منظر عام يظهر ميناء الحاويات في محطة تانجونج باجار في سنغافورة . ا ف ب
منظر عام يظهر ميناء الحاويات في محطة تانجونج باجار في سنغافورة . ا ف ب
الاقتصادية

أزمة النقل البحري للحاويات .. هل تغير نمط التجارة؟

17 سبتمبر 2021
17 سبتمبر 2021

الأيكونومست - ترجمة: قاسم مكي

سفينةٌ عملاقة تَعلَق في قناةَ السويس وتُغلقها. وأسعار شحنٍ بحريٍّ قياسية في ارتفاعها. وأساطيل من السفن التجارية تنتظر خارج الموانئ. وإغلاقات سببها كوفيد-19 . نادرا ما اتَّسمَت تجارة الشحن البحري للحاويات بهذا القدر من الإثارة الذي شهدناه هذا العام.

لقد تجاوز متوسط تكلفة شحن حاوية قياسية كبيرة (40 قدما) 10 آلاف دولار. وهو ما يزيد بحوالي أربعة أضعاف عن تكلفتها في العام الماضي. أما السعر الفوري لإرسال مثل هذه الحاوية من شنغهاي إلى نيويورك والذي كان حوالي 2500 دولارا في عام 2019 فيقترب الآن من 15000 دولار. وتأمين حجزٍ متأخر على طريق بحري مزدحم من الصين إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة يمكن أن يكلف 20 ألف دولار.

نتيجة لذلك تلجأ بعض الشركات إلى تدابير اضطرارية. فشركة بيلوتون التي تصنع دراجات تمارين رياضية باهظة الثمن تتحول إلى الشحن الجوي. لكن التكلفة هنا أيضا في عنان السماء. فهي تصل إلى ضعف مستواها في يناير 2020 مع محدودية سعة الشحن (نصفها يتوافر في عنابر أمتعة طائرات الركاب) بسبب القيود المفروضة على الرحلات الجوية. واستأجرت شركتا متاجر التجزئة الأمريكية وول مارت وهوم ديبو سفنا بطريقة مباشرة.

كما اتضح أن استخدام سفنٍ غير ملائمة خيارٌ شبه كارثي. ففي يوليو تم التخلي بسرعة عن محاولة شحن حاويات في سفن بضائع عامة (سائبة) تنقل في العادة الفحم الحجري أو خام الحديد وذلك عندما تحركت حمولة السفينة على متنها مما أجبرها على العودة إلى الميناء.

ويجري نقل المزيد من الحاويات عبر آسيا بواسطة القطار. بل بعضها، حسبما ذكر، ينقل على الشاحنات من الصين إلى أوروبا ثم بحرا عبر المحيط الأطلسي تجنبا للموانئ الصينية المزدحمة.

لا يمكن للقطارات والطائرات واللواري (الشاحنات) فعل الكثير، خصوصا فيما يتعلق بنقل البضائع إلى النصف الآخر من الكرة الأرضية.

تنقل سفن الحاويات حوالي ربع السلع المتداولة بالتجارة في العالم من حيث الحجم وثلاثة أرباعها بالقيمة. والخيار كثيرا ما يكون بين الدفع ومعاناة التأخير في موانئ بلغت أقصى طاقتها (في المناولة) أو عدم الاستيراد إطلاقا.

عالميا، هنالك حوالي 8 ملايين حاوية (20 قدما) إما في الميناء أو في انتظار تفريغها، وهذا يعني ارتفاعا بنسبة 10% على أساس سنوي.

من جهة أخرى، بنهاية أغسطس كانت حوالي 40 ناقلة حاويات راسية قبالة لوس أنجلوس ولونج بيتش. وتقول إليانور هادلاند من شركة دروري الاستشارية أن تلك السفن تخدم "كمواقف سيارات" للحاويات تجنبا للموانئ المزدحمة والتي بدورها تفتقر إلى القطارات أو اللواري (الشاحنات) لنقل السلع إلى المستودعات المكتظة سلفا. وأوضاع الاختناق، بحسب إليانور، موجودة في سلسلة النقل البحري بأكملها .

حافظ النقل البحري للحاويات على حركة سلاسل الإمداد وعلى بقاء العولمة لسنوات. ومع امتلاء الأرفف ووصول المنتجات من الجانب الآخر للكرة الأرضية بسرعة إلى أبواب مساكن الزبائن بالكاد لم ينتبه أي أحد من خارج القطاع لما يحدث فيه.

يقول ديفيد كيرستين من بنك جيفيرز أن النقل البحري "كان رخيصا إلى حد أنه لا يكاد يحسب له حساب." لكن الآن مع تراكم حالات التأخير، تخسر الصناديق المعدنية (الحاويات) سمعتها كوسيلة شحن رخيصة وموثوقة.

قلة من الخبراء هي التي تعتقد أن الأوضاع ستتحسن قبل بداية العام القادم. بل من الممكن أن يسرِّع تطاولُ أمد أعطال شحن الحاويات عن طريق البحر إعادة تنظيم التجارة الدولية.

أحد أسباب إجهاد النقل البحري الذي كثيرا ما ينتقل من ازدهار قصير الأمد إلى انهيار مستدام أنه كان يتمتع بفترة من الاستقرار قبل الجائحة.

ويشير ستيفن جوردون من شركة التوكيلات الملاحية كلاركسونز إلى أن هذا الصناعة بحلول عام 2019 كانت تتمتع بانضباط ذاتي. فقد كانت تسيطر على نحو غير معهود على طاقة النقل المتاحة ودفتر طلبيات السفن الجديدة.

ثم جاء كوفيد- 19. وتوقعا منها بانهيار وشيك في حجم التجارة، عطلت شركات النقل البحري 11% من أسطول العالم.

لكن في الحقيقة صمدت التجارة وبدأت معدلاتها في الارتفاع. وشرع الأمريكيون بعد حصولهم على أموال برامج التحفيز في الإنفاق.

في أول سبعة أشهر من العام الحالي ارتفع حجم البضائع المنقولة بين آسيا وأمريكا الشمالية بحوالي 27% مقارنة بمستوياتها قبل الجائحة، حسب رابطة مالكي السفن "بيمكو".

وارتفعت مناولة الموانئ بنسبة 20% في الربع الثاني من عام 2021 مقارنة بعام 2019. في الأثناء، لم يشهد باقي العالم نموا يذكر. فأوروبا الشمالية سجلت نموا بنسبة 1%. لكن أسعار الشحن ارتفعت بشدة في كل الطرق البحرية لأن السفن اتجهت لخدمة تجارة باسيفيكية (عبر المحيط الهادي) مربحة، مما قلل من طاقة النقل البحري المتاحة للآخرين.

يقول آيتان بوشمان من شركة النقل الرقمية "فريتوس" أن النظام الذي تُستنفَد طاقته يتعرض إلى أثر تعاقبي (سلسلة أحداث يقود كل منها إلى الآخر). لقد كان من شأن تغيير وجهة الشحنة وإعادة جدولة الوصول، في وقت ما، التخفيف من أثر إغلاق جزء من يانتيان، أحد أكبر موانئ الصين في مايو. ثم ميناء نينغبو الصيني أيضا في أغسطس بعد حالات تفشي كوفيد-.19 . لكن هذا مستحيل بدون توافر سعة (طاقة) مناولة احتياطية.

يقول سورين سكو، الرئيس التنفيذي لشركة ميرسك للملاحة، أكبر شركة نقل حاويات في العالم، "كل السفن التي يمكن أن تُبحِر قيد الاستخدام الآن."

الشاهد أن الحاويات الفارغة موجودة في الأماكن الخطأ. فازدحام الموانئ يُخرج السفن من الخدمة.

في شهر يوليو نقلت صناعة الشحن البحري 15 مليون حاوية، وهذا عدد يفوق ما شحن منها قبل الجائحة. لكن متوسط وقت الشحن من الباب إلى الباب للبضاعة العابرة للمحيط ارتفع من 41 يوما قبل عام إلى 70 يوما، بحسب شركة فريتوس.

ويعتقد بعض المراقبين أن الوضع قد يعود إلى طبيعته بعد السنة الصينية الجديدة في فبراير القادم. وتلك فترة ينخفض فيها النشاط عادة.

يقول بيتر ساند من رابطة ملاك السفن "بيمكو أن زوال هذه الأعطال قد يستغرق عاما. ويشير لارس جينسن أحد مسؤولي الشركة الاستشارية فيسبوشي للملاحة إلى أن إضراب عمال الموانئ في الساحل الغربي للولايات المتحدة 2015 تسبب في تعطيل مماثل ولو أنه اقتصر على تلك المنطقة فقط. لكن الانتهاء من الأعمال المؤجلة احتاج إلى نصف عام. وعلى جانب الطلب، يعتمد الكثير على رغبة المستهلكين الأمريكية في الشراء. وعلى الرغم من تراجع مبيعات التجزئة في يوليو إلا أنها لا تزال أعلى بنسبة 18% قياسا بمستويات ما قبل الجائحة ، بحسب شركة أكسفورد إيكونوميكس الاستشارية.

لكن حتى إذا تباطأ طلب المستهلكين الأمريكيين إلا أن الشركات مستعدة للإنفاق بسخاء مع تجديد مخزوناتها التي نفدت نتيجة لموجة الشراء والاستعداد لموسم الإجازات عند نهاية العام. كما توجد مؤشرات بأن الطلب يزداد في أوروبا.

في أوضاع البلبلة يظل هنالك شيء واحد مؤكد. يقول بيتر ساند أن صناعة النقل البحري الوفيرة الأرباح تتصرف على النحو المعتاد وذلك بتسجيلها رقما سنويا قياسيا من الطلبيات الجديدة لسفن الحاويات في أقل من ثماني أشهر هذا العام . لكن هذه المعالجة للأزمة والتي تستلزم انتظارا لفترة تتراوح بين سنتين إلى ثلاث سنوات لن تؤتي أكلها حتى عام 2023. والسباق لإغراق سوق (سفن الحاويات) قد لا يضاهي تدفقات الماضي.

فاليوم توجد أحواض أقل لبناء السفن إذ يبلغ عددها 120 مقارنة بحوالي 300 حوض في عام 2008 عندما سُجِّل الرقم القياسي السابق.

كما يتعرض الشحن البحري، الذي يطلق 2.7% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حول العالم، إلى ضغوط ليقلل من تلويث الهواء. وستطبق بحقه إجراءات أشد صرامة في عام 2023.

الخلاصة هي أن صناعة الشحن البحري" ستظل حساسة لدورة توسع وانكماش" لكن مع استقرار الأسعار عند مستوى أعلى، حسبما يقول الرئيس التنفيذي لشركة ميرسك.

قد يكون الانضباط أكثر ديمومة سواء في طلب طاقة شحن إضافية (سفن جديدة) أو إدارة السعة الموجودة. لقد أفادت الإندماجات. فأكبر عشرة شركات لديها 80% من سعة الشحن مقارنة بحوالي 50% إلى 60% قبل عقد.

يعتمد أثر ارتفاع تكاليف الشحن البحري على نوع السلع التي يتم نقلها. فأولئك الذين يأملون في شراء سلع مستوردة كبيرة الحجم ورخيصة مثل أثاث الحدائق قد ينتظرون وقتا طويلا.

ينوِّه بوشمان إلى أن الأسعار الفورية الحالية للنقل البحري قد تضيف ألف دولارا إلى سعر أريكة تُشحَن من الصين إلى أمريكا. إلى ذلك، الآثار على أسعار المنتجات حتى الآن خفَّت حيث تخضع 60% من السلع لترتيبات تعاقدية بأسعار شحن بحري تم الاتفاق حولها مقدما و40% فقط للأسعار الفورية المتصاعدة.

مع ذلك، تشكل تكاليف الشحن لمعظم السلع نسبة مئوية صغيرة من إجمالي تكلفتها. يقول رئيس شركة صناعية عالمية عملاقة في أوروبا أن التكاليف البالغة الارتفاع يمكن احتمالها الآن. كما من المستبعد أن ترتفع أسعار الشحن بأكثر مما فعلت حتى إذا استمر تباطؤ النقل البحري.

وكانت شركة "سي أم إيه سي جي إم"، وهي ثالث أكبر شركة شحن بحري بالحاويات في العالم قد أذهلت المراقبين في العاشر من سبتمبر عندما ذكرت أنها ستضع سقفا للأسعار الفورية للشحن عبر المحيطات. ومن الممكن أن تقتدي بها الشركات الأخرى في ذلك.

تكاليف التخلص من انبعاثات الكربون تعني أن الأسعار ستستقر في نهاية المطاف عند مستوى أعلى من تلك التي كانت سائدة قبل الجائحة. رغما عن ذلك تشير دراسة أجرتها شركة ميرسك أن ذلك لن يؤثر كثيرا على الزبائن. وحتى إذا كلف الوقود المستدام (المنخفض الكربون) ثلاثة أضعاف الوقود الكربوني فإن أثر زيادة تكلفة الوقود لكل حاوية إلى 1200 دولار عبر المحيط الهادي سيكون في حده الأدنى لكل صنف في حاوية تحمل 8000 زوجا من الأحذية الرياضية.

بدلا عن ذلك فإن مشكلة الموثوقية هي التي قد تغير الطريقة التي تفكر بها الشركات. يقول ساند إن الشركات ستحتاط للنقص في الإمدادات بتكوين مخزونات أعلى بكثير من مستوياتها في فترة ما قبل الجائحة.

أيضا الموثوقية والكفاءة قد تعجل باستخدام التقنية في صناعة الشحن البحري التي ظلت تقاوم تطبيقها منذ فترة طويلة.

يقول سورين سكو حتى الآن لا يوجد ما يشير إلى "نقل العمليات الإنتاجية إلى بلدان قريبة" باستثناء صناعة السيارات. لكن الحرب التجارية والجغرافيا السياسية والعراقيل المرتبطة بكوفيد 19 يمكن في مجموعها أن تقود أنماط التجارة إلى الاتجاه بعيدا عن الصين.

بعض الشركات الصينية وشركات إمدادها تنقل عملياتها الإنتاجبة إلى بلدان أقل تكلفة بهدف تنويع سلاسل الإمداد والالتفاف حول الحواجز التجارية.

ويشير كيرستينس من بنك جيفيريز إلى أن حجم الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة تراجع بنسبة 7% في عام 2019 بعد فرض إدارة الرئيس دونالد ترامب رسوما جمركية على الصين. لكن واردات أمريكا ظلت مستقرة عموما حيث غطت بلدان مثل فيتنام وماليزيا تلك الفجوة.

ويمكن أن يقدم التحوط من إغلاقات كوفيد-19، خصوصا بالنظر إلى عدم تسامح الصين مع حالات العدوى، سببا آخر لنقل العمليات الإنتاجية بعيدا عنها.

وربما تعدُّ شركات النقل البحري العدَّة للاتجاه بقدر أكبر نحو التجارة الإقليمية. فدفتر الطلبيات يتضخم لسفن بحمولة تتراوح بين 13 ألف إلى 15 ألف حاوية (20قدم). وهي أصغر من الناقلات العملاقة التي يمكن شحنها وتفريغها في الموانئ الكبيرة فقط. وكانت فيتنام قد افتتحت في يناير الماضي مرفأ مياه عميقة جديد يمكنه شحن وتفريغ كل السفن ماعدا الكبيرة منها.

لكن من الصعب الحصول على مُصَنِّعين جدد، خصوصا للمنتجات المعقدة. وبناء مخزونات احتياطية داخل سلاسل التوريد مكلف. لكن يقال أن محادثات حول التخلي عن العولمة بدأت بين بعض مصنِّعي المنتجات السلعية والملابس الزهيدة التكلفة.

وإذا استمر الارتفاع في التكلفة وكذلك مشكلة الموثوقية سيقرر البعض أن ميزات القرب الجغرافي من الموردين ستتفوق على تكاليف النقل البحري لسلع تصَنَّع في بلدان بعيدة.

وحتى شركات الملاحة البحرية تقر بأن أسعار الشحن المرتفعة الحالية وضعف الثقة تدفع الزبائن إلى الإحساس بأنهم تعرضوا للابتزاز. ومع وجود بدائل قليلة للسفن في نقلِ البضائع سيكون الخيار الوحيد المتاح نقلَ المصانع التي تنتجها.