No Image
منوعات

من ساحة المعركة بمستشفى صحار .... أبي يرفع الراية البيضاء.

24 يوليو 2021
24 يوليو 2021

الدماء توقفت في جسدي بعد نبأ المستشفى الميداني الخاص بكورونا، يعلمني بنقل أبي إلى أقرب سرير للعناية المركزة، وأنه لا شاغر إلا في مستشفى صحار بعد امتلاء الأسرّة في مستشفيات العاصمة مسقط، خبر كالصاعقة على مسمعي، فأبي الذي تحشرج صوته وهو يحادثني قبل أقل من أربع وعشرين ساعة عبر الهاتف، دخل في نوم عميق تحت رحمة الله ثم أكسجين التنفس الصناعي.

تحركت مركبة الإسعاف إلى صحار، ناقلة أبي "جمعة بن خلفان الوهيبي" من مسقط رأسه ومولده "مسقط"، تألمت كلما غابت المركبة عن الأنظار، في وقت يخيل لي أن أبي ينظر إليّ من النافذة، يسلم بيده ويمدها لكل الكادر الطبي من ممرضين وأطباء، يجزل لهم الشكر والتقدير عما أبلوه من بلاء حسن وجهد مضنٍ في ساحة الحرب بالمستشفى الميداني، فالدكتور نبيل اللواتي مدير المستشفى ومن خلفه مساعده الدكتور خالد البلوشي وكل رفاقهم يقودون المعركة ضد كورونا باقتدار، رغم انتصاراته في بعض الجبهات.

تمضي الإسعاف في طريقها إلى صحار، وأنا مدرك أن أبي لو كان في استفاقة؛ فإنه سيسلم أمره لله، فمستشفيات الوطن واحدة بالنسبة إليه "هكذا علمنا" أينما كانت في جغرافيا عمان ستستقبله... وبينما الوالد في طريق الرحلة لصحار، القلوب في مسقط تنزف قلقا وخوفا على الرغم من الثقة الكبيرة بأنه في أيد أمينة مخلصة، وعين الله ترعاه، في حين يختلج في ذهني أن من حفظ سيدنا يونس - عليه السلام - في بطن الحوت؛ سيحفظ أبي في بطن المركبة التي تقله حتى يصل لأرض النحاس.

إلى معقله اتجه بأبي للطابق الثاني في مستشفى صحار إلى غرفة العناية المركزة، تحديدا نحو السرير رقم واحد، الذي شغر بعد رحيل صاحبه إلى المأوى الأخير؛ حيث استل الأطباء والممرضون أجهزتهم، وتدارسوا حالته من كثب وبدقة فائقة؛ لاستقصاء وضعه الصحي، ومعرفة كل حيثيات الأجهزة الحيوية، فبدا لهم ما هو متوقع، وأصبح معروفا لديهم، فالفيروس اللعين قد تشبث بالجهاز التنفسي، مخلفا التهابات حادة في الرئة.

تمر الأيام وجسده الطاهر مخدر، ونحن - أبناءه - لم تغمض لنا عين؛ فالوجل جاثم على صدورنا، فكان القرار التوجه إلى صحار للإقامة معه، علّ ذاك أن يشفي غليل قلوبنا قليلا.

اللحظات الأولى في غرفة العناية المركزة لم أتمكن من النظر في عين أبي، فنبضات قلبي تتسارع، وبدا النفس ضيقا، فتثاقلت قدماي، حيث جلست على كرسي متحرك وُضع بمقربة من السرير الذي يرقد فيه الرجل الذي أحب، صمت طويل لساعات، لم أنبت فيه ببنت شفة، وشريط من الذكريات بحلوها ومرها يمر سريعا، ولَيختلج في فؤادي كلُ موقف لم أكن فيه بارا بأبي، احمرت عيناي، وضاقت علي الدنيا بما رحبت، ولم يكسر ذلك الصمت الطويل إلا صوتُ امرأة خمسينية تربت على كتفي، محاوِلة تهدئة الوضع المتوتر الذي كنت فيه، وتتمتم بكلمات أن أبي بخير، وما هي إلا أيام قلائل وسيعود إلى فلذات كبده، وإلى أحبابه وحياته المعتادة.

لم تغمض عيناي في غرفة العناية المركزة؛ فالدخول إليها مرافقًا لمصاب بكورونا يحتم علي قواعد واشتراطات ملزمة للبقاء هناك، كوني أصبحت مخالطا لمريض، سلمت للأمر، ولكن الحقيقة أنني لم أعد مهتما بشيء إلا شفاء والدي، حيث أصبحت عيناي لا تغادر الأجهزة، أتحسس ارتفاع أرقام الأكسجين ليصل إلى خمسة وتسعين فأتنفس الصعداء مع رئة أبي، ومع كل انخفاض أترنح، وتارة أخرى عيناي تزيغ إلى جهاز تنظيم ضربات القلب، وكل الأماني أن يفتح عينيه قليلا ليرى الدنيا وإن كانت سوادء مظلمة حالكة، فالمخدر طال أمده.

أنظر إلى أبي، وأعود إلى مقر عمله بوزارة الدفاع، يبتسم مع كل نداء من السيد المعتصم البوسعيدي وزير الدولة لشؤون الدفاع الأسبق، وأتأمله وهو مؤتمن بوثائق سرية في مكتب الأمين العام الأسبق سيف البطاشي الذي تربطه به علاقة وطيدة، وأتوقف وهلة من الزمن مع كل معاينة من ممرض أو طبيب في مستشفى صحار، الذين لا يألون جهدا في علاج كل المرضى بالعناية، وأعاود كرة التأملَ من جديد، لأذهب إلى الأرض المقدسة حيث المكان الذي أحبَه والدي؛ إذ أفنى حياته في خدمة حجاج بيت الله الحرام برفقة صديق عمره سالم بن خلفان "القرمي"، فعطر مشعر منى، وثرى صعيد عرفات، سيظل مخضبا بقديمه الكريمتين، فقلبه تعلق بالحرم المكي، وكل أمكنة الديار المقدسة... ومع كل نظرة إليه وهو يرقد في سرير العناية المركزة أتذكر دمعة عينيه إبان هدم منطقة شعب عامر، الحي الذي أحبه العمانيون، وهم يتوافدون إليه معتمرين، ودائما ما يصر على السكنى فيه بمعية رفيق دربه سعود الحميدي.

لا يكسر حاجز التفكير إلا الممرضون الذين يتوافدون وحدانا وزرافات بلا كلل أو ملل، يبتسمون رغم الأسى والألم في قلوبهم، وأنا على يقين أن أبي إن كان حاضر الوعي سيقدم لهم كل الشكر والثناء، هكذا أعرفه يثمن كل جهد، وإن كان في أحلك الظروف وأقساها، فقد رأيتهم يصارعون الفيروس بلا وجل ولا جزع، وكل أمانيهم أن يتماثل المرضى للشفاء، فكم من المرات حاولوا وحاولوا لأجل إعادة رمق حياة المرضى، رأيتهم بأم عيني يناضلون، ولكن تشاء قدرة الله أن يرحل بعضهم، فكم من المرات وأنا في غرفة العناية المركزة أن شاهدت مرضى قد انتقلوا إلى المأوى الأخير.

مر عشرون يوما وأبي في الإنعاش، بقيت فيها قريبا إليه، قطعه تهافت الممرض سليمان البلوشي الذي بدا متوترا، يغالب الزمن، يرتجف مستدعيا الأطباء، الذين حضروا واحدا تلو الآخر، وأنا أتوارى من خلف الحجاب، شعرت أن الأمر عظيم وجلل.

بعد سويعات من دخول الأول من ذي الحجة عام ألف وأربعمائة واثنين وأربعين للهجرة، يقدم إليّ الطبيب بحزن، ليضع يده على كتفي ليقول "عظم الله أجركم"، فأهرع لرؤية أبي الذي فاضت روحه إلى بارئها، وقلبي يتقطع حسرة مع إيماني بقضاء الله وقدره، ليكون الحمد أول كلمات أتلفظ بها، فكان الوعد قبل القبلة الأخيرة على جبينه "طيب الله ثراه" أن أحقق الأماني التي يصبو إليها هو وأنا وأخي وأختي.