية التي اكتمل تدشينها وتلك التي في المرحلة التجريبية من جزر البهاما وإلى الصين تشترك في مبادئ قليلة. فهي عادة يتم تداولها عبر البنوك التجارية وتعمل مع الجهات الخاصة التي تقدِّم المحافظ الرقمية. وهذا ما يحدّ من تعقيد إدارتها. هنالك سقف للمبلغ الذي يمكن أن يحتفظ به مستخدمو الدولار الرملي البهامي وعملة النايرا الرقمية النيجيرية. وهما أول عملتين رقميتين يطرحهما بنكان مركزيان. يماثلهما في ذلك اليوان الرقمي أكبر مشروع تجريبي للعملة الرقمية. ولا يتضمّن أيٍّ منها دفع فائدة أو رسوم معاملات. السبب في وضع سقوف وفائدة صفرية لاستخدامها هو تجنب خروج تدفقات كبيرة للودائع من البنوك التجارية إلى العملات الرقمية للبنوك المركزية.

نجاح التجارب

ما هو مدى نجاح هذه التجارب؟ لم يحظ استخدام كل من الدولار الرملي واليوان الرقمي والنايرا الرقمية بالرواج على الرغم من الضجة التي رافقت إصدارها.

في مارس ذكرت صحيفة "ساوث شاينا مورنينج نيوز" أن معظم المتاجر في الصين نادرا ما تستلم مدفوعات بعملة اليوان الرقمي الذي تشارك حوالي 26 مدينة في مشروعه التجريبي. وكشفت بيانات من بنك الشعب الصيني وهو البنك المركزي أن حوالي 13.6 بليون يوان (2 بليون دولار) فقط كانت قيد التداول في يناير.

أنشئت في الصين حوالي 161 مليون محفظة رقمية بحلول عام 2022. مع ذلك تم تداول 100 بليون يوان رقمي (14 بليون دولار) فقط في الفترة بين أكتوبر 2020 وأغسطس 2022. السبب في ذلك كما يقول بعض المستخدمين الصينيين أن منصتي المدفوعات الرقمية وي شات وعلى باي تؤديان هذه المهمة سلفا وبشكل جيد. لذلك لا يمكن للعديد من متاجر التجزئة هناك أن تشغل بالها باليوان الرقمي.

تراقب البنوك المركزية الأخرى هذه التجارب باهتمام. وتخلي بعضها كليا عن الفكرة. وقال البنك المركزي الدنماركي الذي لديه نظام مدفوعات متقدم في الرقمنة "ليس واضحا كيف يمكن لعملة التجزئة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي أن تسهم في إيجاد وسيلة أفضل وأكثر أمانا للمدفوعات." إلى ذلك، بدأ بنك اليابان مشروعا تجريبيا لعملة رقمية خاصة به في عام 2021 لكن "ليست لديه خطط لإصدارها."

وفنلندا التي ربما أنها تتذكر بطاقة "أفانت" ليست لديها هي أيضا خطط في هذا الخصوص على الرغم من أنها تؤيد فكرة إصدار عملة يورو رقمية لتحسين المدفوعات العابرة للحدود حول أوروبا.

المشكلة هي حسبما يقول اقتصادي بأحد البنوك المركزية أن الفوائد المرجوة من العملة الرقمية للبنك المركزي يمكن تحقيق معظمها داخل النظام الحالي.

ما الذي يمكن أن يدفع بقدر أكبر إلى تبني العملة الرقمية؟ بعض الحكومات تشجع على التعامل بالعملات الرقمية من خلال الحوافز. فنيجيريا تمنح خصما بنسبة 5% لأولئك الذين يستخدمون عملة النايرا الرقمية لسداد أجرة مركبات "الريكشو." وهي مثلها في ذلك مثل البلدان الأخرى مدفوعة في هذا المسعي بالحاجة إلى تحقيق المزيد من "الشمول المالي" نظرا إلى أن الكثير من سكانها لا يتعاملون مع البنوك.

يوان رقمي

وزَّعت الصين يوانا رقميا مجانا في مظاريف حمراء (المظاريف الحمراء هدية نقدية تقدم في المناسبات السعيدة في الصين- المترجم.) كما سعت منذ فترة إلى إقناع شركات التقنية المالية مثل آنت وتينسنت بإتاحة بيانات المعاملات في الوقت الفعلي. فذلك يمنحها الحافز لوضع اليوان الرقمي في مركز التجارة.

يركز آخرون على ما يمكن أن يُضفي خصوصية على العملات الرقمية للبنوك المركزية. يقول لويس سَن الذي يرأس وحدة المدفوعات الناشئة ببنك "اتش اس بي سي" على الرغم من أن استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية في المدفوعات فقط قد لا يكون مختلفا كثيرا عن أنظمة مدفوعات الجملة الحالية إلا أن "النقود المبرمجة فريدة."

يصف ريتشارد تورين الذي يقيم في شنغهاي ومؤلف كتاب "بلا نقود- ثورة العملة الرقمية في الصين" تجربة في محافظة شينغدو. تشير التقارير إلى أن ستة فلاحين منحوا يوانا رقميا مع عقود ذكية تنص على استخدامه لأغراض الزراعة فقط. ويعتقد البعض أن هذا قد يشكل خطوة نحو حلمِ بسطِ سيطرة أكثر دقة وفعالية على الاقتصاد بأكمله.

ويشير تورين إلى أن العملات الرقمية للبنوك المركزية يمكنها أيضا مساعدة البلدان في تبادل الرسائل المتعلقة بتحريك الأموال المطلوبة في المعاملات العابرة للحدود بكفاءة أكبر وربما الالتفاف حول نظام الدولار. لكن هذه الاستخدامات المستقبلية المحتملة تظل كلها تجارب في الوقت الحالي. ويُقِرُّ ريتشارد تورين بأن "الوقت لا يزال مبكرا." العملات الرقمية للبنوك المركزية في هذا الجانب على الأقل ليست مختلفة عن صناعة العملات المشفرة.