منوعات

تأملات قرآنية الحشرات في القرآن الكريم

29 يوليو 2021
29 يوليو 2021

المتأمل في كتاب الله وما يحويه من بحور العلوم وجوامع الأمثلة والحكم يلتفت إلى أن ما عند البشر حقير وضئيل بحكم الجهل، هو عند الله عظيم بحكم العلم، ولذلك ألفت القرآن إلى هذا المعنى في مواضع كثيرة، لأنه هو سبحانه من أوجد هذه المخلوقات وهو عالم بما وهبها من قدرات وإمكانات لا تتوفر في خلقة البشر أنفسهم، بل ويحاولون تقليد هذه المخلوقات الضئيلة والاستفادة منها واكتشاف أسرارها، ومن هذه المخلوقات الحشراتُ، وقد ضرب الله الكثير من الأمثلة على الحشرات المتنوعة، وقد وضعها في مواضع مختلفة وسياقات متباينة تؤدي أغراضها من الطرح القرآني.

فقد قال الله تعالى في الآية 26 من سورة البقرة" إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) "

فنجد الباري جل شأنه يقول عن نفسه أنه لا يستحي من أن يضرب مثلا بالبعوضة، وذلك أنه هو الذي أوجدها من العدم، وخلق لها ما يميزها من الحشرات والموجودات، فالذين كفروا من المشركين يستحقرون ذكر هذه الحشرة، يتساءلون لماذا ضرب الله بها مثلا؟، وذلك لضلالهم وعدم معرفتهم بخبايا خلق الله، وأما الذين آمنوا، فيعلمون أنه الحق من ربهم الذي خلقهم وخلق هذه الموجودات. وهذه البعوضة هذا الخلق الضئيل محل تفكر وتأمل للذين آمنوا كيف لهذا المخلوق أن يمتلك كل أعضاء الحياة والطيران والقدرة على إيذاء البشر وإزعاجهم، بالإضافة إلى القدرات الهائلة لهذا المخلوق الصغير، فقد أثبت العلم الحديث أن للبعوضة في جسمها مختبرًا يستطيع أن يفرز الدم الذي يمتصه من الإنسان ويمايز به، فلذلك تجده يلسع مجموعة من البشر دون سواهم، بالإضافة إلى أن المخترعات الحديثة المتعلقة بالطائرات المسيرة وغيرها من تقنيات الطيران الحديثة تم استخلاصها والتعرف عليها من خلال مراقبة البعوضة ومحاكاتها.

وتنوع الاستخدام القرآني في سياقات ذكر هذه الحشرات فنجده في موضع آخر يستخدم هذه الحشرات كجند من جنود الله الذين يرسلهم للأمم من بني البشر الذين كذبوا لعلهم يرجعون إلى رشدهم، وكآيات للمشركين، كما حدث في قصة موسى مع فرعون وقومه، عندما دعاهم إلى الله فأعرضوا يقول تعالى :"فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133)" فأرسل الله عليهم من ضمن العقوبات الجراد والقمل، والجرادُ معروف بأنه إذا حل بالمحاصيل الزراعية يأكلها وهي في حقولها، فيأكل الأخضر واليابس، وأما القمل فاختلف المفسرون في تفسيره فبعضهم ذكر أنه السوس الذي يأتي على الحنطة والحبوب، وذكر آخرون أنه الدبي، وقال آخرون أنه البراغيث، فكانوا يستغيثون بموسى لكي يدعو الله لهم ليكشف عنهم ما لحقهم من العذاب.

وفي موضع آخر نجد القرآن الكريم يستعرض حشرة يستفيد منها الناس في معيشتهم وهي حشرة النحل فيقول تعالى في السورة التي أسماها باسم هذه الحشرة : "وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" فقد بين الله أنه سمح للنحل بأن تتخذ من الجبال ومن الشجر ومما يعرش ويبني البشر بيوتا لها، وأن تأكل من كل الثمرات، ويخرج من بطونها عسل مختلف ألوانه فيه شفاء وغذاء ومنفعة للناس، داعيا الناس للتفكر في هذا الحشرة، وفي منافعها الكثيرة منها أنها تساعد في تلقيح الأشجار المثمرة وذلك من خلال جمعها لحبوب اللقاح وتنقلها بين الزهور التي تساعدها في اكتمال الإزهار والإثمار، فهي حشرة مباركة نافعة. وتتميز هذه الحشرة بصفة العمل الجماعي المتقن، فهي مملكة تديرها ملكة واحدة، ولكل نوع من أنواع النحل وظيفة محددة، ونظام عجيب يتبعه كل فرد في هذه المملكة.

ومن الحشرات التي تتبع نظام المملكة والعمل الجماعي حشرة النمل، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه في سياق الحديث عن الملك سليمان عليه السلام عندما سار بجيوشه في وادي النمل حيث يقول الله تعالى في السورة التي أيضا أسماها باسم هذه الحشرة في سورة النمل: ""حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)" فهذا المخلوق العجيب، استطاع أن يعبر بتعبير أدخل السرور على الملك النبي سليمان عليه السلام، فتبسم ضاحكا من قولها. ويقول الدكتور فاضل صالح السامرائي في حديثه عن اللمسات البيانية لهذه الآية يقول:" فالنملة حذّرت ونادت ونصحت قومها وأنذرت وعممت وأكدّت وقصّرت وبالغت وغيره وكل هذا ليس مهما، فكل كلام يقال فيه أوجه بلاغية لكن المهم كيف عبّر عن ذلك. فالنملة بدأت مخاطبة قومها مخاطبة العقلاء وجاءت بلفظ (مساكنكم) ولم تقل بيوتكم أو جحوركم لأنهم في حالة حركة والحركة عكسها السكون فاختارت لفظ المساكن من السكون حتى يسكنوا فيها ولم تقل المساكن والجحور وإنما قالت (مساكنكم) أي أن لكل نملة مسكنها الخاص الذي تعلم مكانه ولم تقل ادخلن وإنما قالت ادخلوا، ثم أكدّت بالنداء بقولها (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) حرف النداء الدال على البعد حتى يسمعوا نداءها، وقالت (سليمان وجنوده) ولم تقل "جنود سليمان" حتى ترفع العذر عن سليمان، أيضا فلو قالت "جنود سليمان" لكان سليمان غير عالم إذا كان قاصدا أو غير قاصد وجاءت بلفظ (سليمان) بدون أي لقب له كالنبي سليمان للدلالة على أنه مشهور بدون أن يوصف، ثم حثتهم على الإسراع في التنفيذ قبل أن تنالهم المصيبة، ونسبت الفعل لسليمان (لا يحطِمنَكم) وفعل يحطمِنَكم مقصودٌ في الآية لأنه ثبت علمياً أن جسم النمل يتركب معظمه من كمية كبيرة من السليكون الذي يدخل في صناعة الزجاج والتحطيم هو أنسب الأوصاف للفعل الدالّ على التكسير والتهشيم والشدة."

وهنالك سورة أخرى في القرآن سميت باسم حشرة أخرى وهي سورة العنكبوت التي ضرب الله ببيتها مثلا للضعف والوهن كمن يتخذ من دون الله أولياء فهو يركن ويلجأ إلى ضعف ووهن قال تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)"

وضرب الله مثلا بالذباب وأمر الناس أن يستمعوا له وأن يتفكروا فيه، وهو أن المشركين الذين اتخذوا من دون الله أربابا وآلهة لم يخلقوا حتى ذبابا بل والأكثر إدهاشا أن ما يأكله الذباب من طعامهم رغم أنوفهم لا يستطيعون إرجاعه منه، ضعف الطالب وهم البشر، والمطلوب وهو الذباب، كمثل ضعف المشركين وضعف ما يدعونه ويطلبونه من الأصنام وغيرها مما يشركون به حيث يقول الله تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)".