الفرد، المجتـمع ونظام القيم
في قلب كل إشكالية للقيم، وتحديدا لمنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، يوجد ركنان يدور عليهما السؤال، مباشرة أو مواربة، هما: الفرد والجماعة. يبدو حضورهما في النظام الأخلاقي ثابتا، في الأزمنة والأمكنة جميعها، من حيث إنهما الوحدتان اللتان تتجسد فيهما الأخلاقيات في بعديها الدائمين: الفردي والجماعي؛ ثم من حيث إنهما غالبا ما يشكلان مسرحا لصراع خفي - ومعـلن- بين أخلاق فردية نزاعـة إلى التغير وأخلاق عامة متمسكة بالثابت والموروث. ومع أن مجال الأخلاق ظل، دائما، الأقل عرضة لتيارات التغيـر والتحول، في مجالات الاجتماع الإنساني كافـة، إلا أن ذلك لم يحصنه تماما من عوامل التعريـة الاجتماعية والثـقافية، ولم يمنع من أن تدب فيه آليات التحول.
ليس من اصطدام بين قيم جديدة وقيم قديمة إلا ويمر بطريق التصادم بين الفرد/الأفراد والمجتمع، وليس من عـسر في فهم علاقة الفرد بالمجتمع في التباساتها المتعددة، وأظهرها: الانتماء إلى المجتمع انتماء جزء إلى كـل وانتماء فرع إلى أصل وبالتالي، الاتسام بسمات ذلك المجتمع وفي الوقت عينه، الخروج على المألوف والمعتاد في نظامه وانتحال طريقة أو مسلك يشبع الشعور بالاستقلالية الذاتية الفردية، حتى وإن كان ثمن ذلك نشوء حال من التجافي بينه ومحيطه قد تصير حاملة إياه، عند عتبة من استفحال أمرها، على عزلة اضطرارية أو اختيارية. والغالب أن ذلك يحصل، أكثر ما يحصل، كلما كان خروج الفرد/الأفراد على الأخلاقيات العامة، وعلى المعهود في الأعراف والقيم، وذلك بالنظر إلى الحساسية العالية لكل ما هو قيمي وأخلاقي في المجتمعات الإنسانية، إجمالا، وخاصة في تلك التي تتمتع منها بكثافة تاريخية قوية وبثقل المواريث فيها مثل المجتمعات العربية والإسلامية.
لا يبعث مثل هذا الاصطدام بين الفرد والمجتمع على اعتـقاد ما بتأزم ما في النظام الاجتماعي؛ إذ هو مما سارت به سنن الاجتماع الإنساني عبر أطوار مديدة من تاريخها: منذ الانتقالة الحاسمة من القطيع البشري إلى الاجتماع الإنساني، مرورا بنشوء علاقات أولية من التناقض بين الفردية والنظام الجمعاني، حتى اليوم الذي غدا فيه التـناقض ذاك ملحوظا ومألوفا. ونحن، هنا، لا نقصد إلى القول إن لمبدإ الفردية تاريخا سحيقا يعود إلى بدايات نشأة نظام الجماعة الطبيعية، بل يـهمنا أن ننبه إلى أن اندراج الأفراد في الجماعة الواحدة ما كان، يوما، يكفي كي يحمي داخل تلك الجماعة من دبيب التناقض بين كـلـها وأبعاضها؛ بل لقد يكون التناقض هذا التناقض الأبدي الفاعل في كيان الجماعة ما بقـيت هناك جماعة، حتى أنه يتعسر أن نتخيل - ولو للحظة - حالا من المطابقة والمساكـنة بين مبدأي الفردية والجماعية في الوجود الإنساني.
قلنا إن ميدان القيم هو الميدان الأساس لتجلي علاقات التجافي أو التـنافر بين الفرد/الأفراد والمجتمع. ها هنا نجدنا أمام ما يشبه المفارقة؛ إذ الفرد هو أول من تـلـفحه رياح التغيـر: في التصرف والذوق والشيم نتيجة اتصاله بموجات من الأفكار والحساسيات والمثالات والقيم وافدة من خارج؛ أو نتيجة الميل إلى مخالفة المعهود والمدروج عليه قصد التمييز والتمايز فالاستقلال بالذات أو-أقـلا- اكتساب الشعور بذلك. ومع أن دبيب هذا التغيـر ينتقل داخل المجتمع الواحد من فرد إلى فرد ويفشو ويتعمم، بالتدريج، إلا أن المجتمع - المكون من هؤلاء الأفراد - يظل (بما هو نظام جماعي) صادا أبوابـه أمام أي تغيـر في منظومات قيمه! كأن ذلك التغيير الجزئي والبطيء لا يجري فيه، أو لا يحمل - حين يجري - ما يؤثـر في المجرى العام؛ كأن المتحول صفـر على يسار الثابت: أو هكذا هو على الأقـل يبدو، خاصة حينما تتدفـق وقائع ذلك التغيـر في نظام القيم من ينابيع داخلية؛ أي حين يكون مصدرها أفراد من داخل المجتمع متأثـرون بأنساق أخرى، نـزاعون إلى التعبير عن ذاتيـتهم الخاصـة من خارج أسوار النظام الاجتماعي السائـد، وحيث يبدو - في الوقت عينه - وكأن النظام الاجتماعي القائم، ثابت الأركان، واثـقا من نفسه وقادرا على احتواء ما يعـتمل في جوفه من عوامل التغيير، وعلى إعادة إنتاج نفسه من جديد.
أشرنا إلى أن ذلك مما يبدو على السطح، أو - قـل - مما قد توحي به نجاحات نظام القيم الاجتماعي في استيعاب نقائضه وتجديد نفسه في صورة يتبدى فيها مجتازا امتحان الرسوخ والبقاء. ما وراء هذه الهيئة الخارجية التي يطل بها نظام القيم الموروث - والمعاد إنتاجه - تطالعنا حقائق أخرى تصب في مجرى مختلف. أول ما يطالعنا من تلك أن فعـل المؤثـر الخارجي لا يقاس، دائما، بمقادير سرعته (بطيء، سريع...) وإنما بكثافـة محموله من موارد القـوة؛ فلقد يتسارع فعـل المؤثرات (= الأفراد في حالتـنا)، ولكن من غير أن يتولد من تسارعه أثـر عظيم في النظام الاجتماعي الجاري؛ وقد يتباطأ فعل المؤثر، ولكن مفعوله يكون ذا شأن كبير أشبه ما يكون بمفعول سم بطيء النتائج. وثاني ما يطالعنا منها أن من المعسور - في المعظم من الأحيان - أن نلـحظ أمارات التغيـر في الظواهر غير المادية: في الأفكار، والقيم؛ لأن في هذه موارد من القوة هائلة في الحجب والإخفاء والطمس والتكيف بحيث يمتنع على الملاحظة التقاطها. أما ثالث ما يطالعنا منها فحقيقة الحقائق التي لا ندحة لأحـد عن التسليم بها؛ وهي أنه ما من شيء ثابت ساكن أبدا ومتـعص على التبدل. قد يكون شيء أقـل قابلية للانحلال والتفكك والزوال من غيره، لكنه قطعا آيـل - هو نفسه - إلى ما تؤول إليه العناصر كلها من تغير وتبدل: وقـيم المجتمع من هذا الجنس من المتحولات.
إذا كان التحليل السابق يصدق على جدليات نظام القيم بين الفرد والمجتمع داخل كيان واحد مندمج يتبادل أطرافه (الأفراد والجماعات) التأثير في ما بينهم، فكيف بنظام قيم مجتمع لم يعد مجتمعا سيدا على نفسه (على داخله السيادي، والسياسي، والاقتصادي، والإعلامي، والثقافي...)، مثل مجتمعات اليوم في عصر العولمة الهوجاء، وخاصة المجتمعات التي لا تشارك في صناعة معطيات العولمة، بل هي عرضة لتلـقي نتائجها عليها (مثل مجتمعاتنا)؟ ها هنا يتوقف الداخل عن أن يظل داخلا محميا بأسواره، ليستحيل مسرحا تلعب فيه عوامل الخارج وتعيد تركيبه من جديد. هذا ما يحدث، اليوم، لمنظومات القيم في معظم مجتمعات العالم بعد أن استبيح داخلها ووجدت نفسها في حالة انكشاف وعـري كاملين.
