اقتصاد ما بعد الجائحة الذي قد يكون

06 أغسطس 2022
06 أغسطس 2022

تدور التعليقات الاقتصادية في أيامنا هذه حول التضخم أو الركود عادة. لذا، دعونا بدلا من ذلك نفكر في آفاق النمو بمجرد تمكن البنوك المركزية من السيطرة على هذه التحديات.

كما هي الحال في الوقت الحاضر، يبدو أن رياحا عكسية مزعجة تواجه النمو. مع تقدم سكان أغلب الاقتصادات المتقدمة في العمر، يتباطأ نمو القوة العاملة لديها، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى زيادة الإنتاجية لكل عامل للتعويض عن النقص. ولكن مع ضعف الاستثمار في رأس المال المادي، من غير المرجح أن تنمو إنتاجية العمل بسرعة بدون إبداع حقيقي، سواء في عمليات العمل أو المنتجات. في حين تصور المراقبون في مستهل الأمر أن تزايد معدلات العمل من المنزل أثناء الجائحة من شأنه أن يعمل على تعزيز الإنتاجية (بتوفير الوقت وتجنب ازدواجية رأس المال في المنزل وفي المكتب)، تعيد شركات عديدة الآن اكتشاف قيمة تواجد العاملين في المكتب على الأقل لبعض الوقت.

يأتي نوع آخر من الرياح المعاكسة من البلدان الفقيرة، حيث عانت الأسر المنتمية إلى الطبقة المتوسطة الدنيا بشدة أثناء الجائحة والآن بسبب تضخم أسعار الغذاء والوقود. كما فات العديد من الأطفال أكثر من عامين من التعلم في المدرسة ومن المرجح أن يتركوا الدراسة، مما يؤدي إلى إضعاف قدرتهم على الكسب بشكل دائم، وتقويض قاعدة مهارات قوة العمل في عموم الأمر.

من ناحية أخرى، يهدد انحسار العولمة ــ من خلال إعادة التصنيع إلى الداخل، أو جعله أقرب إلى الداخل، أو الاعتماد فقط على دعم الأصدقاء ــ بزيادة صعوبة حصول العاملين على وظائف جيدة. وفي الأمد الأبعد، سينتشر ضعف الطلب في هذه البلدان إلى العالم المتقدم. إذا لم يجد العالم مصادر جديدة للنمو، فسوف يعود مرة أخرى إلى وعكة ما قبل الجائحة المتمثلة في الركود المزمن. لكن هذه المرة، قد يكون الوضع أشد سوءا، لأن معظم البلدان ستكون قدرتها المالية محدودة بالدرجة التي تجعلها عاجزة عن تحفيز الاقتصاد، ولأن أسعار الفائدة لن تعود بسرعة إلى المستويات المنخفضة التي كانت عليها قبل الجائحة. من حسن الحظ، هناك رياح خلفية يمكن إطلاق العنان لها. في حين يبدو أن تجارة السلع عادت إلى المستوى الذي كانت عليه قبل الجائحة، فإن التجارة في الخدمات لم تبلغ ذلك المستوى بعد. إذا كان بوسع البلدان أن تتفق على إزالة العديد من الحواجز غير الضرورية، فسوف تسمح تكنولوجيات الاتصالات الجديدة بتقديم العديد من الخدمات عـن بُـعد. إذا كان بوسع مستشار يعمل من المنزل في شيكاغو أن يلبي احتياجات عميل في أوستن بولاية تكساس، فإن هذا ينطبق أيضا على مستشار من بانكوك في تايلاند. صحيح أن المستشارين في دول أخرى ربما يحتاجون إلى مكاتب أمامية في الولايات المتحدة لضمان الجودة أو معالجة الشكاوى. لكن حجم العمل الإجمالي الذي تستطيع الشركات الاستشارية العالمية القيام به سينمو بشكل كبير، وبتكلفة أقل كثيرا، إذا كان بوسعها تقديم خدماتها عبر الحدود.

على نحو مماثل، أصبح التطبيب عن بُـعـد في حكم الممكن على نحو متزايد ليس فقط في مجال العلاج النفسي وتحليل الأشعة بل وأيضا في التشخيصات الطبية الروتينية (أحيانا بالاستعانة بمعدات محلية أو ممرض ممارس). مرة أخرى، تستطيع المنظمات العالمية (على سبيل المثال، عيادة كليفلاند العالمية) أن تساعد في خفض الحواجز المعلوماتية وتلك المتعلقة بالسمعة، مما يسمح لممارس عام في الهند بإدارة فحصوات طبية روتينية لمرضى في ديترويت ــ وإحالتهم إلى متخصصين في ديترويت إذا اقتضى الأمر.

الواقع أن أكبر الحواجز التي تعترض طريق مثل هذه التجارة في الخدمات ليست تكنولوجية بل مصطنعة. من المفهوم أن السلطات في الاقتصادات المتقدمة لا تسمح للممارسين العامين في الهند بتقديم الخدمات الطبية دون الحصول على الشهادة المناسبة. لكن المشكلة تكمن في أن إجراءات التصديق في معظم البلدان مرهقة بلا داع. ماذا لو اتفق العالم على عملية تصديق مشتركة للعمل الذي يقوم به الممارسون العامون؟ البلد الذي يعاني من أمراض غير عادية قد يُـلـحِـق إضافة إلى الامتحان الذي يخضع له من يرغبون في الممارسة هناك، ولكن فقط إذا كان ذلك ضروريا للغاية. تتمثل مشكلة ثانية في أن خطط التأمين الصحي الوطنية لا تدفع عادة مقابل خدمات من خارج الدولة. ولكن في حالة التغلب على تحدي التصديق، فلا يوجد سبب وجيه قد يمنعها من ذلك نظرا لتوفير التكاليف نتيجة لهذا. يتمثل حاجز ثالث في البيانات والخصوصية. لن يكون أي مريض على استعداد لمشاركة تفاصيل شخصية أو نتائج اختبار إذا لم يكن على يقين من أن البيانات ستظل سرية وآمنة.

في عصر التوترات الجيوسياسية والابتزاز الاقتصادي، لا يتطلب تلبية هذه الشروط التزاما من مقدم الخدمات فحسب بل وأيضا تأكيدات من حكومة مقدم الخدمة بأنها لن تنتهك خصوصية المريض. ستكون الديمقراطيات القادرة على استنان قوانين خصوصية قوية (بما في ذلك تقييد كمية البيانات التي يمكن لحكوماتها الاطلاع عليها) في وضع أفضل للاستفادة من هذه التجارة مقارنة بالأنظمة الاستبدادية، حيث الضوابط التي تحكم عمل الحكومة ضئيلة. تخيل مدى سرعة وانخفاض تكلفة وصول مواطن أمريكي إلى طبيب في حالة الاستعانة بمصادر خارجية في الأمور الروتينية. من الواضح أن البلدان المتقدمة ستستفيد، لكن الاقتصادات النامية ستستفيد أيضا، لأن الدخول الإضافية التي يكسبها أطباؤها يمكن استخدامها لتوظيف المزيد من العمال محليا. علاوة على ذلك، سيكون هؤلاء الأطباء أقل ميلا إلى الهجرة، ويمكنهم استخدام ذات تكنولوجيات التطبيب عن بُـعـد لتقديم الخدمات في المناطق النائية في بلدانهم.

في الوقت ذاته، سيكون المتخصصون في الاقتصادات المتقدمة قادرين على تقديم المزيد من خدماتهم للمرضى في البلدان النامية دون الحاجة إلى السفر إلى نيويورك أو لندن، كما يفعلون حاليا. لكن أليس من المحتمل أن يقاوم مقدمو الخدمات في البلدان الغنية إزالة الحواجز التي ضمنت لهم، إلى جانب صعوبة المنافسة عن بُـعـد، أجورا مرتفعة؟ ربما، ولكن سيظل هناك طلب محلي كبير على خدماتهم غير الروتينية. وأيضا، إذا جرى خفض الحواجز في أماكن أخرى، فسوف يكون بوسعهم خدمة أسواق أكبر كثيرا من خلال تقديم خدمات متخصصة ذات قيمة مضافة عالية.

لهذا السبب، من المرجح أن تكون فرص نجاح الاتفاق على خفض الحواجز التي تحول دون التجارة في الخدمات بين مجموعة واسعة من البلدان أكبر من فرص نجاح الاتفاقيات الثنائية. علاوة على ذلك، سيستفيد كثيرون في الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك عمال التصنيع الذين تحملوا وطأة المنافسة العالمية، من الخدمات الأساسية الأرخص. مع تضاؤل فجوة التفاوت الاقتصادي داخل وبين البلدان، يجب أن يتعزز الطلب العالمي أيضا. تكمن رياح خلفية أخرى محتملة في الاستثمارات "الخضراء". على الرغم من تسبب الحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا في تعقيد عملية الانتقال إلى الطاقة النظيفة في أوروبا، فإن قدرا كبيرا من رأس المال المسؤول عن إطلاق الانبعاثات الغازية بكثافة يظل من الواجب استبداله، ومن الممكن أن تساعد هذه الاستثمارات في دفع عجلة الاقتصاد العالمي.

لمساعدة الانتقال، يتعين على كل بلد أن يعمل على إنشاء حوافز معقولة للشركات والمستهلكين، مثل ائتمانات الاستثمار، والضوابط التنظيمية للانبعاثات، وأنظمة الحد الأقصى والمقايضة، أو ضرائب الكربون. يتعين على الحكومات أيضا أن تتفق على نظام لتوزيع المسؤولية على البلدان العالية الانبعاثات (وهي عادة غنية وأقل عُـرضة لتأثيرات تغير المناخ)، حتى يتسنى لها المساعدة في تمويل انتقال الطاقة في البلدان المنخفضة الانبعاثات (وهي عادة أكثر فقرا وأشد عُـرضة للمخاطر). الحق أن التوقعات الاقتصادية لفترة ما بعد الجائحة وما بعد التضخم ليست جميعها كئيبة. لكن الطريق لا يزال طويلا والعمل المطلوب ليس قليلا لتفكيك الحواجز المصطنعة والاستفادة من التكنولوجيات القائمة.

راغورام جي راجان المحافظ السابق لبنك الاحتياطي الهندي، وأستاذ المالية في كلية الأعمال بجامعة شيكاغو.

خدمة بروجيكت سنديكيت