الاقتصادية

هل التيسير الكَمِّي جدير بتكلفته الباهظة؟

04 أغسطس 2023
أنفقت فيه مئات البلايين من الدولارات
04 أغسطس 2023

في فترة العَقد ونصف العقد التي انقضت منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية (2008-2009) اشترت البنوك المركزية في بلدان العالم الغني سنداتٍ بتريليونات الدولارات في محاولة لحفز وتنشيط اقتصاداتها. والآن حان وقت سداد تلك الفاتورة. في آخر تقدير لهذه التكلفة بلغت خسائر بنك الاحتياط الفدرالي الورقية (غير المتحققة) 911 بليون دولار في محفظة أوراقه المالية التي تصل قيمتها إلى 8.2 تريليون دولار.

وفي 25 يوليو قال بنك إنجلترا إن وزارة الخزانة بناء على افتراضات معقولة يلزمها تحويل حوالي 275 بليون جنيه إسترليني (353 بليون دولار) في الفترة بين 2023 و2033 لتغطية التدفقات النقدية الخارجة منه. وفي 28 يوليو فاجأ بنك اليابان الأسواق برفع سقفه على عائدات السندات اليابانية من نصف في المائة (0.5%) إلى واحد في المائة (1%). ووفقا لحساباتنا، مقابل كل ارتفاع بنسبة ربع في المائة (0.25%) في عائدات السندات اليابانية بمختلف مُدَد سريانها ستهبط قيمة موجودات البنك الضخمة من السندات بحوالي 58 بليون دولار أو ما يساوي واحدًا ونصف في المائة (1.5%) من الناتج المحلي الإجمالي لليابان. البنوك المركزية في مقدورها إيجاد النقود وبالتالي لا يمكنها أن تُفلس. لكن إذا تُركت تنزف النقود سيقود ذلك إلى التضخم ما لم يغطي دافعو الضرائب الخسائر. والتكاليف المتصاعدة للوفاء بهذا الالتزام تجعل من المهم تحديد ما إذا كان التيسير الكمي يستحق تكلفته وهل يجب استخدام مثل هذا الشراء واسع النطاق للسندات في المرة القادمة التي يحتاج فيها الاقتصاد إلى تحفيز. (التيسير الكمي وفقا لموسوعة انفستوبيديا شكل من أشكال السياسة النقدية يقوم بموجبه البنك المركزي لبلدٍ ما بشراء أوراق مالية من السوق المفتوحة لخفض أسعار الفائدة وزيادة عرض النقد أو السيولة في الاقتصاد - المترجم).

لكي تنفِّذ البنوك المركزية سياسة التيسير الكمي أوجدت النقود في شكل احتياطيات في النظام المصرفي واستخدمتها لشراء سندات طويلة الأجل بقصد خفض عائداتها. المشكلة الآنيّة أو الفورية هي أن البنوك المركزية مع رفعها أسعار الفائدة لمحاربة التضخم توجَّب عليها دفع المزيد (من الفوائد) على تلك الاحتياطيات. لكن مدفوعات الكوبونات التي تحصل عليها من بائعي السندات ظلت ثابتة (بعكس أسعار فائدة الاحتياطيات). ولن يفيد البنوكَ المركزية بيعُ السندات لوقف التدفقات النقدية، لماذا؟ لأن حصيلة بيعها ستكون أقل من تكلفة شرائها. وستتحقق بذلك خسائرها الورقية. بدلا عن ذلك يبذل واضعو السياسات قُصَاراهم للتقليل من خطورة المسألة. لقد أعلن البنك المركزي الأوروبي في 28 يوليو أنه سيتوقف عن دفع الفائدة على الحد الأدنى من الأرصدة النقدية التي تُلزَم البنوك التجارية بالاحتفاظ بها (عدم استخدامها في الإقراض) لأسباب تتعلق بالاستقرار المالي. وهو ما يعني عمليا فرض ضريبة خفيَّة على النظام المصرفي. البنك الألماني (دويتشه بانك) الذي سيفقد من جراء هذه الخطوة 200 مليون يورو أو 220 مليون دولار في كل عام قال "لقد أحبِطنا، ونوعا ما، فوجئنا." وبعكس بنك إنجلترا لن يحصل بنك الاحتياط الفدرالي على دعم مالي من الحكومة. بل بدلا عن ذلك عندما يشرع البنك الفدرالي في تحقيق أرباح مرة أخرى سيحتفظ بها بدلا من إرسالها إلى وزارة الخزانة (إسهاما منه في تغذية الإيرادات الحكومية). وستُستأنف المدفوعات فقط بعد استعادة البنك المركزي النقود التي يخسرها في الوقت الحالي. وحتى الآن بنك الاحتياط مدين لنفسه بحوالي 80 بليون دولار. هذه التكتيكات لن تغير من حقيقة أن الخفض الكبير في قيمة الأصول المرتبطة بالتيسير الكمي يزيد من العبء على الموازنات الحكومية الهشة والتي تعرضت إلى ضغوط الأزمة المالية وجائحة كوفيد-19 وشيخوخة السكان. بل الخسائر أكثر إرباكا على وجه خاص نظرا إلى أن الكثير من التيسير الكمي في فترة الجائحة كانت نتائجه عكسية (آثاره سلبية). لقد استمرت البنوك المركزية في شراء السندات بعد فترة طويلة من انتفاء ضرورة ذلك. فبنك الاحتياط الفدرالي اشتري آخر دفعة من سندات الخزانة في مارس 2022 عندما كان معدل التضخم قد بلغ سلفا 8.5%. وبعد فترة ليست طويلة أدرك واضعو السياسات أنهم أفرطوا في حفز الاقتصاد ورفعوا بشدة أسعار الفائدة. وحقيقة أن البنوك المركزية خسرت أموالا مع استمرار التضخم سبب آخر لكي تبدو مفتقرة إلى الحكمة.

هل التجربة الأخيرة تعني وجوب الاستغناء عن التيسير الكمي عندما يكون الاقتصاد بحاجة حقا إلى التحفيز في المرة القادمة؟

على البنوك المركزية الاسترشاد بالظروف. وأول قاعدة يجب عليها أن تتبعها هي عدم التردد (في اتخاذ القرار الحاسم لتثبيت استقرار الاقتصاد) عند نشوب أزمة مالية. في أواخر عام 2008 تضاعف حجم ميزانية بنك الاحتياط الفدرالي مع فقدان الأسواق للسيولة وتصرَّف البنك المركزي الأمريكي بوصفه مقرض الملاذ الأخير. كرر البنك ذلك مرة أخرى تقريبا في ربيع عام 2020 عندما دفع اندلاع الجائحة المستثمرين إلى الإسراع ببيع أصولهم وتحويلها إلى أموال نقدية وتخزينها. عندما يشيع الذعر في الأسواق من المرجح أن يحقق شراء الأصول بأسعار أقل أرباحا وليس خسائر. لكن حتى إذا فقدت مثل هذه التدخلات أموالا تظل مفيدة. فحتى إنفاق مئات بلايين الدولارات سيكون ثمنا جديرا بأن يُدفع لتجنب وقوع كارثة مالية من نوع الركود العظيم الذي حدث في ثلاثينيات القرن الماضي وصعد بعده معدّل البطالة إلى عنان السماء. ومن الممكن أن تتسبب مثل هذه الكارثة اليوم في خسائر تكلف عشرات تريليونات الدولارات. عندما تكون الأسواق هادئة تزداد صعوبة الحكم على نجاعة التيسير الكمي كمحفِّز للنمو والتضخم. حسب التقدير الوَسَطي (بين أعلى وأقل تقدير) لإحدى الدراسات شراء سندات تساوي قيمتها 10% من الناتج المحلي الإجمالي يخفِّض عائداتِ السندات الحكومية لمدة 10 سنوات بنصف نقطة مئوية (0.5%) فقط. إلى ذلك، البنوك المركزية نفسها تشكل مصدرا للعديد من التقديرات. ولديها ما يحفزها للمبالغة في تقدير أثر التيسير الكمي. فقد وجد الباحثون أن مؤلفي الأوراق الذين يوردون في دراساتهم آثارا أكبر لسياسة التيسير الكمي على النموّ الاقتصادي يتمتعون تبعا لذلك بالمزيد من الترقيات. لذلك من المقبول القول بأن العائد الحقيقي من شراء السندات ضعيف. ومن المؤكد أن ذلك حدث مؤخرا في اليابان التي أهدر فيها البنك المركزي أموالا في الدفاع عن تثبيت سوق السندات (التحكم في عائد السندات الحكومية) ولكن فقط ليتخلى عنه ويتكبّد خسائر. لذلك يجب أن تكون القاعدة الثانية اللجوء إلى التيسير الكمي فقط عندما يتم حقا استنفاد كل الخيارات الأخرى. حتى بعد هبوط أسعار الفائدة إلى صفر في المائة (0%) وتعذُّر خفضها إلى أقل من ذلك يمكن أن تكون البنوك المركزية واضحة بشأن نيتها بالإبقاء على انخفاض أسعار الفائدة لفترة طويلة. وهذا وعد ربما يمكن إعادة تعزيزه بالتيسير الكمي لكن يصعب الاعتماد عليه. يمكن للحكومات خفض الضرائب أو زيادة الإنفاق لحفز الاقتصاد كما فعلت وعلى نطاق واسع أثناء الجائحة. وفي مقدورها، وهذا أمر بالغ الأهمية، تمويل ذلك التحفيز المالي بإصدار دين (سندات) طويل الأجل والذي هو بعكس الاحتياطيات التي يوجدها التيسير الكمي لن يضغط على الموازنات إذا ارتفعت أسعار الفائدة. يجب أن يظل شراء السندات باقيا في "ترسانة" الطوارئ من باب الاحتياط. لكن في المستقبل على البنوك المركزية التحلي بالمزيد من الحذر وتجنب الاستعجال في استخدامه.