مسرح الدراما في كلايبيدا
مسرح الدراما في كلايبيدا
منوعات

المسرح في لتوانيا .. الجانب المشرق من العتمة

20 أغسطس 2023
20 أغسطس 2023

يبدو أن هذا العام عام مسرح أوروبا الشرقية بالنسبة لي، فبعد تجربة المسرح التشيكي المدهشة ها أنا ذا أتصدى لتجربة أخرى لا تقل إثارة ألا وهي المسرح في لتوانيا، وكما هو المسرح في لتوانيا جديد عليّ، أحاول أن أسبر أغواره عبر (الشو كيس، Showcase) من خلال نافذة المهرجان، كذلك لتوانيا البلد هي ثقافة جديدة تملك من المقومات ما هو جدير بالتأمل.

قبل أن أصل إلى لتوانيا عرفت معلومة مهمة، المهرجان لا يقام في العاصمة فيلينوس، بل في مدينة نائية عن العاصمة، تبعد حوالي أربع ساعات عنها بالسيارة، تدعى كلايبيدا، وأن المهرجان كله سيقام على مسرح الدراما في كلايبيدا، فما حكاية كلايبيدا هذه وما حكاية مسرح الدراما في كلايبيدا، أسئلة أولية بدأت تشغل البال.

  • كلايبيدا

تعد كلايبيدا ثالث مدينة على مستوى لتوانيا، والميناء الأهم فيها المطل على البحر البلطيقي، وأنا ألج شوارع المدينة ودروبها صرت أشخص البصر شمالا ويمينا أبحث عن معالمها، المدينة شبه خالية وهي غارقة في بحر من الخضرة الوارفة، الهدوء والصمت سمتان غالبتان على المدينة رغم سلاسل العمارات ذات الطرز المحددة والبعد الاجتماعي المحدد الذي تدرك العين مرجعيته من أول وهلة، هل هي مدينة بكل معنى الكلمة؟ بدت لي هي أقرب إلى القرية الريفية، وفي أحسن الأحوال يمكن أن نطلق عليها مدينة القرية، أو قرية المدينة، أما مركز المدينة فهو يتمحور حول الميناء ومصب نهر "نيمان" في البحر، أروع ما في المدينة ضفاف النهر، رغم محدودية المساحة، هي العامرة بالمقاهي والمطاعم والحدائق والإبداعات الفنية، حيث تشكل المركز الحيوي للمدينة.

عدد سكان المدينة في أعلى تقدير لا يزيد عن 400 ألف نسمة، وقد عللت كرستينا زيوجيت -رئيسة المهرجان- فراغ المدينة ومحدودية عدد السكان بأن المدينة في تاريخها الحديث كلما عُمرت يأتي احتلال خارجي يُعيدها إلى نقطة الصفر، ويُهجر السكان منها، مثلما فعل الاحتلال الألماني والروسي، وإنّ جُل من هم هنا اليوم هم من الوافدين الجُدد عليها، وتعد كرستينا أن المدينة الآن في طور إعادة التأسيس واستقطاب السكان لها من جديد، ولعل هذا النشاط المسرحي عنصر من عناصر إعادة الألق لها.

إذا هل مدينة بتلك المعطيات جديرة بمهرجان مسرحي يدعى له النقاد من دول العالم؟ فأقصى ما توقعته أن يكون لديهم مسرح بسيط الإمكانيات بالكاد يفي بالغرض، حتى كانت المفاجأة الكبرى عندما وجدت نفسي أمام صرح شامخ كتب عليه "مسرح الدراما في كلايبيدا"، نصفه الأساسي مبني على الطرز القديمة في غاية الأبهة الكلاسيكية ونصفه الآخر على أحدث طراز معماري زجاجي الجدران.

عندما قابلت مدير المهرجان الفنان المخرج "توماس جوكايس" وهو أيضا مدير المسرح -رجل في غاية اللطف والكياسة- أخبرني أن رحلته مع هذا المسرح بدأت منذ سبع سنوات مع إعادة ترميمه وبناء الجزء الحديث منه، وأن هذا الصرح يضم ثلاثة مسارح بالإضافة إلى القاعات وصالات المعارض الفنية، المسرح الكبير يستوعب 400 متفرج، والمتوسط 150 متفرجا، والصغير 80 متفرجا، يوفر المسرح المكان المناسب للعروض حسب نوعها ومتطلباتها الفنية، فعدد الفرق الفنية في لتوانيا يزيد عن المائة فرقة، العديد منها يأتي للعرض في كلايبيدا سواء في المهرجان أو المواسم المسرحية الأخرى. بدا تومس فخورا بإنجازه على مستوى المهرجان والصرح المسرحي، مشيرا إلى أن الدعم المادي يأتي جزئيا من قبل الدولة، وجزء آخر يأتي من الرعاة المهتمين بالإضافة إلى شباك التذاكر، وعن نوعية العروض التي يتبناها المسرح في كلايبيدا أكد أن المسرح مفتوح لمختلف التجارب والنتاجات المسرحية دون تدخل في توجهات ما يُقدم عليه.

المهرجان يقام هذا العام في دورته السابعة، وواضح نضج اللجنة المنظمة في إدارته بسلاسة وكفاءة، ولعل أروع ما في التنظيم تلك العفوية التي توارت خلفها الدقة والصرامة، حرص المنظمون على بث روح الصداقة والألفة رغم أن موضوع الحرب الروسية الأوكرانية ألقى بظلاله على المهرجان؛ إذ حضر عدد من الفنانين الأوكرانيين ومن الدول المجاورة لأوكرانيا والمناصرة لها بشدة، على أي حال يمكن للمرء منا أن يفسر حتى عنوان هذه الدورة في هذا السياق، THE BRIGHT SIDE OF DARKNESS، واجتهدت في ترجمته على النحو الآتي: الجانب المشرق من العتمة.

في كلمته الافتتاحية بدا مدير المهرجان معتزا بما تم إنجازه وبتغلبه -مع زملائه- على العديد من العقبات والتحديات التي واجهتهم خلال السنوات السبع الماضية، خاصةً أنهم في مراحل معينة كانوا يجدون أنفسهم أحيانا بلا ميزانية ولا مؤازرة من أحد، اليوم هم ينظرون بثقة إلى المستقبل، وقد حقق المهرجان نجاحات باهرة أثلجت صدر محبي المسرح وعززت مكانة المدينة ومسرحها الذي أصبح يعرف بأنه مسرح محرض محرك للأحداث متقدم حداثي يمضي بخطى ثابتة نحو المستقبل. مضيفا: اليوم، عندما تحيط العتمة العالم كله نحن لا نبصر إلا طريقا واحدا للخلاص: أن نمضي قدما نحو النور. إن تغيير العالم أمر صعب جدا ولكن هذا لا يجعلنا نتقاعس، نحن نبث الإيمان في انتصار الخير دائما.

اعتدت في المهرجانات في الدول الغربية أن أمثل اختلافا عرقيا وعقائديا، بما يعنيه ذلك من اختلاف الثقافات والمرجعيات، إلا أن في هذا المهرجان كان لدي زميل ضيف من باكستان، ممثل ومخرج سينمائي ومسرحي، سهيل مالك، رغم أنه في أواسط السبعينيات من العمر إلا أنه رياضي في منتهى الرشاقة والطاقة وخفة الحركة ناهيك عن خفة الروح، رجل أقل ما يقال عنه إنه اجتماعي من الطراز الأول، منفتح على الجميع، مرن بالتداخل معهم متجاوزا كل ما يمكن أن يكون صادا أو مانعا، فكان هو الأقرب لي تآلفا وتنسيقا في حضور مشترك للفاعليات ومناقشة العروض وتداعياتها على المستوى الفكري والجمالي، وكنا عادة ما نشكل فريقا واحدا في محاورة الآخرين، ولـسهيل تجربة تقديم عروض أزياء مميزة في الثمانينيات قدمها في فندق قصر البستان في مسقط، وما زال يتذكرها بكل اشتياق لمعاودة التجربة.

  • رجل المقصف

أما أكثر المواقف التي هزتني من الأعماق، وأود أن أسجلها هنا هو رجل خدمة المرطبات في المسرح، حرصت إدارة المهرجان كبادرة طيبة منها أن تخصص لنا قاعة استقبال متسعة تجمعنا مع الفنانين الذين يقدمون العروض المسرحية، وكانت عادة ما تمتد المناقشات والسهرات في تلك القاعة إلى ساعات متأخرة من الليل، كانت تلك اللقاءات مساحة أخرى للتواصل العفوي بين الضيوف مع بعضهم وبينهم وبين الفنانين المقدمين للعروض، في ركن من تلك القاعة وضعت أرفف وثلاجة بوصفها مقصفا لتقديم المرطبات والمشروبات للضيوف، في قلب هذا المقصف وقف رجل مربوع القامة مبتسما دائما يخدم الزبائن بهمة، اقتربت منه في اليوم الأول طلبت منه قنينة ماء سألت إن كان عليّ أن أدفع ثمن القنينة، أجاب إن الثمن مدفوع من قبل إدارة المهرجان، في المرة التالية طلبت عصيرا، وقد أحرجت من تواضع الرجل وحرصه على تقديم الخدمة بإتقان يشوبه بعض التردد والوجل، قلت في نفسي إن الرجل يستحق أن أقدم له مبلغا بسيطا مقابل خدماته تحيةً مني وتقديرا، ولكن الأمر الذي استوقفني هو تساؤلي إن كان تصرفي هذا سيكون مقبولا في العرف الاجتماعي اللتواني، أم سيكون له تفسير آخر غير محمود؟ خاصةً وأنني لم أر أيًّا من الضيوف يقوم بذلك، وأن الرجل نفسه لم يتوقع من أحد ذلك، فقلت ليس أقل من أن أجامله بالتحية والتحدث معه، ومن خلال حديثي معه فوجئت أن الرجل أحد مديري شركة كبرى في أعمال المقاولات الإنشائية، وأنه تطوع بهذا العمل خدمة للمسرح والمسرحيين، وعندما أخبرته أني من سلطنة عُمان وحاولت أن أشرح له أين تقع، أجابني: نعم أعرف سلطنة عمان وقد نفذنا -من خلال شركتنا- بعض المشروعات هناك، وأن أخي قد زار سلطنة عُمان مرات عدة وحدثني عنها كثيرا، فرح بي الرجل عندما عرف أنني من سلطنة عمان، وفرحت برجل بهذا التواضع يؤدي عملا بسيطا عشقا في المسرح، وبرجل يعرف بلادي جيدا.

تلك هي الأجواء التي انطلقت فيها عروض المهرجان التي سأتحدث عن نخبة منها في مقال لاحق، لا سيما تلك العروض التي استقطبتني بما قدمته من أطروحات وتجليات فنية.