نوافذ :صراع العود الأبدي

25 يناير 2023
25 يناير 2023

قرأت رواية " يحيى" لسميحة خريس منذ أكثر من عشر سنوات، لكن ذكراها ظلت حاضرة وبشكل غير مسبوق في روحي، فصرت كلما ضربت المثل برواية عربية أذهلتني قلت "يحيى".

استطاعت هذه الرواية بأسلوبها السردي المتقن أن تعيدني إلى القرنين السادس والسابع عشر الميلادي، أي إلى الفترة التي كانت بادية الأردن واقعة تحت الحكم العثماني، فشهدت ظروف ميلاد يحيى، ورأيته يكبر أمام عيني وكأني "آمنة" أخته الكبرى، ثم دخلت عوالمه الجوانية، وهو يشاكلنا بأسئلته حول الوجود والموجود والصلة والوصل والموصول.

ثم تجلى تحاسد ذوي القربى فقطعت معه صحراء سيناء هربا، حتى وصلنا إلى أسواق المحروسة، حيث غنيت مواويل أهلها، وبكيت مع فقرائها، وفزعت مع طلاب الأزهر وخيول الوالي التركي تعيث الفساد فيه، ثم عدت معه إلى الكرك، ومعه سافرت إلى دمشق فجبت أسواقها، وتعلمت حرف صانعيها، وأحوال قضاتها وأولي الأمر فيها، غارقة في معين من اللغة العذبة، مصغية لصوت الزمن لا صوت الكاتب.

أدخلتني الرواية عالما سحريا أنشأته "سميحة خريس" من الكلمات لكنه غرف من معين التنوع المعرفي والجلد على البحث لإعادة تشكيل تلك العوالم التي مضت، فما بقي منها إلا ما دونه أهل زمانها في وصف أحوالها وأحوالهم، وما احتفظت به متون الكتب من مشاغل فكرهم، وذاك الصراع المحتدم بين أهل العرفان من جهة، والسلطة الدينية والعسكر من جهة أخرى.

الصراع هو الحياة عينها، حياة تنقضي وتتجدد أو كما تقول المؤلفة على لسان يحيى في الرواية "الحياة التي أعرف تنقضي، لكنها تتجدد كل يوم، تولد بثوب قشيب. هي ذات الحياة التي كانت، وجوهها شتى، وأسماؤها مغايرة، وجوهرها واحد"، وكأنَّ يحيى هو جوهر حكاية كل زمان ووجع كل مكان، أو كأنَّه تمثل للعود الأبدي في واحدة من تجلياته.

بإمكاني أن أدعي أني عرفت سميحة خريس الكاتبة من تلك القراءة الأولى، لكني منذ ذلك الحين قرأت لها أعمالا أخرى كثيرة، ووجدت أني في كل قراءة أتعرف على أدب وروح سميحة خريس من زاوية مغايرة، فهي قادرة في كل كتابة على إدهاش القارئ واستفزازه معرفيا، وإدخاله إلى عوالم لا يجيد ولوجها غيرها.

تسربت سميحة خريس الإنسانة والكاتبة، بكل لطفها وبكل ذكائها وموهبتها إلى أعماقي، فأعطتني واحدا من أهم دروس الحياة والكتابة؛ أن تأخذ الكاتبة نفسها بجدية، كي تقدم نتاجا أصيلا ورزينا دون مساومات اللغة والتشكلات الروائية للجسد، متجاوزة الحد الوهمي الفاصل بين الموضوعات المقسمة جندريا إلى الموضوعات ذات البعد الفكري والإنساني، دون إغفال لحساسية الدور الجندري وغير متعالية عليه، بل بتضمينه داخل السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمعات.