كيف نعلّم أبناءنا ما ينجيهم من الذكاء الاصطناعي؟
«بين عشية وضحاها، قضي على مهنتنا. صحونا فاكتشفنا أن مهارتنا باتت زائدة عن الحاجة». هذا ما قاله لي مصممو جرافيك ناجحون عن أثر الذكاء الاصطناعي. فقد انفجر بين عشية وضحاها الوعد القديم بأن العمالة المبدعة سوف تلقى حماية أكبر من غيرها أمام الميكنة. ولكن لو أن الآلات يمكن أن تحل محل الفنانين البصريين، فمن الآن آمن؟
ما من حديث عن «انتقال عادل» لمصممي الجرافيك أو المهن الأخرى التي توشك على الدمار. وفي حين أن هناك وفرة من الكلام عن التغير الذي يمكن أن يطرأ على التعليم، لم يجر عمل الكثير من أجل تجهيز الطلبة لعالم قد تتبدل فيه أوضاعهم بسرعة بالغة. فلن يقتصر ما يواجهه الناس من تغيرات مفاجئة في الأوضاع على مجال العمل فقط. إذ من المحتمل أن يشهدوا انهيارا بيئيا متتاليا، وتهاويا لأنظمة معينة من صنع البشر.
لماذا لسنا مستعدين إلى هذا الحد؟ لماذا ندير حياتنا بمثل هذا السوء؟ لماذا نحن بارعون للغاية في الابتكار المادي، لكننا عديمو البراعة في خلق مجتمع يمكن أن يزدهر فيه الجميع؟ لماذا نسارع إلى إنقاذ البنوك لكننا نقف بلا حراك بينما الأنظمة الأرضية تنهار؟ لماذا تنتشر فينا الأكاذيب الصارخة انتشار النار في الهشيم؟ لماذا نحن أفضل في إدارة علاقات العمل منا في إدارة العلاقات الحميمية؟ ما الناقص في تعليمنا فيؤدي إلى تلك الفجوات في حياتنا؟
إن كلمة التعليم education مشتقة جزئيا من كلمة educere اللاتينية وتعني «القيادة إلى الخارج». ولكن التعليم كثيرا ما يقودنا إلى الداخل ، إلى داخل أساليب في التفكير، إلى داخل مهن تموت، إلى داخل نظام لافتراس الكوكب اسمه نظام العمل في الاقتصادي حسب النهج المعتاد. ونادرا للغاية ما يقودنا إلى الخروج من شراكنا المعرفية والعاطفية، ومن التوافق مع أنظمة سياسية واقتصادية تجهز علينا.
لا أزعم أن لدي إجابات قاطعة. لكنني أؤمن أن مبادئ معينة قادرة على أن تساعد. أحدها أن الصرامة قاتلة. فأي نظام تعليمي يحبس الطلبة في أنماط ثابتة من التفكير والعمل سوف يرسخ ضعفهم أمام التغير السريع والكبير. فعلى سبيل المثال، قد لا يكون هناك تجهيز أسوأ للحياة من اختبارات التقييم المعيارية SATs في إنجلترا التي تسيطر على السنة السادسة في التعليم. ولو أن في شهادات الآباء الذين أعرفهم عينة تمثيلية، فإن هذه الاختبارات تجربة ساحقة لأغلب التلاميذ، تسلبهم الحماس، وتحصرهم في مسار ضيق مسيج وتطالب بالصرامة فيما تطالب عقولهم بالتفتح والتوسع.
إن المطالب المتطرفة في نظامنا المدرسي بامتحاناته واختباراته تقلص نطاق تفكيرنا. ونظام الامتحان يخلق حدودا اصطناعية، عليها رقابة صارمة، في ما بين المواد الأكاديمية. في حين أنه ما من حدود كتلك في الطبيعة. ولو أن تفكيرنا العابر للمناهج ضعيف، ولو أننا بقينا عاجزين عن رؤية الصورة الكبرى، فذلك جزئيا لأنهم دربونا بمنتهى القسوة على البقاء ضمن الحدود.
يجب أن يكون التعليم، إلى أقصى حد ممكن، ممتعا ومبهجا، ليس فقط لأن المتعة والبهجة أساسيان من أجل سلامتنا، ولكن أيضا لأننا سنكون أرجح تحملا للتغيرات الكبيرة لو أننا نرى اكتساب المعرفة والمهارات الجديدة بوصفها تحديا فاتنا وليس بوصفها خطرا داهما.
ثمة حجج تناصر وتعارض المناهج الدراسية الوطنية. فهي أداة تسوية، تضمن أن يتعرض الجميع لمعايير مشتركة من إجادة القراءة والحساب. وهي توفر الدفاع أمام التعليم الرديء من قبيل نظرية الخلق وإنكار الهولوكوست. وهي تسمح بالاستمرارية عندما يترك المعلمون وظائفهم، وتتيح مسار معرفة واضحا من عام إلى عام. ولكنها شديدة التأثر بتعليم الساسة الرديء من قبيل إصرار حكومة ويستمر على ثقب عقول الأطفال بالقواعد النحوية الغامضة، والقوائم السخيفة الخاصة بمهام التعليم المتتالية.
عندما نتعلم بصفة عامة الأشياء نفسها بالطريقة نفسها، فإننا نفقد المرونة التي يوفرها التنوع. وإن أكثر ما يأسف له المعلمون الذين تكلمت معهم هو الافتقار إلى الوقت. فالمطالب المشتركة الكثيفة التي تفرضها المناهج ونظام الامتحان لا تكاد تترك وقتا للاستجابة للفرص والأحداث أو ليطور الأطفال اهتماماتهم الخاصة. وقد قال لي معلم أنه لو حط زاحف مجنح منقرض على سطح المدرسة، لقيل للتلاميذ تجاهلوه وانتبهوا لدروسكم.
لو أننا أردنا الاحتفاظ بمنهج وطني، فثمة موضوعات معينة من المؤكد أنه يجب أن يغطيها. على سبيل المثال، كثير من الطلبة سوف يكملون تعليمهم دون أن يتعلموا أي شيء عن مبادئ الأنظمة المعقدة. برغم أن كل شيء ذو أهمية لنا (من قبيل المخ والجسم والمجتمع والأنظمة البيئية والمناخ والمحيطات والتمويل والاقتصاد) هو نظام معقد. والأنظمة المعقدة تعمل وفق مبادئ شديدة الاختلاف عن الأنظمة البسيطة أو الأنظمة المركبة (كمحركات السيارات). وحين لا نفهم هذه المبادئ، فإن سلوكها يقع علينا وقع الدهشة. وإن الخطرين الوجودين اللذين قد أضعهما على رأس قائمتي المرتبة وفق مزيج من الاحتمالية والتأثير والوشوك ـ هما الانهيار البيئي وانهيار النظام الغذائي العالمي. وكلاهما يتعلق بنظام معقد يجري دفعه إلى ما وراء عتباته الحساسة.
بدلا من فرض حدود ين المواد، يجب أن يكسر المنهج هذه الحدود. وهذا ما تفعله البكالوريا الدولية. وأعتقد أنها خيار يجب أن يكون متاحا في كل مدرسة.
إن قدرتنا على التكيف مع التغيير الهائل تعتمد في المقام الأول على ما يسميه الممارسون «الميتا إدراك» و«الميتا مهارات». ويعني «الميتا إدراك» التفكير في التفكير. في مقالة ممتازة لمجلة أكاديميك بيرسبكتيف تذهب نتاشا روبسون إلى أنه في حين أن «الميتا إدراك» متضمن في التعليم الحالي ـ في أسئلة من قبيل «اعرض عملك» و«برِّر حججك» ـ فإنه يجب أن يكون واضحا ومستداما. يجب تعليم تلاميذ المدارس فهم كيفية عمل التفكير، من علم الأعصاب إلى التكييف الثقافي، وكيفية ملاحظة عملية التفكير لديهم ومساءلتها، وكيف ولماذا قد يصبحون ضعفاء أمام المعلومات المغلوطة والاستغلال. فقد يتبين أن الوعي بالذات هو أهم الموضوعات على الإطلاق.
و«الميتامهارات» هي الملكات الشاملة - مثل التطوير الذاتي والذكاء الاجتماعي والانفتاح والمرونة والإبداع التي تساعدنا على اكتساب كفاءات جديدة يستوجبها التغير المفاجئ. والميتا مهارات شأن الميتا إدراك شيء قابل للتعلم. لكن بعض الهيئات العامة لسوء الحظ واقعة في أسر الذرائعية instrumentalism المقبضة ضيقة الأفق التي يجب علينا أن نتجاوزها. فعلى سبيل المثال، بعد اعتبار التعاطف إحدى الميتامهارات الحاسمة، ينص دليل صادر عن هيئة تطوير المهارات في اسكتلندا على أن «التعاطف تم الاعتراف به بوصفه عاملا من عوامل نجاح الأعمال، وإن شركات من قبيل فيسبوك وجوجول ويونيليفر بارعة في هذا المضمار». والحق أنني لا أحسب أنني قرأت جملة أشد سقما من هذه الجملة.
لن يكون التعليم وحده كافيا لقيادتنا وإخراجنا من كثير من الأزمات والكوارث التي نواجهها حاليا. فعلى الراشدين اليوم أن يتولوا المسؤولية ويواجهوا بأنفسهم. لكن يجب على الأقل أن يمنحنا التعليم سراجا.
جورج مونبيوت كاتب رأي في جارديان
