نوافذ .. ولو من "ناب غول"!

23 أكتوبر 2022
23 أكتوبر 2022

بقدر ما صدّقتُ سيمون دي بفوار حين قالت في كتابها "الجنس الآخر": "المرأة تولدُ إنسانا، ثم يجعلها المجتمعُ امرأة"، صدقتُ جداتنا وأمهاتنا أيضا رغم بساطة تجاربهن في الحياة وعمقها في آن، عندما ربيننا على سماع هذه الجملة: "المرأة تاخذ حقها ولو من ناب غول"، فالمرأة تخوض نضالها حتى وإن وصل الأمر لمجابهة أنياب الأفاعي السامّة، شريطة أن ينبع منها الاستعداد الحقيقي لذلك.

نحنُ نُقطعُ الكعك ونُوزعُ حقلا من الورد لتلك التي خرجت من منزلها وحظت بقسطٍ جيد من حريتها، ونتجاهل الأخرى القابعة في ظلماتها! المرأة التي يلتصقُ جوهرها بصفة التبعية، وتُحاول دوما التملص من هذا الدور، لكن الأمر بالغ الصعوبة في مجتمعات تتغنى بقيم التضحية التي تُبذل من جانب المرأة في سبيل صمود العائلة في وجه أي ريح!

ليست الأسرة كيانا مُنغلقا على ذاته، بل هي على اتصال مع خلايا اجتماعية أخرى، ولذا عندما نتعرف على بعض النساء عن قرب نُصاب بالدهشة من محدودية أفكارهن، وقد نجدهن زاهدات في نقد أوضاعهن المزرية، فلا يملكن القدرة على إبداء الأحكام حولها، رغم أنّ بعضهن متعلمات ولكنهن مُصابات بالفزع من مواجهة مجتمعات تنمطهن في صُور محدودة.

وإلى يومنا المتحضر هذا، ثمّة نسوة تُدير عوالمهن قوى ذكورية غامضة لا يمكن مجابهتها، ولذا تتبلد مشاعرهن ويُصبن بالرضوخ، وأتساءل لو أنّ باب أمل صغير انفتح أمامهن، هل يمكن لهن أن يتخلين عن خطابات مُخدرة وقامعة، أتحدث عن النساء اللواتي يُقبِلن الأيادي التي تمتد إليهن بالضرب، النساء اللاتي يقبلن العيش برفقة الإهانة، يعشن خوفا من مجابهة مجتمعات مُتناقضة ومريضة، هن نساء يعشن بيننا لكن الخوف يُعمر قلوبهن ويحتجن خطابا جديدا ومُنفتحا يقود خطواتهن إلى النور.

حتى المرأة المتحررة تعيشُ اليوم الذوبان في حالة من التبرج المُبالغ فيه لتغدو تمثالا جاذبا على مسرح الحياة، بينما هي في حقيقة الأمر تُعزز صورتها كمتاع، لأنّ هذا اللهاث المريض يُعبر عن "عبودية ما أو عن جوع للثناء"، لقد صرنا نعيش في زمن تتشابه فيه النساء، حيث توحدهن أدلجة جاهزة لمفهوم الجمال، الأمر الذي يدفع لتضاؤل جمالهن الفردي والخاص.

بالتأكيد لقد تجاوزنا الأزمنة البدائية التي احتكرت المرأة فيها ضمن صورة الكائن المُستثمر للتناسل من قِبل سيد مُستبد، كما تجاوزنا الرجل الذي قدّس الأمومة في المجتمعات الزراعية، عندما خلع عليها سحرا استثنائيا مُنحازا لقيمة الإنجاب لهدف براغماتي. وإن كان المزارع عاجزا أمام الطبيعة، فإنّ الصانع كيّف الكثير من الظروف بسبب تحكمه بالآلة، فلم يعد بوسعه استكمال ذاته إلا بتحرير المرأة من صورتها المقدسة إلى صورة مادية.. هذا ما تشير إليه بوفوار وهي تؤكد أنّ المادة هي الأصل، وأن من يمتلك مصدر الدخل هو الطرف المُتحكم في طبيعة العلاقة، وهي بذلك تُفسر طغيان الرجل وتحكمه لأسباب تعود لامتلاكه أدوات الإنتاج، ولكن عندما قضت الحربان العالمية الأولى والثانية على حياة الملايين من الرجال، بالموت الجسدي أو النفسي، فرضت المرأة حضورها في الحياة بصورة مذهلة.

لكنها لا تنفي وظيفة "التوالد" التي لا تقل أهمية عن الإنتاج، فهنالك فترات تاريخية يُجدي فيها إكثار الذرية أكثر من العمل بالمحراث، وفي سياق كهذا ينبغي تجاوز النظرة المادية التي لا ترى في الرجل والمرأة إلا كيانات اقتصادية، بينما تُقدر لهم الطبيعة مهمة الحفاظ على نوعنا البشري.

"الأمومة" رغم أهميتها لا ينبغي أن تجعل من المرأة كائنا مُصابا بالخمول والانعزال، ولذا ينبغي تحطيم الحلقة الفاسدة والدوامة الفارغة التي تجعل كل جنس من الجنسين ضحية للآخر.

ربما لم يعد كتاب "الجنس الآخر" لسيمون دي بوفوار، أو كتاب فرجينيا وولف "غرفة تخص المرء وحده"، ملائمين لعصرنا هذا، فخلال هذه العقود انفتحت حياة النساء بصورة لافتة، ولكن بالمقابل استجدت قضايا جديدة تستحق أن نستحضرها من قبيل: العنف الأسري، وحقها في إعطاء الجنسية لأبنائها، وتلك الحقوق المرتبطة بالطفل من رعاية ورضاعة باعتبارها حقوقا مرتبطة بالمجتمع قبل أن تكون مرتبطة بالمرأة، والقوانين المتعلقة بـ"الدية" التي تُعاملها كروح من الدرجة الثانية، وقصص أخرى لا تقل أهمية تستحق أن تُنتزع من ناب غول.