البنوك المركزية تواصل رفع الفائدة لمواجهة صعود أسعار الطاقة والغذاء
التضخم مازال خارج السيطرة وقد يستمر لفترة تفوق التوقعات في ظل أزمة الطاقة -
الأوروبي ينضم إلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا في اتباع آلية رفع الفائدة -
تواجه منطقة اليورو أزمة جديدة تتعلق بالعملة الموحدة التي تراجعت قيمتها لتقترب من الدولار لأول مرة -
حتى نهاية العام الماضي كانت تصريحات البنك المركزي الأوروبي تستبعد رفع أسعار الفائدة، وتؤكد الإبقاء على سياسة الفائدة بمعدلات سلبية أو قرب الصفر، وهي النسب التي حافظت عليها السياسات النقدية الأوروبية لمدة نحو (11) عامًا منذ أزمة الديون الشهيرة التي ضربت عددًا من الدول الأوروبية خاصة اليونان. وفي ظل تطورات سلبية عديدة أصابت الاقتصاد الأوروبي والعالمي منذ تفشي الجائحة، وتبعات الحرب الأوكرانية والصعود القياسي في معدلات التضخم، قام المركزي الأوروبي بتغيير توجهه معلنًا أنه سيقوم برفع تدريجي لأسعار الفائدة، لكنه تخلى فجأة عن هذا التدرج، وقام برفع أعلى من التوقعات بنحو نصف نقطة لأسعار الفائدة في دلالة على أن التضخم ما زال خارج السيطرة، وسيظل مستمرًا لفترة تفوق التوقعات في ظل أزمة الطاقة الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما قد يدفع اقتصاد منطقة اليورو إلى تباطؤ حاد أو ركود.
وكان البنك المركزي الأوروبي قد أعلن الشهر الماضي بأنه سيقوم بزيادة في سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة في يوليو، تليها زيادة ربما أكبر في سبتمبر، لكنه بقراره رفع نصف نقطة يحاول احتواء الزيادة الكبيرة في الأسعار التي تواصل الصعود، إذ أظهرت بيانات الأسبوع الماضي ارتفاع أسعار المستهلكين في منطقة اليورو بنسبة قياسية بلغت 8.6 بالمائة على أساس سنوي في يونيو بعد ارتفاعها بنسبة 8.1 بالمائة في مايو.
ويعد البنك المركزي الأوروبي مسار سياسته المستقبلية سيستمر في الاعتماد على البيانات التي تأتي من الأسواق، خاصة فيما يخص التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وسيساعد ذلك على تحقيق معدل التضخم المستهدف بنسبة 2 بالمائة على المدى المتوسط، لكن تظل المخاوف من أن التشديد السريع في السياسة النقدية بهدف رفع كلفة الاقتراض والحد من السيولة الزائدة في الأسواق؛ يمكن أن يعجل الانزلاق إلى تباطؤ اقتصادي حاد أو ركود، وهي أزمة مشتركة أصبحت تواجه كافة البنوك المركزية الكبرى.
وبتوجهه نحو رفع الفائدة، ينضم المركزي الأوروبي إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا في اتباع آلية رفع الفائدة لمكافحة التضخم، وقد أشار البنك المركزي الأوروبي إلى أن الزيادة كانت ضرورية بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود التي لا تظهر أي بوادر للتراجع في الأشهر القليلة المقبلة.
وفي مذكرة حول رفع سعر الفائدة الأوروبية، قال كارستن برزيسكي، رئيس الوحدة العالمية للاقتصاد الكلي في بنك اي ان جي: يُظهر القرار أن البنك المركزي الأوروبي يرغب حقًا في استباق أي انكماش محتمل، ويهتم بإثبات المصداقية في مكافحة التضخم أكثر من اهتمامه باتخاذ قرارات تتماشى مع توقعات الأسواق.
كما عدّ أندرو كينينغهام، كبير الاقتصاديين الأوروبيين في مؤسسة كابيتال إيكونوميكس أن هذه الزيادة في سعر الفائدة الأوروبية ستكون الأولى في سلسلة من الارتفاعات التي سيزيد بموجبها البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة على الودائع إلى حوالي 2 بالمائة خلال العام المقبل، معربًا عن اعتقاده أن البنك المركزي الأوروبي سيتعين عليه في النهاية استخدام برنامجه الجديد لشراء الأصول؛ لتجنب أزمة جديدة في منطقة اليورو.
ويستهدف مجلس البنك المركزي الأوروبي تقديم حماية أكبر للعملة الأوروبية، وتجنب نشوب أزمة ديون جديدة، ولذلك كشف البنك عن تفاصيل أول أداة لتخفيف الضغط في سوق السندات في أجزاء من منطقة اليورو، وتهدف الأداة إلى ضبط تكاليف الإقراض على الحكومات المثقلة بالديون في منطقة اليورو مثل إيطاليا.
والأداة التي أطلق عليها «أداة حماية تعميم السياسات»، هي برنامج لشراء الأسهم «يمكن تفعيلها في مواجهة ديناميكيات السوق غير المبررة والمضطربة، التي تمثل تهديدا خطيرا على السياسات النقدية في أنحاء منطقة اليورو».
وللاستفادة من هذه الآلية، وضع البنك المركزي الأوروبي معايير محددة تشمل امتثال مقدم الطلب للإطار المالي للاتحاد الأوروبي، وألا يخضع لإجراءات عجز مفرط وغياب «اختلالات شديدة في الاقتصاد الكلي»، وأن يكون لديه ديون مستدامة وفقًا لتقديرات المفوضية الأوروبية، وآلية الاستقرار المالي الأوروبي، وتقديرات صندوق النقد الدولي ومؤسسات أخرى، إلى جانب التحليل الداخلي للبنك المركزي الأوروبي، إذ أكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد أن هناك عناصر معينة في هذه الآلية للتعامل مع الديون لم يتم الكشف عنها، وأن هناك عنصرًا من حرية التصرف، واتخاذ القرار متروكًا لمجلس إدارة البنك، مؤكدة أن البنك لن يتردد في استخدام أداة مواجهة الأزمات في حال بدأت تكاليف الاستدانة في منطقة اليورو بإظهار تباين «غير مبرر».
وتوقعت كريستين لاجارد أن يظل التضخم مرتفعًا بشكل غير مرغوب فيه لبعض الوقت؛ بسبب الضغوط المستمرة من أسعار الغذاء، وضغوط أسعار الطاقة.
من جانب آخر، يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة جديدة تتعلق بالعملة الموحدة لدول الاتحاد التي تراجعت قيمتها بشكل حاد لتقترب من قيمة الدولار لأول مرة منذ تبني هذه العملة قبل عقدين من الزمان، وأدى انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار إلى رفع تكاليف الاستيراد، مما زاد من الضغوط التضخمية في منطقة اليورو، مما تسبب في حالة من القلق لدى الحكومات الأوروبية من أن يكون المسار المحتمل للتضخم ممتدًا طوال العام المقبل، وما يمكن أن يسببه ذلك من وقوع الاقتصاد في حالة ركود.
ويأمل البنك المركزي الأوروبي أن تؤدي جهود احتواء التضخم سريعًا إلى الضغط على الأسعار نحو الهبوط بما يحقق هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2 بالمائة دون الحاجة إلى مزيد من الارتفاعات في أسعار الفائدة.
لكن الطريق لذلك ليس سهلًا ويتطلب عدم ظهور عوامل، تسبب اضطرابات جديدة خلال الفترة المقبلة، كما يدرك البنك المركزي ضرورة استقرار تكاليف الطاقة، وتراجع اختناقات العرض التي أدت إليها الحرب الأوكرانية، ومشكلات سلاسل التوريد العالمية.
ورفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة الرئيسية الثلاثة إلى 0.50 بالمائة، و 0.75 بالمائة، و 0 بالمائة على التوالي، منهيًا حقبة من المعدلات السلبية التي تعود إلى أزمة الديون اليونانية في عام 2012، وبينها أسهم القرار في ارتفاع نسبي لليورو، لكن من الممكن أن يعاود التراجع مرة أخرى، وفقًا للنتائج التي سيسفر عنها اجتماع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع المقبل، وتتوقع الأسواق أنه سيرفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 0.75 نقطة، ويلقي ذلك بمزيد من الضغوط المالية علي منطقة اليورو، وقد تعرض مسؤولو البنك المركزي الأوروبي بالفعل لضغوط من المسؤولين الألمان والهولنديين والنمساويين؛ لزيادة تكاليف الاقتراض عبر رفع الفائدة على الرغم من المخاوف من أن تكاليف تمويل الديون قد تتصاعد بالنسبة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في جنوب أوروبا، وقد أدى انهيار الحكومة الإيطالية في وقت سابق إلى زيادة تكلفة اقتراض روما، والضغط على البنك المركزي الأوروبي؛ لتبني برنامجه المصمم لحماية البلدان التي تتعرض لضغوط تمويل الديون.
والجدير بالذكر أن بنك اليابان قد أشار في وقت سابق إلى نيته للإبقاء على أسعار فائدة منخفضة للغاية، مشيرًا إلى عزمه على البقاء بعيدًا في موجة تشديد السياسة، لكن بينما تتسارع العديد من التطورات في المشهد الاقتصادي العالمي، فإن هذه النوايا قد تتصادم مستقبلًا بعوامل طارئة تؤدي إلى تغيير توجه اليابان نحو تشديد السياسة النقدية.
