ميدان الشهداء... أيقونة طرابلس
طرابلس "د.ب.أ": "أيقونة طرابلس"... هكذا يُعتبر ميدان الشهداء في نظر أهل العاصمة الليبية. ومع أنه يقع قبالة البحر، فإنهم يعتبرونه مركز المدينة، ووجهة كل التجمهرات السعيدة والحزينة، الاحتفالية والدموية، فكما يأتيه العرسان للاحتفاء واقتناء الورود ليلة الزفاف، ترتاده أمهات القتلى والمفقودين والمُغيَّبين والسجناء حاملين صور أبنائهم.
يحكي الميدان ومحيطه تاريخ المدينة، منذ تأسيسه في عشرينات القرن الماضي، إلى يومنا هذا. وسُمِّي أولا "ميدان إيطاليا" عند تأسيسه في فترة الاستعمار الإيطالي (1911-1943)، فوق ذات البقعة التي أعدم فيها يوم السادس من ديسمبر 1911 أربعة عشر مقاتلاً ليبياً وقفوا ضد احتلال البلاد، ومن هنا جاء اشتقاق الاسم الحالي. أما في عهد المملكة الليبية (1951-1969)، فقد حمل اسم "ميدان الاستقلال" تيمنا باستقلال البلاد.
يقول فتحي معيوف، أحد عشاق الميدان من الطرابلسيين " لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.ا) "في تلك الأيام، كان الميدان أصغر حجما، تتوسطه منحوتة إيطالية جميلة على هيئة نافورة محمولة على أحصنة مجنحة، وتدور حوله أغلب حركة السير بوسط البلاد، من حافلات، وسيارات قديمة، وعربات الخيول "الكرّوسة"، والعربات المجرورة بالحمير "الكاراتون"، بالإضافة لأحصنة البوليس".
كعادة كثير من سكان طرابلس، يطلق معيوف على الميدان اسم "وسط البلاد" مع أنه يتوسطها من ناحيتي الشرق والغرب فقط، أما باقي المدينة فيقع جنوبه. ويعتقد أن هذا الاسم درج عند الطرابلسيين قبل توسعة الميدان، حين كان يفصله عن الكورنيش عدة مباني إيطالية الطراز.
في سنوات نظامه الأولى (فترة الحكم الجمهوري 1969-1977) غيَّر العقيد، معمر القذافي الاسم إلى "ميدان الشهداء". وعندما استَحدَثَ نظام الجماهيرية (1977-2011) تغير الاسم مجدداً وصار "الساحة الخضراء" تيمنا بلون علم الدولة وكتاب العقيد الذي اعتُبر بمثابة دستورها.
في تلك الحقبة، طرأت على الميدان ومحيطه تغييرات كثيرة، بدأت بتوسعته حين تم هدم وضم المباني التي كانت تحجب عنه الكورنيش.
الكورنيش أيضاً تمت توسعته وردم أجزاء كبيرة من البحر الذي كانت أمواجه تلاطم أسوار المدينة القديمة، وتمت الاستعاضة عنه ببحيرة اصطناعية مطلة على الميدان من ناحية القلعة، وتمتد إلى مبنى البنك المركزي الأثري.
في تسعينات القرن الماضي، تحلّى الميدان بمظهره الحالي، تُقابله الحديقة الكبيرة والكورنيش من ناحية الشمال الشرقي عبر نصب تذكاري منذ العهد الإيطالي، مكون من مسلتين، فوقهما تمثالان نحاسيان، الأول لفارس على حصانه، والثاني لسفينة أشرعة.
ويحد الميدان من الشمال الغربي متحف السرايا الحمراء وحصن المدينة المنيع بأبوابه المقوسة المؤدية للأسواق والأزقة القديمة، وصاريته الشهيرة التي تُذكِّر بأسر السفينة "فيلادلفيا" في أول حرب أمريكية خارج أراضيها أثناء الحقبة القرمانلية.
ويلتقي الميدان جنوبا مع شارع عمر المختار، ومن الناحية الشرقية حيث باعة الورود تتفرع أقدم شوارع وسط المدينة: شارع أبو مشماشة، وشارع ميزران، وشارع 24 ديسمبر (أول سبتمبر سابقا)، وشارع الاستقلال (امحمد المقريف سابقًا)، وشارع البلدية. ويطل على الميدان مسرح ميراماري وبعض دور السينما التي أغلقت أواخر عهد الجماهيرية، هذا بالإضافة لأكبر المصارف الليبية "مصرف الجمهورية (بانكو دي روما سابقا) ومصرف الوحدة، ووزارتي: الداخلية والعدل، ومجموعة من المطاعم والمقاهي، أشهرها مقهى فيرنانو التابع للسلسلة الإيطالية الشهيرة، والذي افتتح سنة 1882.
ومن أشهر المعالم التي افتقدها الميدان تمثال الإمبراطور الروماني الحادي والعشرون والمولود في ليبيا "سبتموس سيفروس" الذي كان يقف أمام القلعة، قبل أن تتم إعادته لمسقط رأسه في مدينة لبدة الأثرية "لبتس ماجنا سابقاً، والخُمس حالياً".
منذ زمن طويل، اعتاد الطرابلسيون تنظيم الحفلات الرسمية في الميدان (باستثناء فترة التسعينيات التي تحول فيها لمحطة ركن سيارات). وفي حقبة الثمانينيات اشتهر الميدان بالاستعراضات العسكرية والكرنفالات التي كان ينظمها القذافي في عيد استلامه السلطة، أو عيد ثورة الفاتح من سبتمبر كما يسميه.
يقول أحد السكان، محمد خالد لـ(د.ب.ا) "كنت في منتصف المرحلة الثانوية عندما كلفنا غصباً بالاستعراض في الميدان، احتفالاً بالعيد العشرين للثورة. قضينا شهرين من التدريب العسكري الإضافي صيف 1989، عدا عن التدريب النظامي أثناء الدراسة. ويوم الاستعراض، وفي حر سبتمبر، سلمونا بنادق آلية، وانتظمنا في كراديس عسكرية أمام قاعدة معيتيقة، وانتظرنا هناك منذ الصباح حتى التاسعة مساء، وكل قوتنا رغيف خبز صغير مع التونة، وعلبة عصير ساخن، دون ماء. وبعدها انطلقنا في مسير عسكري لعشرة كيلومترات نحو الميدان، ثم عدنا سيراً لبيوتنا".
يضيف: "كنا مجموعة صغار جياع يُطَاَلبون بادِّعاء الاعتداد بالنفس والأنفة وتوحيد الخطى أثناء المسير أمام منصة الميدان حيث القذافي وبعض الرؤساء العرب والأفارقة وأمامهم كل المشتهيات".
يعتقد أحد سكان طرابلس، فتحي نصر، أن مثل هذه الذكريات وغيرها مما قاسى الليبيون أدت لاندلاع ثورة 17 فبراير عام2011، والتي كان الميدان شاهدها الأول.
ويسرد نصر قصة نجاته من أشهر مذبحة وقعت في الميدان إبان الثورة، حين يقول: "في يوم 20 فبراير خرج آلاف الشباب من مختلف أحياء طرابلس في مظاهرات منددة بتعامل النظام مع مظاهرات كانت قد خرجت في بنغازي. أغلق الشباب الطرق بالإطارات المحروقة، وبعد ورود أخبار عن هروب القذافي إلى فنزويلا، قرر الجميع التوجه للميدان. وبعد أن وصلنا في مجاميع، قام البعض بحرق وزارتي الداخلية والعدل، وانطلقت الهتافات المضادة للنظام، لِنُفاجأ بسيارات عسكرية وجنود يطلقون النار علينا. لقد شاهدت الدماء تتطاير وأنا أحاول الفرار".
اختلفت الروايات حول عدد من لقوا حتفهم ذلك اليوم في الميدان، ويقدرهم البعض بنحو ستين، فيما ذهب آخرون إلى أنهم يتعدون المائتين.
انتهى نظام القذافي بمقتله نهاية 2011، وعاد الليبيون بمختلف أطيافهم يحصون الخسائر ويعدّون الجراح، ويستذكرون ما حدث بالميدان في فبراير من كل عام.
بعد تلك الحقبة؛ انفتح الميدان على مظهر جديد، وهو إقامة الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات التي قد تتطور إلى صراعات وتضارب بين أصحاب الآراء المختلفة، وأحياناً إطلاق النار لإرهاب المخالفين. وفي المقابل، لم تتوقف المناسبات السعيدة بالميدان، كالاحتفالات الدينية والوطنية ومتابعة المباريات على شاشته الكبيرة. وفي العادة تنتظم الحشود في أي مناسبة بميدان الجزائر لأنه أصغر حجما، ثم تنتقل سيراً إلى الميدان بعد تزايد الأعداد.
انعكست أجواء الحرية على الميدان، وكثر على أطرافه الباعة الجوّالون، وزادت فيه النشاطات، كالاستعراض بالدراجات الهوائية والنارية، والتزلج، وركوب الأحصنة والعربات المجرورة، والتقاط الصور التذكارية رفقة الحيوانات النادرة وأمام النافورة. ولكن المتعة الجديدة تمثلت في ضيوفٍ جدد. عشرات الآلاف من طيور الحمام أصبحت تنزل إلى الميدان ولا تغادره إلا مساءً، بعد أن استأنست مرتاديه، واستأنسوا هم إطعامها.
سنين وحِقب مرت على ميدان الشهداء ومحيطه، ونقشت كل مرحلة جزءاً من أركانه. لازال الليبيون يقصدون الميدان أولا عند دخول المدينة، لازالوا يتفاءلون به ويحبون كل تفاصيله: قلعته العثمانية والنافورة الرومانية، ذكريات الحقبة الملكية والجمهورية والجماهيرية، وحمام فبراير.
