هوامش... ومتون : «قرن الجارية» جغرافيا فنّيّة عمانيّة

16 نوفمبر 2022
16 نوفمبر 2022

في واحدة من زياراتي لولاية سمائل، سألت عن منطقة صويريج وقرية (هيل)، الواقعة على طريق نزوى، وحين سُئلت عن سبب اهتمامي، أجبت أريد أن أشاهد جبل (قرن الجارية)، قيل لي: هو جبل صغير، لا يوجد فيه ما يميزه عن بقية الجبال، علّقت: ليس الهدف الوصول إلى الجبل، بل إلى موقع الحكاية التي أخذ منها الجبل تسميته، قيل لي: لا بدّ لمن يزور المكان أن يجري مع الحكاية، من المنبع للمصبّ

وكيف يكون ذلك؟

يريح قدميه في (كف الصياد)، وهو كهف خارج القرية وقد حُذفت الهاء للتخفيف، وهو مكان يستريح به الصيّادون حيث التهوية الجيدة، والظلّ الظليل.

ومن (كف الصياد) إلى (قرن هيل) تسمية الجبل القديمة التي عُرف بها، قبل أن يكتسب اسم (قرن الجارية)، سارت حكاية الفتاة التي ثأرت لمقتل والدها، وهذا غير متعارف عليه في مجتمع لا يطالب المرأة بأخذ الثأر، لكن الفتاة اليتيمة التي سمّتها الفتيات (بنت المظلوم) كسرت السائد، وثأرت من القاتل، ورمته من أعلى الجبل، ومعه رمت الاسم القديم: (جبل هيل)، لينسب إليها، باسم جديد دالٍ عليها: (الجارية)، ليصبح (قرن الجارية)، وهو اسم لم أكن لأعرفه أو أسمع به لولا أن فرقة مسرح (الدن للثقافة والفن) استلهمت عرضا من القصة التي تناقلتها الألسن، باعتبارها من المرويّات التي تعلّل التسميات، وتنسج حكايات قد لا يكون لها أي وجود، غير أن التداولية تجعلها مستمرّة، لكن الفرقة صاغت حكاية جديدة، مع إسقاطات على الواقع العربي، وأزماته، فقدّمت عرضا نال عدة جوائز آخرها جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وهناك جائزة أخرى هي رسوخ اسم الجبل في الذاكرة، مثلما جعل الكاتب الكبير نجيب محفوظ من أسماء (زقاق المدق) و(خان الخليلي) على كل لسان، والشاعر بدر شاكر السياب الذي جعل لقريته (جيكور) مكانا واضحا على خريطة الشعر العربي، وحين زار الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين نهر بويب الذي أمضى الشاعر بدر شاكر السياب سنوات طفولته على ضفافه، قال "الأنهار يبتكرها الشعراء، والمدن يصنعها الخيال، فالسياب صنع من النهر والمكان أسطورة، وهنا تكمن عظمة السياب فبويب لم يعد نهرا يجري في أبي الخصيب بل أصبح بوابة الموت والحياة"، وهكذا صارت هذه الأماكن (التي ابتكرها الشعراء والأدباء) مقصدا للسيّاح، ليدخل في باب الاستثمار الثقافي.

وهكذا عرفنا (قرن الجارية)، وفي النص، عرّف الكاتب محمد بن خلفان الهنائي، بالمكان، فكتب "(قرن الجارية)، تلة صغيرة في سمائل تحكي قصتها أنّ مزارعا تزوج منها، واستوطنها لكنه قُتل من قبل جار له، ولم يثأر له أحد لعدم وجود أهل له ولأنه أنجب فتاة وحيدة، كبرت الفتاة، وحين علمت بحكاية قتل أبيها ظلت تلاحقه، وتراوده فواعدها على اللقاء أسفل التلة على أن يصعدا إلى الكهف معا، سابقته متحدية شيبته، وصلت إلى الكهف قبله، ووصل منهك القوى، دفعته إلى أسفل الجبل ورمته بالحجارة حتى مات".

لكن الكاتب لم يتوقّف عند الحكاية المتداولة، بل أسقطها على الواقع العربي الذي ينوء بالأزمات، فناقش ظاهرة الإرهاب، فجعل الحكاية تدور حول فتاة قتل تنظيم إرهابي زوجها، وظلت تلاحق القاتل باستدراجه إلى موقع الجريمة، وبذلك منحها حياة جديدة، وحمّلها بمضامين تلامس قضية تشغل الجميع، وصارت تستفحل يوميا، فكان لا بدّ من المسرح مناقشتها، وتوضيح أبعادها، وخطرها على المجتمعات الإنسانية، ولم يكن ذلك بالأمر السهل على الكاتب الذي تصدّى لعمليّة الإخراج، فقد اشتغل على العرض مدة تجاوزت الخمسة أشهر، كما قال محمد بن خلفان في الندوة التطبيقية، التي أعقبت عرضه، في مهرجان المسرح العماني السادس الذي أقيم بنزوى 2015 م، ضمن احتفالات نزوى عاصمة للثقافة الإسلامية، ونال إعجاب الجمهور، والنقاد، وحصل على جائزتي أفضل عرض متكامل، وأفضل إخراج، وواضح أن الجهد الأكبر الذي بذله المخرج تركّز في اختزال نص تجاوز عدد صفحاته الستين، مكتفيا بأربع عشرة صفحة جاءت مقسّمة إلى (32 لوحة) حملت عناوين دالّة (حين تكذب الشوارب، العز في أفواه البنادق، يأكل لحم شوقه، بالتي هي أخشن، رقصة الموت الأخيرة، ظلمات الحب والقبر، الحرب عجوز شمطاء، أنثى السبع.. أخت الحمار)، وهي عناوين تشدّ قارئ النص، قبل أن يشاهد العرض الذي حوّل به المخرج المسرح إلى لعبة الحواليس، وفي النهاية أضاف الكاتب محمد بن خلفان جغرافيا فنّيّة عمانيّة حين صاغ من اسم الجبل حكاية جديدة.