الفلسـفة غـيـر الميـتافـيزيـقا

08 مايو 2024
08 مايو 2024

ليس بين الميـتـافيـزيـقـا والفلسفة من تَـطابُـقٍ كـلّـيّ في المعنى أو من تَمـاهٍ. الأولى فـرعٌ من الثانيـة وميـدانٌ فيها ومَـبْـحث، لذلك ما اختـزل أحـدٌ من الفلاسـفـة، منذ إغـريقـيا حتّى اليوم، الثّانيـةَ في الأولى أو حَمَـلَ معناها على معنـى هذه. بل نحن واجـدون، في تاريخ الفـلسفة: قـديمـاً وحـديـثـاً، فلاسفـةً كـثْـراً لم يشتـغـلوا بالميـتـافيـزيـقـا، ولا ألّـفوا في أغراضها نـصّـاً فيما هـم انصـرفـوا إلى التّـأليف في موضوعات أخـرى مثل المنطـق والسّـياسـة والطّـبيعة والمعرفة...إلخ. مع ذلك، لم نعـثـر في تاريخ الفلسفة على مؤرّخٍ للأفكار أَخْـرَج هؤلاء من حَـوْمة الفلسفة لمجـرّد أنّهم ضربوا صفـحا عن الميـتـافيـزيـقـا أو أهملوها في نصوصهم. حتّى من شغـلتْهم مسائلُ الميـتـافيـزيـقـا من فلاسفة - منذ أفلاطون حتّى اليوم - وكتبـوا في شأنها ما كتبـوه، لم تَـشْغـل من رصيد تفكيرهم وإنتاجهم إلاّ حيِّـزاً، يتّـسع أو يضيـق بحسب هذا الفيلسـوف أو ذاك، جنـباً إلى جنـب مع حيِّـزات أخرى مخصوصة لمسائل أخرى في الفلسفة بعيدة من الميـتـافيـزيـقـا، وظـلّوا في أعين مؤرّخـي الفكـر- ومُجايـليـهم ومَـن أتى بعْـدهم من الفلاسفة الميـتـافيـزيـقـيّين - فلاسفـةً بأَتـمِّ معنًـى للعبارة والصّـفة.

مَـرَدّ هذا التّمـييز بين الميـتـافيـزيـقـا والفلسفة، عند الفلاسفـة كما عند مؤرّخـي الفلسفة، إلى ما بين معنى كـلِّ واحـدةٍ منهما من اخـتلافٍ يـقـرِّرُه ما بين موضوعاتهما من فارقٍ، وما بين مباحـث الفـلسفـة جُمْـلةً - ومنها الميـتـافيـزيـقـا - من فارقٍ في نظامها المفهـوميّ. يُـشار-في العادة- إلى ميدان الميـتـافيـزيـقـا بوصفه ميدان الموضوعات التي تقـع خارج عالم المحسوسات، بلغة القـدماء، أو العالم الماديّ؛ تلك التي لا تُـدْرَك حسيّـاً - كما تُـدْرَك موضوعاتُ الطّـبيعـة والوجـودُ الإنساني - عند القدماء، ولا تخضع للدّرس العلـميّ عند المحدثين منذ نبّـه إيمانويـل كَـنْـت - في النّـصـف الثّاني من القـرن الثامـن عشر- إلى استحالة بناء علم خاص بالميـتـافيـزيـقـا. هـذا التعريف (بميدان الميـتـافيـزيـقـا) جـزئـيٌّ في تعريفٍ إجماليٍّ أوسع للفلسفـة. إنّه جـزئي لأنّـه يعـرِّف، حصراً، بـمبـحثٍ فـرعيّ من مباحـث الفلسفة لا بالفلسفـة عمومـاً؛ ذلك أنّ هذه تـتـناول مرْوحـةً واسعـةً من الموضوعات التي تنـتمي إلى مـا يقع خارج الطّبيعـة، مثل الوجـود والنّـفس...، وما يقـع داخل العالم الطـبيـعي (ظواهر الطّبيعة وعالم الوجود الاجتماعيّ)؛ لذلك يمـتـنع على المرء أن يُماهـيَ بين الميـتـافيـزيـقـا والفلسفة.

صحيحٌ أنّ بينهما مشـتَركاتٍ وجوامـعَ لا سبيل إلى إنكارها؛ ومن ذلك اللّـغةُ المستخدمة في تسمية الظّـواهر وتعريـفِها ومقاربتها، وهي لـغةٌ مفهـوميّة مبْناها على التّـجريد: أي على الارتفاع بالظّاهرة المدروسة من ملـموسيّـتـها التي تتـحدّد فيها سماتُها الخاصّـة المشخَّـصة إلى عتـبةٍ تشـترك فيها الظّـواهـر الملموسة التي من جـنـسٍ واحـد في سماتٍ عامّـة مشتـرَكـة. لكنّـها مشـتَركات لا تلغي الكثير ممّـا يُمايِـز بينهما في النّظر إلى الموضوعات. ليس في الميـتـافيـزيـقـا، مثلاً، حـيِّـزٌ مّـا من الواقعي يسمح بالوصـف أو بالتّـحليل، لذلك يغلب عليها التّـأمّـل المجـرَّد في «ظواهر» و«كائـنات» تسمّيها من غير أن تمتـلك القدرة على تأكيد وجودها أو تعـيـينِـه. أمّا في الطّبيعة والمجتمع فالظّـواهـر مرئيّـةٌ أو ملموسة حتّى وإنْ تعالـتِ المعرفـةُ الفلسفـيّة عن إدراكها بواسطة الحسّ بحسبانـه أداةً مضلِّـلَة تفضي بالذّهـن إلى معرفـةٍ مغلوطـة. لذلك، مـرّةً أخرى، ما من إمكـانٍ للمطابقـة بين الميـتـافيـزيـقـا والفلسفة؛ على نحـو ما يفعل كـلّ أولئك الذين يطعنـون على الفلسفة ومعارفـها.

يكفي المرء الباحث عن الفارق بين الميـتـافيـزيـقـا والفلسفة أن يُـلقـيَ نظراً على جهاز المفاهيم المستخـدَمة في الأولى وجهاز المفاهيم الذي يعتمده كـلُّ مبحثٍ من مباحث الفلسفة كي يتـبـيّـن ذلك الفارق. تُصادِفـنا في الميـتـافيـزيـقـا مفاهيم من قبيل: العِـلـل، الجواهـر، الأعـراض، المادة، الصورة، الطّبيعـة، الهويّـة، القـوّة، الفعل، الوجود، النّـفس، الصّيرورة، الهيـولى، المحـرِّك الأوّل، ...، ثمّ الصدور، والفيـض، والكليّـات، والعقـل الفعّـال، والعقـل المستفاد... (في الميـتـافيـزيـقـا الفـيّضيّـة)... إلخ. حين نـنـتـقل إلى فلسفة الطّبيعـة، مثلاً، لا نعثر لهذه المفاهيم على شكـلٍ مّا من أشكال الوجود، بل تُصادِفنا أخرى من قبيل: المادّة، الحركة، التّـغيّـر، الوزن، الكثـافة، السّرعة، الثّـبات، الوقـت، الحياة، اللاّنهايـة، السّبـبـيّـة...إلخ، وما في معناها وجنسِها من مفاهيم تـدور على موضوعٍ متـعيِّـن مادي هو الطّبيعـة. وهكذا هي الحال، أيضاً، حين ننتـقل إلى فلسفة السياسة (وهي فلسفةُ واقـعٍ ماديّ إنسانيّ هـو المجتمع القائم في المدينة/الدّولة)؛ حين تصادفنا مفاهيم من قبيل: السياسة، العدالة، الفضيلة، الدّولة، المواطـن، التّـربيّـة، الدّستـور، نظام الحكـم، الحريّـة، العبوديـة، الطّبقات الاجتماعيـة... إلخ. وقِـسْ على ذلك في مباحـثَ أخرى كما في حالة فلسفة المعرفة Gnoséologie، وفي حالة فلسفة الأخلاق العمليـة (حيث الأخلاقُ النّـظريّـةُ أَلْصَـقُ بالميـتـافيـزيـقـا منها بالفلسفة الاجتماعيّـة). وغـنيّ عن البيان أنّ هذه المنظومة من المفاهـيم - المومأ إليها أعـلاه - ليست من عُـدّةِ اشتغال الميـتـافيـزيـقـا حتّى يكون معنى هـذه هـو عيـنُه معنى الفلسفة.

من البيّـن، إذن، أنّ لهـذه المماهاة، التي يقيـمها البعض، بين الميـتـافيـزيـقـا والفلسفة غايةً تحـقيـريّـة هي القـدْح في الفلسفة، و«إثـبـات» عدم حاجـتـنا إليها بدعـوى خوضها في قضايا متعالية غير قابلة للقياس العلميّ ومن ثـمّـة الانتصار للعلم بحسبانـه - عند هـؤلاء - فالـقَ أسرار الكـون. على أنّ الأَدعـى إلى الغرابـة في هـذه الحملة على الفلسفة أنّ الذين يخوضون فيها ليسوا جميعهم من خصوم الفلاسـفة، مثل العلماء واللاّهـوتـيّـين والفـقهاء، بل إنّ أَظْـهَـرَهم وأَشـرسَهم هُـم من الفلاسفة أنفـسِـهم!