No Image
منوعات

ما بين النبرات والخفضات

26 يونيو 2022
26 يونيو 2022

الصناعة الإبداعية في البلاد باتت غزيرة، نجد تجارب فنية أخاذة، اتجاهات سخيّة، حاضنات مؤسسية وحرة تعتني بالموهوبين، تشجع توجهاتهم الفنية، مهتمة في إيصال منتجاتهم للشارع، واجتهادات فردية متدفقة تستند على الإعلام التفاعلي، للترويج عن صنعتهم الإبداعية، تعبيرًا عن مكامن نتاجهم، توضيحًا لأفكارهم، وأغراض أخرى كثيرة، بينما في الكفة الأخرى، نجد حالة عدم توازي بين المعروض وتفصيل المعروض، وأرجع بتفصيل المعروض في السياق السابق لحيثيات النقد، ففي حقيقة الأمر، ومن واقع يعيشه الفنانون في المجتمع، يمكن القول إن الاجتهادات النقدية شحيحة جدًا، وخاصة تلك القراءات النقدية المصاحبة للمعارض الفردية في سلطنة عمان، فرغم وجود عدد من الكتابات الصحفية والإخبارية التي في العادة مهمتها وصف الحدث وتغطية الفعالية بشكل عام، إلا أن من الضروري وجود نقاد محنكين، فهو جزء مهم يوازي الإنتاج الابداعي، فهم الأقدر دائمًا على عرض التجارب الفنية ومنهجيتها وإحالاتها الرمزية وبيان المعالجات الفنية للصياغات البصرية بشكلٍ أكثر احترافية ووثاقة ورصانة، بل ويساند التجارب الفنية ويدعم تميزها.

وفي حالة نقص عدد النقاد وقلتهم من ناحية وقدرة الفنان الكتابة عن تجربته وشرحها بشكل علمي من ناحية أخرى، قد يجد بعض الفنانين فكرة الكتابة عن أعمالهم تجربة منطقية ومحفزة كونهم الأقرب إلى ممارستهم وفهمهما أكثر من غيرهم، وفي الوقت ذاته هم يمارسون بما يسمى بنقد الذات، وهو مصطلح أقرب لنقد النقد أحيانًا كونهم مطالبين بتوخي الحذر التام عند الكتابة والبعد عن تضخيم الأنا. فتدور كتابة هؤلاء الفنانين في محور تفكيك جمالية الحبكة وشرح المفردات التشكيلية والمضامين الخاصة بالتجربة وهذا لا غبار عليه.

يأتي هذا المقال ليقدم قراءة ذاتية عن تجربة نفذتها الكاتبة عندما كانت طالبة في قسم التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس، وجدت أنها في هذه القراءة تنحو منحيين أولهما تقدير الجهد الذي نفذته وثانيهما هو الرغبة في بداية مشروع الكتابة النقدية، ونظرًا لحداثة عهد الكتابة في المجالين فكان الأنسب أن تبدأ في الكتابة عن تجربتها الذاتية لقربهما منها.

يقدم المقال قراءة لسلسلة من أربع لوحات كانت تندرج تحت موضوع الوحدة الشكلية واللونية. نفذت تحت إشراف الأستاذة الدكتورة فخرية اليحيائية أستاذة الرسم والتصوير، تتجلى فيها مضامين رمزية، وتركيبات بصرية عديدة، وتحليلات معمقة، قدمت في سياق معاصر، يفهمه المتلقي المتخصص والمحترف.

يأتي العمل الفني «ما بين النبرات والخفضات» مؤكدا على مبدأ الإبصار، وإجهاد العين، والرؤية بالعقل والقلب والأحشاء في مفردات الكون، يُظهر شعريّة التفاصيل، ومدلولاتها، ومكامن الجمال في عادية الأشياء، ولا وجود لعاديٍّ خلقهُ البديع، ومن ناحية نظرية، العمل يتركز حول تحقيق الوحدة والتنوع في اللون والشكل لمفردة كونية واحدة (لحاء الأشجار)، من خلال أخذ أربع لقطات قريبة مليئة بالتفاصيل لِلحاء وحيد، بالتشديد على أن هذه اللقطات تحتاج إلى عين مدركة للأسس الإنشائية والجمالية للمدرك البصري، إضافة إلى أنها تحقق بُعدًا فنيًا يتمثل في توحيد الدرجات اللونية والمفردات الشكلية والملامس الإيهامية، في أربعة تكوينات مختلفة، كل تكوين يُظهر جانبًا جماليًا مختلفًا للحاء، بينما يحتفظ بالمظهر العام الذي يتميز به اللحاء، كل موضع في اللحاء، نجد أنه يتميز بتفصيل لوني أو شكلي معين، أو نجده متأثرًا بأحد العوامل الخارجية للشجرة، وقد يؤدي وظيفة مختلفة، بمجمل الأمر هذه مجموعة رموز يُقاس عليها العديد من الأفكار والسلوكيات الإنسانية، يستخدمها الفنان عادة كأداة للتعبير عن وجدانيات غير مرئية.

ولتفكيك المدلولات البصرية، تفصل الفنانة كل تجربة فنية على حدة، لبيان جمالية كل لوحة من اللوحات، وما تحمله من مضامين إبداعية، تبعث للتأمل والإمعان، ففي أول عمل، نجد جزءًا عميقًا لِلحاء شجر، صورة مجهرية دقيقة لتكوينات لحائية تتجلى فيها تدرجات لونية ساخنة، وبنيّات ساحرة، وشعيرات ليفية مُتداخلة، وطبقات خشبية رقيقة، تقود العين لنقطة عميقة، تثير الاستكشاف، والرغبة في معرفة ما وراء تلك الطبقات المتراصة، تُرشد العين بتكوين هرمي مستقر، وتتلاعب بالنور والظل، وكأنها نظام مُكتمل.

وفي الصياغة الفنية الثانية للحاء، تتواتر المفردات الشكلية بمسار حلزوني آسر نحو أكثر الأجزاء جمالًا، حيث ظهور جزء كبير من ألياف اللحاء الدقيقة، التي تتخذ شكلًا شبكيًا مبيّضًا، ونادرًا ما نجد اللون الأبيض في ماديات الطبيعة، وتآلف البنيات مع احمرار بعض أجزاء اللحاء واختلاف التكوين، يؤكد على مبدأ الوحدة اللونية الشكلية رغم التنوع.

وتأتي اللوحة الفنية الثالثة بتفاصيل معقدة أكثر، مُعبرة عن علاقات تشابك وتداخل وتراكب بين الألياف واللحاءات، وبين اللحاءات نفسها، تعطينا صورة بصرية أخرى للحاء وشكله وملامسه، ونلاحظ دخول جريء لدرجات لونية مزرقة على الجزء الأكبر من اللحاء، وهو الجزء الجاذب للعين في الوهلة الأولى، ومركز الاهتمام بالنسبة للتكوين، وعند الحديث عن التكوين، نراه متخذًا شكل (L) مما يؤكد على تفرد العمل من جهة ومجاراته للإطار العام للسلسة من جهة أخرى.

وأخيرًا في اللوحة الرابعة، لقطة واضحة لشكل اللحاء المألوف، بملامس إيهاميه مميزة، وتكوين فني تتوزع فيه المفردات الشكلية باتزان، تُظهر قوة التنوع في الشكل مع تحقيق الوحدة، وتلخص التجربة الفنية، في الدلالة على أن الجمال يتخذ أشكالًا مختلفة، والاختلاف هو الذي يصنع جمالًا.

يقول المفكر مصطفى محمود: «كُل جمال الحياة، يدخل من شباك العين، وعالم المرئيات يمكن أن يكون منتهى البهجة والإبهار، فالبصر نعمة تستحق الشكر بلا حدود إلى المنعم، يقول الله تعالى: «.... وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا......» ليس كل من له عين له بصر، فالبصر فهم ووجد وانفعال وتعرف وتذكر، قلب الإنسان لا ينفصل عن العين ولا عقله، الإنسان يرى بقلبه وعقله وضميره ومعدته، يرى بكليّة وجوده، وهذه دعوة للتخلي عن النظرة الخاوية، الفارغة، والرؤية بالعين المجردة البعيدة عن الوجدانيات، بل الشعور بالمدركات البصرية والتحديق فيها لفهم النظام الكوني، وبالتالي إرجاع كل التعقيدات إلى معرفة الله وعظمة خلقه.