No Image
منوعات

تجربة نصف قرن مع شهر رمضان

26 مارس 2023
26 مارس 2023

عشت تجارب لا يمكن اختصارها في هذا الشهر الفضيل، تجارب حلوة وأخرى قاسية، منذ طفولتي الباكرة في بلدتي الصغيرة آريس وسط جبال الأوراس الشهيرة في الجزائر. وقبل بلوغ سنّ الصّوم بسنوات، كان الاستيقاظ للسحور من أكثر الطقوس التي عشقتها، تستيقظ أمّي بالتبني (ماما كلتوم) قبل الموعد بساعة وتحضر خبزا يدهن بالسمن، ويؤكل ساخنا مع حليب الماعز أو بعض الفواكه المتوفّرة في الصيف عنبا مثلا، وفي الشتاء حبّات من التين المجفف. سحور لا مبالغة فيه ولا تبذير، مع فنجان قهوة، وصوت أبي بالتبني (دادّا الدراجي) وهو يرتل القرآن في غرفته يملأ جوّ البيت مع تلك الرّوائح التي لا تنسى.

قصّة أهلي بالتبني حكيتها كثيرا ولكني سأرويها باقتضاب لقرائي الجدد حتى لا يلتبس عليهم الأمر ويتوضّح جزء مهم من حياتي. ففي تقاليدنا الأمازيغية إن لم يرزق أحدهم بالأطفال يهديه أخوه طفلا، وهكذا كنت أنا من نصيب عمي الذي أصبح هو وزوجته أبي وأمي بالتبني.

في هذه البلدة الأمازيغية في أعالي الجبال صمت أول رمضان لي في عمر التاسعة أو العاشرة رغم أني كنت ضئيلة الحجم ضعيفة البنية، لكنّ أهل المنطقة المعروفين بشدّة بأسهم وصبرهم زرعوا في أطفالهم هذه الخصال، فكان التنافس بيننا نحن الأطفال تنافسا قويا لمن يستطيع أن يصوم الشهر كله. نخضع لامتحان يومي بيننا فنفتح أفواهنا ونمدُّ ألسنتنا للتأكد أننا لم نأكل.

عصفت بي الحياة وغيّرت مسارها تماما حين بلغت الخامسة عشرة، ذات تاسع من شهر رمضان، حين قرّر أبي بالتبني بإعادتي لعائلتي البيولوجية القاطنة في قسنطينة. بين ليلة وضحاها سرت خلفه وهو يحمل حقيبتي بعد صلاة الفجر متوجهين لموقف سيارات الأجرة، وكلها لحظات حتى انطلقت بنا السيارة نحو حياة أخرى.

استقبلتنا قسنطينة مدينة الصّخر العتيق بجسورها البهية، وضجيجها، وروائح حلويات شهر رمضان، كنت أبكي لفراقي لعالمي الهادئ، وأحضان أمي كلتوم، بكاء غزيرا وصامتا، وقد خفت أن تتسرّب الدموع المالحة بين شفتي فتكسر صيامي. نسيت أمي أن تعطيني منديلا لأمسح دموعي، كانت منشغلة بدموعها هي وصدمة الفراق العنيف الذي لا تزال تأثيراته متمكِّنة منِّي.

في قسنطينة وجدت حياة أخرى مليئة بالأضواء والموسيقى والتقاليد التي أجهلها تماما، كأنّي سافرت من بلد إلى بلد، وهذا من صفات الجزائر التي يطلق عليها «البلد القارّة» بسبب ثرائها ثقافيا من منطقة إلى أخرى.

لأول مرة أسمع مدفع الإفطار، وأصغي للأطفال وهم يصرخون بلهجة قسنطينية عربية تختلف عن لساني الأمازيغي «آو ضْرَب» ويركضون إلى منازلهم، فيما عشرات المآذن تعزف معزوفة مشتركة مهيبة، عكس مئذنة بلدتي الصغيرة، وآذانها الوحيد.

أمي البيولوجية (خديجة) تتفنّن في صنع أطباق لذيذة كثيرة، فقد كانت مائدة الإفطار أقرب للمأدُبة، وأبي البيولوجي (عبدالحميد) يشتهي أطايب كثيرة بعضها يضاف لمائدة الإفطار، وبعضها لمائدة السهرة، والباقي للسحور...

وسط تلك العائلة (أبي وأمي وأخوتي الأربعة) كنت الضيفة التي تخجل لمدّ يدها وتأكل ما تريد، غير ذلك لقد رسخت فيّ طقوس آريس، والمجتمع الذي تربيت فيه. بعد صلاة العشاء مباشرة أنطفئ فأنام، عكس أخوتي، وأستيقظ فجرا باحثة عن رائحة افتقدتها إلى الأبد، فألجأ للصلاة وترتيل القرآن بصوت منخفض لأستحضر أبي بالتبني.

احتجت لكثير من الوقت لأستوعب طقوس قسنطينة، فإذا بالقدر يقذفني مرة أخرى إلى مدينة أخرى هي أيام دراستي في كلية الطب وإقامتي في سكن الطالبات وهي من أقسى سنوات حياتي، أجواء رمضان بائسة، والتيارات الدينية المتطرفة بدأت تخترق الجامعات والأحياء الجامعية، فلم يكن هناك طعم لا لشهر الصوم ولا لغيره من الأيام، اختبرت الكثير من العزلة في هذه الإقامة، أحيانا أزور عائلتي في قسنطينة في بعض نهايات الأسبوع، وأحيانا أقضي عطلة نهاية الأسبوع مع القادمات من الجنوب.

في هذه السنوات كانت مراقبة الصائمات تجاوزت التطفّل في الأحياء الجامعية، مع أن شهر رمضان مقدّس في الجزائر، ومن المستحيل أن يفطر الواحد أمام الملأ، لكن المؤسف أن هذا الوباء الذي أصابنا في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أدخل كثيرات في دوامات الخوف. فقد كان مجرد الإفطار لسبب شرعي قد يعرض إحداهن للتعنيف، فكانت الواحدة منّا تصوم حتى في حالات المرض، والأسباب المذكورة آنفا.

بعد أربع سنوات من هذه البدايات التعيسة للتطرف، غادرت الجزائر إلى لبنان، وعشت بين الطائفة المسيحية في الجبل، وهنا أيضا عشت تجربة فريدة، وأخذت حياتي منعرجا جديدا تماما مختلفا عمّا سبق.

هنا سأكتشف ذاتي، وأكتشف عمق العبادات بما فيها عبادة الصوم، التي كنت أمارسها وحدي. سأكتشف التعدّد الطائفي في أوساط العمل، وسأعرف أن المؤمن بعقيدته سيمارس دينه دون أي خوف من الآخر.

الشعور بارتباطي العميق بالمولى عزّ وجل عشته في هذه التجربة الفريدة، حرة لا مجبرة، باختياري بكامل قناعتي لا خوفا من أحد.

أمّا الذي لم أتوقعه فاعتبار بعض صديقاتي وجيراني المسيحيين من الموارنة والكاثوليك هذا الطقس عيدا سنويا، فيغدقون عليّ بالمأكولات الطيبة قبل موعد آذان المغرب بقليل، والحلويات، وأحيانا أتلقى دعوات إفطار إلى بيوتهم.

انفتاحي على ثقافات غيري أضاف لي الكثير، وجعلني أوسّع من قراءاتي لفهم أمور كثيرة غابت عني سابقا. لكن الذي لا ينسى أن شهر رمضان كان كريما علي وقد أهداني أصدقاء ومعارف من ذهب، كما جعل من حولي من غير طوائف يفهمون عمق الصوم، حتى طبيبي الذي يتابعني كمريضة سكري وصل لنتيجة أن الصوم مفيد لمرضى السكري، وقد قال لي مبهورا ذات مرة: «ما دامت نتائج فحوصاتك جيدة في رمضان لماذا لا تصومين كل أيام السنة؟» طبعا ضحكت لأني أعرف أنه بعد العيد ستعود حليمة لعادتها القديمة!