اكتشاف العرب وتطور اللسان العربي في "مفصل" جواد علي

06 أغسطس 2023
06 أغسطس 2023

رغم مرور عدة عقود على أولى طبعاته فما زال "مفصل" جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام يحتل موقع الصدارة في قائمة المراجع بمجال تاريخ المنطقة القديم، وهذه هي أولى قراءاتي لهذا الكتاب العظيم، وقد كانت مختلفة في طبيعتها عما اعتدته من قراءات ذلك أنني أقبلت على القراءة في وضع ما أسميه بالـ"معطيات الخارجية" بمعنى أن تكون القراءة قد سبقتها إلمامات وخلفيات عن الموضوع قيد القراءة تشكل هذه الإلمامات -إضافة لامتزاجها بالنص الأساسي وإثرائه- عامل حفز للمضي في القراءة الجديدة بشغف نابع من فضول عارم.

وهذا وضع يعرفه كل من قرأ كتابا يكثر من الاستشهاد بمصادر خارجية لدرجة أن يقع القارئ في غرام تلكم المصادر المذكورة فيتتبعها قاصدا الاستزادة من المنبع والاغتراف من معينه، وحين نتكلم عن "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" فهو كما يعرف كثير من القراء كان ولا يزال مرجعًا أساسيًا لكثير من الكتب في مجالات تتجاوز منطوق عنوان الكتاب إذ أن مفصل جواد علي هو بحث في التاريخ والميثولوجيا والعقائد واللغات القديمة والأعراق والأنساب والجغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وإذا أخذنا على سبيل المثال جزئية التاريخ في محتوى هذا الكتاب الضخم فسنجد أنه مرجع في تاريخ ما قبل الإسلام وما بعده وذلك لأن التاريخ هو تيار مستمر يؤثر "الماقبل" فيه على "المابعد" ولا بد للباحث أن يتناولهما كليهما بعين الفحص والنقد.

وبعد أن أنهيت قراءة سفرين من الأسفار العشرة لهذا المؤلَف الضخم يمكنني أن أقول بأنني قد خرجت بحصيلة معرفية كبيرة لا يمكن أبدًا إجمالها في مقال أو اثنين ولكن يمكن على عجالة أن مر سريعًا على بعض النقاط وأربطها بـ"المعطيات الخارجية" التي أشرت إليها آنفا والتي هي نتاج قراءات أخرى امتزجت مع معطيات قراءة هذا الكتاب لتعطي أفكارًا جديدةً، وتؤكد أخرى أو تصححها.

يذكر د. جواد علي أن علماء الآثار الأوائل الذين كانوا في معظمهم من المستشرقين حينما بدأوا البحث والتنقيب في آثار المنطقة وتاريخها القديم فوجئوا باكتشاف لغات الشعوب القديمة التي كانت في معظمها متقاربة في مفرداتها وحروفها مما يدل على ترابط أقوام وشعوب منطقة الجزيرة العربية والعراق والشام بعضهم مع بعض واعتبارهم أجزاء من جماعة أكبر حاروا في توصيفها، وبما أن التوراة المتداولة حاليا ورد فيها بأن سام بن نوح كان له أولاد هم عيلام ولود وأرفشاد وإرم فتم إطلاق مصطلح "شعوب سامية" على مجموع هذه الشعوب ذات اللغات المتقاربة أي أنهم نُسبوا جميعا إلى سام بن نوح بدون أي سند علمي أو منطقي مقبول.

يقول د. جواد علي في المجلد الأول: "لاحظ المعنيون بلغات (الشرق الأدنى) وجود أوجه شبه ظاهرة بين البابلية والكنعانية والعبرانية والفينيقية والآرامية والعربية واللهجات العربية الجنوبية والحبشية والنبطية وأمثالها، فهي تشترك أو تتقارب في أمور أصلية وأساسية من جوهر اللغة، وذلك في مثل جذور الأفعال، وأصول التصريف، تصريف الأفعال، وفي زمني الفعل الرئيسيين، وهما: التام والناقص، أو الماضي والمستقبل، وفي أصول المفردات والضمائر والأسماء الدالة على القرابة الدموية والأعداد، وبعض أسماء أعضاء الجسم الرئيسية، وفي تغير الحركات في وسط الكلمات الذي يحدث تغيرا في المعنى، وفي التعابير التي تدل على منظمات للدولة، والمجتمع والدين، وفي أمور مشابهة أخرى، فقالوا بوجوب وجود وحدة مشتركة كانت تجمع شمل هذه الشعوب، وأطلقوا على ذلك الأصل، أو الوحدة (الرس السامي) أو (الجنس السامي)، أو (الأصل السامي).. وقد أخذ من أطلق هذه التسمية، تسميته هذه من التوراة أخذها من اسم (سام بن نوح) جد هذه الشعوب الأكبر كما هو وارد فيها [التوراة]". ص 222

في المجلد الثاني يستعرض د. جواد نقوش حضارات جنوب الجزيرة أي منطقة اليمن وبالأخص ممالك معين وقتبان وسبأ وحمير، حيث يتضح من نقوش المسند -التي كانت منتشرة في جزيرة العرب جنوبها وشمالها وحيث يمكن بسهولة رؤية أن اليمنية القديمة والسريانية والنبطية والآرامية والثمودية وباقي الألسن ما هي إلا لهجات متفرعة من لغة واحدة أم -ما يدل على أن هذه الشعوب لها امتداد وسلف مشترك، أما الأمر الآخر المثير للفضول عند تتبع لغة نقوش المسند فهو إدراك أن عربية اليوم تطورت من تلك اللغة وأنها كانت في طور أقل تعقيدا حينها، إذ كان نحوها وصرفها بدائيين بسيطين إذا ما قورنا بالفصحى أو "لهجة قريش" أي اللغة العربية الرسمية حاليا، فإضافة إلى وجود ألفاظ ومفردات هي نفسها لم تتغير أو تغير فيها حرف وحرفان نجد كذلك أن الكلمات المؤنثة أو المنتهية بالتاء المربوطة بشكل عام كانت تنطق بتاء مفتوحة مثل: أرضت بمعنى أرض وجذيمت أي جذيمة ويبست بمعنى اليابسة وهذا يوضح لنا كيف تطورت اللغة من تلك لهذه. أمر آخر يكشف عنه التأمل في لغة النقوش هو أن تنوين الأسماء النكرة في لغتنا الحالية كان يرد كأداة تعريف في الألسن العربية الجنوبية القديمة بالنون أحيانا وبالميم أحيانا أخرى مثل "ثورم" الثور "شرقن" الشرق "سرم" السرو "عبرم" العبور"سمين" السماوات "رضين" الأراضي وبالمناسبة فما زالت لغتنا الحالية إلى الآن تجمع الأرض على "أرضين".

هذه النقوش أيضا ترينا كيف تطورت الثقافة العربية بشكل عام فمثلا خذ حرف المسند "ذ" الذي يرد كثيرا بمفرده ليعطي دلالة "ذو" أو "ذي" (ملاحظة: نقوش المسند كانت تهمل حروف العلة ما لم تكن من جذر الكلمة) التي كانت تأتي بصيغة جامدة بغض النظر عن محلها من الجملة، ومنها صيغت أسماء معظم الشهور حينها مثل: ذي قيضم (قارن: القيظ) وشهر ذو حجت (ذو الحجة)، كما تورد النقوش اسم أحد المعبودات في المرحلة الجاهلية المتأخرة باسم "ذ سموي" أي رب السماوات وكذلك المعبود "رحمن" الذي تبنت عبادته لاحقا -بحسب بعض الباحثين- جماعة الأحناف قبيل البعثة المحمدية وقد ظهر هذان المعبودان في الجغرافيا السبئية والحضرمية بعد تراجع شعبية معبودات أخرى ظلت مسيطرة لقرون طويلة مثل الإله "المقه" و"تألب" و "ود" وعثتر".

هنالك كذلك ذكر لكثير من القبائل التي قام النسابون لاحقا باختراع شجرة أنساب لها وجمعها في سلسلة متصلة فقبيلة "بغيض" وردت بصيغة "رغيض" وقبيلة كدت التي استعصى نطقها لاحقًا على اللسان الفصيح فقلبت إلى "كندة" ومما لا شك فيه أن الإخباريين وأهل الأنساب إنما استعاروا أسماء لبعض التجمعات القبلية مثل تجمع سبأ وتجمع حمير وتجمع خولان وغيرهم فجعلوا كلاً منها يدل على اسم علم افترضوا انتماءه إلى سلسلة نسب في السلسلتين الرئيسيتين اللتين هما عدنان وقحطان. وقد ذكر د. جواد كيف أن "عدنان" لم يرد ذكره في الشعر العربي حتى وقت متأخر بعد الإسلام بل إن شعر الفخر في الجاهلية كان بين قبائل قحطان من جهة وخصومها قبائل معد من جهة أخرى بينما ظهر اسم عدنان والد معد لاحقًا ورغم أن هذا ليس دليلا كافيا في رأيي على غياب عدنان من الذاكرة الشعبية والجمعية لما قبل الإسلام إلا أنني أميل إلى الرأي الذي اطلعت عليه في مصدر خارجي والقائل بأن الجدين الأكبرين للعرب (عدنان وقحطان) ما هما إلا تجلٍ رمزي لثنائية (الجدب مقابل الخصب)، (القحط مقابل عدن/الزراعة/الجنة)، (ثقافة الرعي مقابل ثقافة الزراعة). أما قحطان فقد ورد كاسم لقبيلة في أحد نقوش المسند بفترة ما قبل ميلاد المسيح في أيام الملك "شعر أوتر" -ربما ينطق "شاعر أوتر"؟!- حيث تحالفت معه عدة قبائل من ضمنها قحطن "قحطان" وكدت "كندة" وهذه الأخيرة كان على رأسها رجل يسمى في النقش "ربعت" ربيعة من آل ثور "ثورم" وهو ما يطابق مزاعم النسابين من انتساب كندة إلى ثور بن عفير بن عدي بن الحارث.

وبما أن الحديث عن اللغة وتطورها فلا ننسى أن نشير هنا إلى أن تلك اللهجات العربية القديمة إن صحت التسمية لم تتطور جميعها إلى اللسان القرشي المعروف بالعربية الفصحى بل إن بعضها اندثر بينما بقي بعض آخر أو تطور إلى لغات حية مستخدمة إلى الآن فالحميرية مثلا ما زالت محكية إلى الآن في خليفاتها من اللغات المسماة بالشحرية -الجبالية- والمهرية.

ولنقوش المسند قيمة تاريخية عالية حيث أرخت لكثير من الأحداث التي رواها الإخباريون أو غابت عن علمهم. مثلا تذكر النقوش كثيرا أن الملوك كانوا يرممون سد مأرب ويوسعونه ومن ذلك النقش Glaser 554 في عهد شرحبيل يعفر ابن الملك أسعد تبع الحميري والمؤرخ بسنة ٤٥٠ ميلادي على وجه التقريب الذي يذكر فيه فرار بعض القبائل إلى الجبال خوفا من الموت بعد تهدم أجزاء من السد، وقد يكون هذا الحدث هو المعروف في التاريخ العربي بواقعة انهيار سد مأرب الأسطورية وتفرق سبأ وهي أحداث يغلب عليها عنصر الخيال والإبداع والمبالغات كما يرى جواد علي.

يسرد د. جواد قائمة أسماء الملوك عند نهاية الحديث عن كل مملكة من ممالك اليمن القديم (حضرموت- قتبان– معين– سبأ) ومعها التحقيب الزمني المفترض بحسب مختلف علماء الآثار من المختصين بهذه النقوش (فيلبي– جلاسر- ألبرايت– هالفي وغيرهم) وقد لفت انتباهي تكرار كثير من الأسماء في تحقيبات زمنية مختلفة مثل (كرب إيل– ياسر ينعم- شمر يرعش– يصدق إيل- يهأمن) ومن الوارد أن يكون التكرار بسبب أن هذه الأسماء هي ألقاب ملكية تلقب بها الملوك كما حصل لاحقا عند الخلفاء المسلمين حيث تلقبوا بـ(الرشيد– المتوكل- الواثق- المأمون) ولنقارن هنا بين لقبي الأمين والمأمون واسم "يهأمن" الذي يتكرر كثيرا في قوائم الملوك بعد أن نأخذ بالاعتبار -عند النطق- أن نقوش المسند تخلو من حروف العلة الزائدة.

أخيرًا بقي أن أعيد القول إن ما سبق هو غيض من فيض ما يحويه السفران الأولان من هذا الكتاب -كل جزء من 500 صفحة- ولا شك أن باقي المجلدات بها توسع وتوضيح واستفاضة أرجو أن تتاح لي فرصة أخرى لاستعراض بعض مما سيرد فيها.

* محمد الحراصي كاتب عماني