منوعات

"العلمُ أولاً ثمَّ المالُ" سر نجاح وادي السيليكون "عاصمة التكنولوجيا في العالم وقبلة رواد الأعمال" هل يمكننا تقليده؟

31 يوليو 2021
31 يوليو 2021

من كان يتَصَوَّر أنَّ هذا الخليج الصغير في المنطقة الواقعة جنوب مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية سيصبح اليوم أكبر عاصمة للتكنولوجيا في العالم تجتمع فيه أكبر شركات التكنولوجيا مثل "جوجل" و"فيسبوك" و"أبل" و"أدوبي" و"سيسكو سيستمز" و"أدفانس مايكرو دفايسز" و" إيباي" و"وليت باكارد" و"انتل" و"جونيبر للشبكات" و"إ نفيديا" و"أوراكل" و"ياهو" و"فيس بوك" وأمازون" و"مايكروسوفت" وغيرها من كبرى شركات التقنية بالعالم. دعونا في هذا المقال نتعرف على السر في نجاح هذه المنطقة التكنولوجية دون غيرها وكيف كانت البداية ولماذا لم يتم تقليدها في منطقة أخرى بالعالم وكيف نختلف نحن عنهم.

ظهر مصطلح "وادي السيليكون" في السبعينيات عندما أصبحت هذه المنطقة مركزاً للصناعات التكنولوجية في الولايات المتحدة، وازدادت شهرةً عندما أن اتخذتها شركة ناسا مقرا رئيسيا لها بعدما نجحت في الوصول إلى القمر ثم شركة "آي بي ام" لتحويل أجهزة الحاسب الآلي إلى أجهزة أصغر تمكن الجيش الأمريكي أن يستخدمها بسهولة.

لكنَّ عدداً من الأبحاث العلمية التي اهتمت بدراسة السبب وراء هذا النجاح غير المسبوق تُعزيه إلى سبب آخر ألا وهو وجود جامعة ستانفورد وهي إحدى أكبر وأعرق وأفضل الجامعات الأمريكية، التي تأسست عام 1885. لكن ما الذي يُمَيّز هذه الجامعة عن غيرِها لتكون هي السبب وراء هذه النقلة النوعية في التكنولوجيا؟ إنَّ هذه الجامعة منذ إنشائها كان محور اهتمامِها البحث العلمي والتعليم المبني على البحث. وفي الستينيات لَعِبَ عميد الجامعة البروفيسور فريديريك تيرمان، والذي يُعدّ الأب الروحي لوادي السيليكون، لَعِبَ دوراً محورياً في إحداث هذا التحول العجيب من البحوث الأكاديمية إلى الصناعة حيث أسس وحدات بحثية متخصصة داخل الجامعة مهمتها احتضان أفكار الطلاب والمبادرين على تأسيس شركاتهم بما فيها تمويل المشرعات ومدهم بالتمويل الضروري لإجراء أبحاثهم، وكان سببا في ظهور شركة "اتش بي" التي بدأها رواد أعمال عملوا من جراج المنزل هما "بيل هيوليت" و"ديفيد باكارد" واستخدما أبحاث "ستانفورد" لتطوير أعمالهما في تكامل واضح بين رائد الأعمال الناجح و الطالب الناجح والنظام التعليمي الناجح. وبدأت نواة أبحاث السيليكون مع عالم الفيزياء والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء ويليام شوكلي الذي طوَّرَ أشباه الموصلات المصنوعة من السيليكون، والتي تُعد سبباً رئيسياً في تسمية المنطقة بهذا الاسم.

وعند ذكر دور ستانفورد سيكون من الإجحاف ألا نذكر قرينتها في البحث والتطوير والتي تأسست مع ستانفورد في نفس الفترة تقريباً وتبعد عنها مسافة 50 كيلومترا فقط ألا وهي جامعة كاليفورنيا بيركلي التي تقع شمال وادي السيليكون. لقد أسهمت هذه الجامعة مع ستانفورد في تخريج آلآف المهندسين ورواد الأعمال الذين شكلوا نواة وادي السيليكون ولعلَّ أشهرهم ماسايوتشي سون الذي يقود التمويلات الهائلة في شركات التكنولوجيا بصندوق يتجاوز الـ 100 مليار دولار أمريكي.

وأود أن أتوقف على نقطة هامة جداً وهي أن إداريّ الجامعة ومؤسسيها هم بالأساس باحثون ومخترعون ولذلك قُّدِّرَ للجامعة أن تنجح وقّدِّرَ للبحوث الخارجة منها أن تُحدِث نقطة التحول في عالم اليوم. أذن من أنشأ وادي السيليكون؟ هم الطلاب ومن أشرف على مشاريعهم الناجحة؟ هم الأساتذة الباحثون وتحت مظلة تعليم ناجح، والعوامل المساعدة هي احتضان الفكرة وتبنيها وتمويلها لتتحول إلى مشروع. وما هي النتيجة؟ ثورة تكنولوجية عظيمة. هكذا إذن كما هو الحال في الطبيعة إذا تهيأت الظروف المناسبة فإنَّ الغراسَ ينمو ويثمر.

والجدير بالذكر أن المبدأ الذي قام عليه هذا المجتمع العلمي التكنولوجي وهو العلم، رافقه إلى اليوم فوادي السيليكون لا يعتبر منطقة تضم أهم شركات العالم في مجال التقنية فحسب، بل هو مجتمع حاضن للابتكار والتطوير والتعليم وإعادة مفهوم الاختراع في جميع الأنشطة التقنية وكذلك في الطاقات البشرية الاستثنائية التي شكلت نقطة البداية.

والآن بعد هذه المقدمة، هل يمكن تقليد وادي السيليكون؟ للإجابة على هذا السؤال دعنا نعقد مقارنة بين العناصر التي شَّكَلت ذلك النجاح وبين ما هو لدينا لنرى فيما إذا كان ذلك ممكناً.

ولنبدأ من النظرة للمعرفة والبحث العلمي. إنَّ ستانفورد وبيركلي وغيرهما من جامعات الولايات المتحدة ينظرون إلى المعرفة على أنها قضية اقتصادية لها انعكاسات سياسية واجتماعية كما هو الواقع الآن معهم. فهم يحكمون العالم اليوم بالمعرفة والعلم لا بالسلاح والنفط! فاقتصادهم مبني على المعرفة لذا فهو ثابت ومستدام لا يتأثر بتذبذبات السوق. والثورة الصناعية آنفة الذكر إنما هي بسبب الاستثمار في المعرفة. أما نحن فننظر للمعرفة على أنها قضية تأملية فكرية بحتة ننقلها للطالب من الكتب ونمتحن فيها طالبَ المدرسة والجامعة في نهاية الفصل أو العام لنجيزه إلى السنة التي تليها بعدما لقَّنَّاه كماً هائلاً من المعلومات الوصفية.

وهم ينظرون للبحث العلمي أنه مستقبل البلاد والاستثمار الناجح ومحرك الاقتصاد والتنمية ومصدر القوة والهيمنة السياسية. أما نحن فننظر إلى البحث العلمي على أنه ترفٌ لا حاجة لنا فيه. فالقطاع الخاص ينظر للربح السريع لذا لا يمكنه الاستثمار في هذا الجانب والمسؤول -إلا من رحم ربك- ينظر إليه أنه في آخر الأولويات. ولا أنسى موقفاً حصل لنا عندما تم دعوتنا في مجلس الدولة من سنتين تقريباً من قَبلِ لجنة التعليم والبحث العلمي لمناقشة التحديات التي نواجهها في البحث العلمي في السلطنة. وبعد أن تحدثنا لساعات طويلة ردَّ علينا أحد أعضاء اللجنة وهو أستاذٌ جامعي قائلاً "لا حاجة لنا بالبحث العلمي" وكان يتمنى أنه لو تم إنفاق ما تم إلى الآن في أمورِ أخرى لكان أجدى! إنما أذكر هذا المثال من مئات الأمثلة لكي نُعَّرف القارئ أن لدينا أزمة فكر وليس أزمة المال.

ثم من هو الطالب في جامعة ستانفورد أو بيركلي أو أغلب جامعات أمريكا وأوروبا؟ إنه محور العملية التعليمية وسر الحكاية بأكملِها، فقد هُيّءَ له بيئة الابتكار لتُثير فضوله وليسأل ويفكر ويشكك ليصل إلى اليقين بقناعة ووجِد الأستاذ لِيُعَلِّمُه لا ليُلَقِّنه ووجدت الجامِعة لتحتضنه وأُنشئت له الشركات لِتتبناه بعد تَخُرجه ووفر له المال لدعم مشروعه الخاص فالبيئة برمتها من ألِفِهَا إلى يائِها هي بيئة إبداع وابتكار لا مناص للطالب إلا أنه يتعلم ويطبق ويبدع ويبتكر. والآن ما هو وضع الطالب العربي في بلاده؟ هل خُلِقَ بعقلٍ أقلّ عن نظيره الغربي؟ هل يحمل جينوماً مختلفاً لا يمَكِّنه من الوصول لمرحلةٍ من التفكير ويوقِفه عند حدٍ لا يتجاوزه؟ كلا، فلا يوجد بحثٌ واحدٌ يثبت ذلك. ولا شك أن الذكاء من السمات التي تلعب فيه الوراثة دوراً لكن البيئة تلعب الدور الأكبر. فالطالب عندنا يذهب إلى مدرسته كرها ليجد منهاجاً يقتل ملكة التفكير لديه ويجد مدرساً يُلقنه الدرس ويمتحنه من أجل النجاح والشهادة لا من أجل العلم، والمدرسة والجامعة لدينا على حدٍ سواء هما بيئتان طاردتان. إن مجرد بناء نظام تعليمي على التعليم من أجل الشهادة أو سوق العمل لهو كفيل بالقضاء على مَلَكة الأبداع والابتكار. وإذا تخرَّج الطالب من الجامعة إما أن يعود إلى البيت بشهادته التي نعتها أحد المسؤولين بأنها لا تفيد بشيء، أو قد يحصل على وظيفة لا تلبي طموحه فيتشبث بها من أجل البقاء وحتى لا تلاحقه نظرات المجتمع بأنه عاطل. أليست هذه حال أغلب الخريجين لدينا؟

ثم كم من الطلاب العرب الذين بلغوا مراتبَ متقدمة في البحث العلمي والابتكار عندما أُتيحت لهم الفرص في جامعات الغرب حتى حصل بعضهم على جائزة نوبل وفي وادي السيليكون ذاته هناك عدد من هذه العقول العربية الفذة. إذاً هي البيئة الحاضنة للإبداع.

وثمةَ أمر آخر غاية في الأهمية في كيفية تعاملنا مع الإخفاق، ففي مدارسنا وجامعتنا نتعامل مع الإخفاق كبلادةٍ أو حتى كمرض وينتهي الأمر بخروج الطالب من المدرسة ليبدأ رحلة بحث بائسة عن وظيفةٍ تقيمه لتلاحقه نظرات المجتمع دون هوادة فتزيد من بؤسه وشقائه. أما في مدارسهم وجامعتهم فينظر للفشل نظرة إيجابية بل يذهبون إلى أبعد مما تتصور حيث تفضل بعض الشركات الناشئة أولئك الذين مروا بتجارب فاشلة في حياتهم وتجاوزوها فأولئك أتخذوا مخاطر عالية وتجارب قاسية في حياتهم، لذا هم مهيأون أكثر على خوض المغامرة التي تحتاجها الشركات الناشئة التي يتحتم عليها كسر سياسات عمل الشركات الكبيرة التي لا ترغب في المجازفة بسبب أوضاعها المستقرة.

وإذا كانت هذه نظرتهم وتعاملهم مع الإخفاق، فكيف يتعاملون ونتعامل نحن مع الموهوب؟

رغم أهمية بيئة الدراسة والعمل في خلق الإبداع، إلا أنه توجد فروقات فردية بين البشر، لذا لم تغفل جامعة ستانفورد بالتحديد هذا الجانب فتعاملت مع الموهوب معاملة خاصة وسعت سعياً حثيثاً على جذب الموهوبين والمبدعين من الولايات الأخرى في أمريكا والعالم، فالشركة الطلابية التي تقوم، بها منذ البداية المهندس والمصمم ورائد الأعمال والمسوِّق فتخرج شركة متعددة المهارات. أما نحن فلا نميز الموهوب بشيء ففي المدرسة مع باقي الطلاب وفي جامعاتنا كذلك. وهنا أشيرُ إلى ما أخبرني به أحد الموهوبين العمانيين ممن أعرفهم جيداً في الفيزياء يقول لي إنه كان يجلس في محاضرات الفيزياء في جامعة السلطان قابوس ويصيبه الملل إذ أنّ المعلومات التي تُلقى على مسامعه هي معلومات دون مستواه العقلي وللأسف لم ننظر إليه على أنه عالم في الذرة أو في الفيزياء النووية بل حتى لم يتم توظيفه بعد تخرجه لينتهي في أحد شركات النفط كغيره. أنا أذكر هذه الأمثلة وأتعصرُ ألماً على التفريط في ثروة العقل.

إن نموذج وادي السيليكون يثبت بما لا يدع مجالاً للشكِ أنَّ العلم أولاً وليس المال ومن العلم يأتي المال. والجامعات يجب أن تكون حاضنات ومصدرات للأفكار وللأبحاث الناجحة فيما بعد. لقد أصبح المستثمر ينتظر أي فكرة تخرج من هذه الجامعات لتمويلها منذ مهدها لتصبح مشروعاً يدرُّ مليارات الدولارات. وقد بلغت أرباح الشركات التي انطلقت من مشاريع بحثية طلابية ما يقارب 2.7 تريليون دولار ووفرت 5.4 مليون وظيفة.

وعند زيارتك لهذه الإمبراطورية ستجد فِرَقاً تعمل بذكاءٍ خارقٍ ليلاً ونهاراً ليس فقط لصناعة المال وإنما لتغيير العالم كما يقولون أو يطمحون. فهناك فريقٌ يعمل على تحويل ثاني أكسيد الكربون عن طريق الأشعة فوق البنفسجية من الشمس لإحداث تغيير في المناخ وهذا أمر ليس عادياً وله أبعاد وتبعات لا حصر لها. بينما في أروقة أخرى تجد فريقاً يصنّع الهايبرلوب لتكون أسرع وسيلة نقل بين المدن. وهناك بِل هانت الذي أطلق خمس شركات ناشئة وباعها بنصف مليار دولار.

وفي ركن آخر من وادي السيليكون، يعمل جيرمي هاورد مؤسس آتليك على استخدام البرمجيات لتصبح الآلة أكثر تعلماً من البشر وهذا ما يعرف بالذكاء الاصطناعي للآلات، ويعتقد أنَّ هذا سيساعد في حل مشكلة نقص الأطباء. وتستخدم هذه الشركة العقل العميق لتشخيص السرطان، حيث سيفكر هذا البرنامج ويستنتج من قراءة الصور ليصل إلى التشخيص الصحيح. ولكي تتصور أيها القارئ ماهية هذا البرنامج ودقته وكفائته، فهو يحتاج إلى 2% من الثانية لكي ينظر إلى صورة للأشعة المقطعية ويستطيع أن ينظر إلى مليون صورة مشابهة.

وهناك قصة نجاح الشابين درو هوستن وشريكة آراش فردوسي مؤسسا موقع دروب بوكس التي تبناها سام ألتمان" أحد عمالقة وادي السيليكون والذي يدير شركة واي كومبينيتر التي تقدر ثروتها بـ 80 مليار دولار. أما شركة دروب بوكس فتقدر أرباحها بأكثر من 12 مليار دولار أمريكي.

أنا أنقل لك أيها القارئ بعض من هذه المشاهد وكأنك تراها وأود أن أوأكد لك أنني لا أتحدث عن فيلم في الخيال العلمي ولكن عن قدرة العقل البشري عندما تتاح له الظروف، "وفوق كل ذي علم عليم".

والآن هل نستطيع تقليد تجربة وادي السيليكون؟ أترك لك الإجابة أيها القارئُ .