منوعات

قصة كراج يجمع بين إستونيا ولاتفيا

01 نوفمبر 2023
المسرح في أستونيا
01 نوفمبر 2023

في عرض ذي نمط مغاير بمهرجان الحرية في «نرفا»، قدمت في 18 أغسطس من العام الجاري مسرحية «كراجان» «Two Garages»، أو المرآبان إذا شئنا أن نكون أكثر دقة في اللغة العربية الفصحى، والمسرحية تقدم لقطات كوميدية مضحكة بل وساخرة أحيانا مع تنوع في العزف الموسيقى والغناء الحي في محاولة إلى تحقيق تواصل طربي ووجداني مرح مع الجمهور في المسرح، أو في الحقيقة هو «لا مسرح»، في كراج مهجور على شاطئ النهر جدرانه العارية شبه متآكلة تسندها قوام ودعامات حديدية تمتد بينها أسلاك كهربائية ومعلقات وتتناثر بين أرجائه أدوات أغلبها من النفايات والمخلفات وخردوات السيارات القديمة.

ولكن رغم كل تلك الأمور التي قد يراها المرء عيوبا أو نواقص أو مشاهد مزرية في الحالات العادية، بل وقد يتجنبها حفاظا على سلامة نظره وحواسه الأخرى، ناهيك عن ذائقته الجمالية أو الفنية أو المكنون الذاتي الخيالي، أريد أن أقول رغم كل ذلك تحول المكان بكل ما فيه وبفضل ارتجالات عفوية وموهبة فنانين مبدعين إلى روضة غنّاء وحالة من الوجد والتناغم رفيعة الحميمية.

كيف تفوز بقلب امرأة بقصاصة من ورق؟

يكتب منتجو المسرحية عن عرضهم بأنه بأمانة قصة مضحكة أن تكون بشرا.

رجلان من إستونيا ورجلان من لاتفيا كلاهما في كراج قديم في الوقت ذاته بعد حقبة الاتحاد السوفييتي السابق ليعبّروا عن همومهم العميقة وعن فلسفتهم الحياتية وعن سعيهم الحثيث إلى السعادة وأمانيهم بأن يحبُوا ويُحَبوا.

من خلال العرض سيجد المرء أجوبة عديدة على أسئلة مهمة، من وجهة نظرهم، مثل كيف تصنع شيئا مفيدا من قناني البلاستيك القديمة؟ كيف يمكنك الإقلاع عن التدخين؟ من هم الأسرع في التفكير الإستونيون أم اللاتفيون؟ كيف تظفر بقلب امرأة عندما لا يكون لديك شيء غير مجرد قطعة من قصاصة ورق؟ لماذا عندما تذهب إلى الشاطئ عليك أن تأخذ على الأقل قنينتي ليمون كبيرتين؟ ما هي فلسفة عبوة معجون الأسنان الفارغة؟ إن العرض يقدم إجابات مضحكة وحزينة في الوقت ذاته لا سيما عندما نعرف على الأقل أن شخصا واحدا مرَّ بتجارب شبيهة بمثل تلك الحالات، وفي مسرحيتنا هنالك 4 رجال، اثنان من إستونيا واثنان من لاتفيا.

إن ترتيب المكان واستخدام المرآب القديم في العرض المسرحي يحيلنا تلقائيا إلى عروض المسرح الحي، أو مسرح الاحتجاج والرفض كما يحب أن يطلق عليها البعض، في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن الماضي، ولنكون أكثر دقة هو مسرح ضواحي نيويورك وبعيد عن برودواي مركز المسرح الاحترافي الشهير في نيويورك، إنه خارج- خارج- برودواي، «Off- Off- Broadway»، وهو ليس خارج- خارج- برودواي مكانيا فقط بل وخارجها فلسفة وموقفا فكريا وأسلوبا أدائيا وفعليا!!! فهو مسرح سياسي احتجاجي بالدرجة الأولى يقدمه المهمشون والمشردون في المجتمع الأمريكي مثل «الهيبز»، والداعمون للعودة إلى الطبيعة، والسلام الأخضر، في رفض صاخب لزحف الكتل الأسمنتية على المساحات الخضراء من أجل طرق فارهة وعمارات سحابية يدجن فيها الإنسان في جحور ضيقة بالكاد تكفي لمد ساقيه، ويُقولب الإنسان البسيط ليكون مجرد ترس في طاحونة رأسمالية ضخمة ومتوحشة تزيد الأغنياء الملاك ثراء وتمعن في نهش الفقراء ليزدادوا فقرا، بل وتكاد باستغلالهم المفرط أن تفقدهم طبيعتهم الإنسانية بحجة أن كل أمر يهون من أجل تحقيق الحلم الأمريكي الذي قد يأتي في نهاية المطاف، ولن يأتي الحلم الأمريكي أبدا؛ لأنه حلم مصادر لفئة معينة لن تحيد الأحلام عنها أبدا.

لعلنا في الحديث عن المسرح الحي أن نذكر تجربة الشاعر والمخرج المسرحي «جوليان بيك»، وزوجته الممثلة «جوديث مالينا» اللذين قدّما عروضهما المسرحية في أحد الكراجات مستخدمَين قطع السيارات القديمة كديكورات وأثاث ومستلزمات تنفيذية مع السلاسل الحديدية والحبال، وكانت عادة ما تنتهي عروضهم بمشاعل النيران الملتهبة، وعادة ما كان يخرج الفنانون المؤدون للعرض مع جمهورهم في مظاهرات احتجاجية صاخبة يسدون الشوارع بإطارات السيارات المشتعلة، وصار لاحقا ينضم إليهم الصحفيون والمثقفون، إما من باب مناصرة أفكارهم أو لمجرد الفضول والاطلاع على التجربة.

خيوط التداني والتنائي مع المسرح الحي

إن تلك الإحالة إلى المسرح الحي لا يمكن أن يغفلها الناقد المسرحي وهو يشاهد العرض المسرحي «كراجان»، فمساحات التماس بَيِنَه من حيث المكان «الكراج»، وكذلك من حيث حالة العرض وتوظيف سكراب السيارات والمخلفات البلاستيكية، والدعوة إلى العادات السليمة في المحافظة على البيئة والطبيعة، إلا أنه على الجانب الآخر التماس في الهدف السياسي يتضاءل بينهما بشكل واضح، فالمسرح الحي سياسي احتجاجي بشدة وبفعل ثائر، بينما في «كراجان» البعد السياسي يتوارى ليصبح فلسفيا عن حالة الإنسان المعاصر وتساؤلاته وهمومه اليومية.

عموما بقيت إشارة مهمة في هذا العرض المسرحي لا تخلو من البعد السياسي، وهذه الإشارة هي الكراج السوفييتي القديم المكان الذي التقى به رجلان من إستونيا وفي كراج مثله رجلان من لاتفيا، فكلا البلدين كانا جزءا من الاتحاد السوفييتي وكلا البلدين كَوَّنا ما يمكن وصفه بديمقراطية برلمانية حرة أقرب إلى النظم الغربية، يمكن للكراج السوفييتي القديم هنا أن يحمل أكثر من دلالة، منها أن الإرث الماضوي ما زال يلقي بظلاله على الحياة المعاصرة، ومنها أن الديمقراطية والحرية جاءت ومعها إشكاليات حياتية أخرى على الفرد أن يواجِهها، ودلالات أخرى قد يتفق أو يختلف حولها المتلقي.

بين أقطاب قوى الصراع هل يبقى مكان لمحايد يقف على خشبة مسرح؟

المسرحية تشير تحديدا إلى الفترة منذ الاستقلال في 1991 في البلدين حتى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بما عرف بالتسعينيات الجامحة، حيث شهدت تلك الفترة اضطرابات وتغيرات اجتماعية وسياسية سريعة جدا بل بسرعة جنونية على وقع الصراع المحتدم بين دعاة المحافظة على الوضع الراهن ودعاة التغيير، بين المواطن السوفييتي الذي يريد أن يبقى سوفييتيا وبين المواطن الذي يريد أن يتحرر تماما من ربقة الماضي ويلج عالم الغرب بكل تجلياته وتحدياته وأحلامه الواعدة.

الرجال الأربعة، في المسرحية، تساءلوا ماذا عن أولئك المحايدين الذين لم ينحازوا إلى هذا الطرف أو ذاك؟ أين مكانهم؟ فكانت إجابتهم الكراج أو المرآب هو المكان الآمن الوحيد الذي يمكن أن يحتضنهم، هل أرادوا أن يتحرروا من كل أوزارهم، أوزار الماضي والحاضر في المرآب السوفييتي القديم؟

إن كلمات مخرج العرض إلمارس سينكودوفس (Elmars Senkdvs) وهو يتحدث عن المسرحية وعن كراج أبيه وعن كراجه هو شخصيا تقدم للمشاهد الكثير من مفاتيح العرض المسرحي إذ يقول:

أبي كان لديه كراج

كان أبي يصلح ويغسل السيارات

أبي كان يقاتل المبتزين

أبي كان يغني بصوت عال

عندما وجدت شيئا في جيب أبي وسألته ما هذا؟ ظل صامتا لفترة طويلة ثم أجابني إنه دواء لصداع الرأس

أبي علمني كيف ألكم شخصا ما على وجهه إذا حاول الإساءة إليّ، أبي لم يكن يمرح معي عندما أريد ذلك، ولكنه كان يأخذني إلى السيرك، كان يحب المهرجين

أبي كان يعطيني نقودا عندما أحتاجها، هذا فقط عندما يكون لديه ما يعطيه، أبي سافر إلى إستونيا ذات مرة وجلب لي مغناطيس الثلاجات، ما زال المغناطيس لديّ، كراج أبي كان ممتلئا بالقناني البلاستيكية الفارغة... لا أدري لِمَ كان يجمعها؟

اعتاد أبي أن يدغدغني، هكذا كان يعبّر عن حبه لي، ثم توقف عن دغدغتي وبدا يريني خدعا بعلب السجائر عوضا عنها

اختفى أبي... ثم عاد في وقت لم يعُد أحد فيه ينتظر عودته

أبي انفصل عن أمي

أبي كان يدخن دائما حتى في البيت... رائحة السجائر ما زالت تذكرني بطفولتي

لم يعلمني أبي القيادة؛ لأنه ليس لديه رخصة سياقة، لربما كان هذا أفضل؛ لأنه فعلا كان كثير الشرب

لا أعرف بمَ كان يفكر؟ وبمَ كان يحلم؟

اعتدت أن أخجل من تصرفاته، الآن أقول: إنها لم تعُد تزعجني، في واقع الأمر أنها تزعجني

أبي ليس بالشخصية التي يمكن أن نخرج مسرحية عنه، هو ليس بطلا، رغم أنه يقاتل مع نفسه ومع الزمن طوال الوقت

أنا... أنا أيضا لدي كراج اسمه مسرح!!! (تمت الترجمة بتصرف)