صندوق النقد الدولي واقتصادات دول مجلس التعاون

10 ديسمبر 2022
10 ديسمبر 2022

في أوائل أكتوبر الماضي عقد صندوق النقد الدولي ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الاجتماع التشاوري، الذي اعتاد الجانبان على عقده منذ سنوات على هامش أحد الاجتماعات الدورية لوزراء المالية في دول المجلس. وكما جرت العادة في كل الاجتماعات السابقة فقد أصدر الصندوق هذا العام ورقة عمل، وكانت بعنوان:

ECONOMIC PROSPECTS AND POLICY CHALLENGES IN GCC COUNTRIES

-2022 أو "الآفاق الاقتصادية وتحديات السياسات في دول مجلس التعاون خلال عام 2022". وقد نشر الصندوق ورقته على موقعه في شبكة الانترنت. ونظرا لأن هذا الاجتماع يأتي في ظروف غير عادية يمر بها الاقتصاد العالمي، بما في ذلك اقتصادات دول مجلس التعاون، فإن للورقة التي أصدرها الصندوق بتلك المناسبة من الأهمية الاقتصادية والسياسية ما تستدعي نقاشاً معمقا وموسعا بين المخططين الاقتصاديين وواضعي السياسات المالية في دول المجلس، وكذلك في الجمعيات الاقتصادية وعلى صفحات الرأي في الصحف، ومن المهتمين بالاقتصاد السياسي عامة. وفي ذلك الإطار ومن أجل الإسهام في نشر الثقافة الاقتصادية في المجتمع نعرض هنا بإيجاز بعضا مما جاء في الورقة، كما هي منشورة في موقع الصندوق على الشبكة، مع تعليق على بعض الجوانب منها. وكما هو معلوم فإن هذه الورقة وغيرها من أدبيات الصندوق واصداراته فإن تركيزه دائما هو على الاستقرار المالي والاستدامة المالية، وليس على التنمية الشاملة بأبعادها المختلفة، مع أن الصندوق أدخل في الفترة الأخيرة مسألة مشاركة دول مجلس التعاون في الحد من آثار التغير المناخي وتطوير مصادر الطاقة المتجددة.

يستهل صندوق النقد الدول ورقته بالقول إن دول مجلس التعاون استطاعت بصورة عاجلة التخفيف مما سماه الأثر الاقتصادي المزدوج لجائحة كوفيد-19 وانخفاض سعر النفط اللذين حدثا خلال عامي 2020 و 2021. وتقول الورقة إنه مع ارتفاع أسعار المواد الأولية فإن النظرة المستقبلية لاقتصادات دول مجلس التعاون أصبحت أكثر إيجابية مما كانت عليه قبل سنتين، وإن التحديات الجديدة التي تفرضها الحرب في أكرانيا والضغوط المالية العالمية، لا يتوقع أن يكون لها أثر سلبي كبير على اقتصادات دول المجلس. هذه النظرة هي نفسها التي ذكرها الصندوق في بيانه عن مهمة بعثته إلى عُمان، والتي تناولتُ بعضا مما جاء فيها في مقال سبق نشره على صفحات جريدة عمان. ويقول الصندوق في ورقته إنه بينما استفادت كل دول مجلس التعاون من ارتفاع أسعار النفط خلال العام الماضي والحالي، فإن ظروف عدم اليقين التي ما زالت تلوح في الأفق تحتم على دول المجلس أن تستمر في إجراءات الضبط المالي التي طبقتها خلال فترة انخفاض أسعار المواد الهيدروكربونية في العامين الماضيين. وهذا الرأي هو أيضا مطابق لما ورد في بيان الصندوق المشار إليه آنفا عن عُمان. وتوقع صندوق النقد أنه نظراً لأن بند المصروفات، خاصة بند الأجور، لا يزال تحت السيطرة في دول المجلس فإن النسبة التراكمية للميزان الأولي فيها primary balance، وهو الميزان المالي مطروحا منه الفوائد على القروض، ستصل خلال الفترة 2022-2026 إلى حوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس. ولم يشر الصندوق في ورقته إلى النسبة المثلى التي يجب أن تبقي عليها دول المجلس قبل إعادة الانفاق التنموي والرأسمالي فيها إلى الوضع المناسب لتحفيز النمو. وفي رأينا أن استمرار دول مجلس التعاون في تقييد الإنفاق العام أو زيادته يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عناصر هامة، أولهما ضرورات أو مستلزمات التنمية الشاملة، بما في ذلك تحسين مستوى الخدمات الأساسية والحاجة إلى نمو مولد لفرص العمل، وثانيهما الظروف غير المؤكدة للاقتصاد العالمي وما قد يحصل من تراجع في أسعار النفط، وثالثهما أهمية السيطرة على الغلاء (التضخم) من خلال السياسات المالية والسيطرة على الإنفاق، بحيث لا تؤدي زيادة الانفاق بنسبة كبيرة إلى ارتفاع أكبر في مستويات الأسعار. ومن بين ما ورد في ورقة الصندوق كذلك الإشادة بالإصلاحات الهيكلية التي طبقتها دول مجلس التعاون خلال جائحة كوفيد-19. ودعت الورقة إلى الاستمرار في تلك الإصلاحات، على أن يشمل ذلك زيادة انتاجية العمل من خلال زيادة مشاركة النساء في سوق العمل، وكذلك تشجيع القطاع الخاص على استيعاب المزيد من العمالة الوطنية، واتباع سياسة أكثر مرونة في استخدام العمالة الأجنبية، بالإضافة إلى تحسين مستوى التعليم والتدريب، وجميع ذلك مما يتم التأكيد عليه منذ سنوات، سواء من صندوق النقد الدولي أو من عدة جهات معنية بالتنمية.

وكما هي عادته، فإن الصندوق دعا في ورقته إلى الحد من الانفاق العام في الأجل القصير، وعدم الانجرار إلى زيادة الانفاق مع الفوائض الكبيرة المتوفرة أو مع الزيادة المتوقعة في الإيرادات الهيدروكربونية. أما في الأجل المتوسط فإن الصندوق يدعو إلى بقاء السياسات المالية موجهة نحو ما أسماه "نمو صديق لتعزيز المالية العامة والاستدامة المالية"، وذلك لما أسماه الصندوق في ورقته حق الأجيال المتعاقبة في إيرادات الموارد الطبيعية المتوفرة حاليا. وفي سبيل ذلك دعا الصندوق إلى تسخير الموارد غير النفطية وتحسين كفاءة الإنفاق والاستمرار في كبح الزيادة في الأجور في القطاع الحكومي. وهذه النقطة الأخير تثيرا تساؤلا حول ما أعلنته مؤخرا أكثر من دولة من دول مجلس التعاون من زيادة في الحد الأدنى للأجور ورفع معاشات التقاعد! الأمر الذي يعني أن تلك الدول أصبح لديها موارد كافية واقتصادات أكثر تنوعا، مما مكنها من أن تكون لها رؤاها وتقديراتها الخاصة، التي تختلف عما يراه الصندوق. وقد يعني كذلك أن الصندوق ما زال، كما كان يعاب عليه من قبل، يقدم وصفات جاهزة وعامة لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية أو التطورات الاقتصادية التي تشهدها كل دولة من دول المجلس، حيث أنه من الواضح أن اقتصادات هذه الدول لم تعد متشابهة في درجة الاعتماد على الموارد الهيدروكربونية ولا في مسألة ضغوط البطالة والبحثين عن عمل.

أخير فإن ورقة صندوق النقد الدولي أومأت أو غمزت، من غير إعطاء تفاصيل، إلى أهمية تقييم دور الصناديق السيادية في التنمية المحلية أو الوطنية في دول المجلس. وهذه النقطة من النقاط التي تثير الانتباه، لأنها تذكر بما أشار به في سبعينات القرن الماضي وزير الخارجية الأمريكية، هنري كيسنجر، على بلاده وعلى الدول الغربية بشأن استغلال ارتفاع سعر النفط لخدمة الاقتصاد الأمريكي والغربي عامة. فقد نصح كيسنجر بلاده بالاستفادة من ارتفاع سعر النفط من خلال "تدوير" إيراداته في داخل الأسواق الأمريكية والغربية، وذلك بعدة طرق منها العمل على الاحتفاظ بتلك الإيرادات كودائع في بنوك أمريكا والدول العربية أو أغراء الدول المصدرة للنفط بشراء أسهم أو سندات أمريكية أو شراء أسلحة أو منتجات صناعية بأسعار باهظة. لذلك يجب التوقف عند هذه الدعوة للصندوق وتحليلها بتمعن لمعرفة ما إذا كان الصندوق ومستشاروه لهم دور في سياسات إعادة "تدوير" ايرادات النفط. لا يمكن الجزم هنا برأي علمي حول هذا الموضوع، ولكنها إشارة وردت في ورقة الصندوق وأرى أن يتم بحثها بعمق وحيادية وموضوعية علمية، بعيدا عن الأخذ برأي الصندوق كمسلّمة أو رفضه كمؤامرة، و"الشك طريق إلى اليقين".

• د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية