مرايا

الفنانة المتنوعة واحة الراهب لـ «مرايا»: أعشق الأدوار المعقدة التي تعكس سمة الحياة بتناقضاتها

24 يوليو 2019
24 يوليو 2019

حاورتها : ضحى عبدالرؤوف المل -

استطاعت الفنانة والروائية «واحة الراهب» التعمق النفسي في روايتها «الجنون طليقا» لتتركنا بين المتخيل والواقع، وهو اللعب على ازدواجية المسارات، والذي تراه كما تقول شكلاً من أشكال التعبير عن الحياة ذاتها، بازدواجية مساراتها ومعاييرها وتناقضاتها، بين الخير والشر بتدرجاتهما اللونية البعيدة عن التصنيف ضمن الأبيض والأسود فقط، بين الواقع والمتخيل والأحلام التي هي في النهاية مصدر لإلهام الواقع وأداة من أدوات تنفيذه. شكّل بالإضافة لتعبيره بصدق عن عالم الشخصيات المريضة والعاقلة، أو المدعية للتوازن العقلي على حدٍ سواء، شكل كذلك عنصر جذب وإثارة درامية للقارئ بحسب ما وصلها من آرائهم. وهو بالتالي ما دفع الجميع لتوقع ملائمة الرواية لمشروع مسلسل درامي أو فيلم سينمائي، وتلهفهم لتحويله إلى الشاشات الكبيرة أو الصغيرة. وهو ما ألهمها بدوره للبدء سريعاً في العمل على تحويله -مبدئياً- لملخص أو معالجة لفيلم سينمائي، سيتم من بعدها التفكير في العمل على فرفدة تفاصيله الكثيرة، التي تتجاوز الحاجة لمليء أحداث فيلم سينمائي، نحو توسيعه بالشكل الملائم لإنتاجه كمسلسل درامي وهي الفنانة التي نجحت في تقمص الأدوار النفسية والأكثر جدلا في الكثير من الأدوار التي قدمتها على الشاشة الصغيرة ومعها أجرينا هذا الحوار.

-الممثلة والروائية واحة الراهب من الأدوار النفسية إلى الرواية النفسية في «الجنون طليقا»، هل هذا اتجاه معاكس أم اتجاه يتواءم مع التمثيل؟

- بل هو جزء من عشقي للتمثيل وانغماسي في التغلغل في عالم الشخصيات التي أوديها، وأستمتع بتقمص عالمها الداخلي وكل تفاصيلها وجزئياتها، أعيش حتى معاناتها النفسية والجسدية مهما كانت معذبة ومؤلمة، لأتمكن من التعبير عنها بأقصى درجة من المصداقية. هذا ما تطلب مني لأداء دوري زوينة بمسلسل جواهر، أن أقرأ الكثير من مراجع وكتب علم النفس، وكان تقمصي الصادق لعذابات الشخصية المريضة بالفصام، يتسبب لي بهبوط حاد بالضغط بعد كل مشهد انفعالي. وذلك للتعبير عن أمراضها النفسية وعذاباتها التي لا تحتمل. هذا ما أتاحه لي أيضاً التغلغل بعالم شخوصي الداخلي عبر الرواية. وهو ما يتيح مجالاً أكبر من مجال التمثيل.. وحتى من الإخراج الذي يتيح التعبير عبر الصورة أولاً على حساب اختزال اللغة، بينما الرواية تتيح الغوص شكلاً ومضموناً.. في العالم الداخلي للشخصيات، وإطلاق المخيلة وأدوات التعبير صورة ولغة أيضا.

- تماسكت الحبكة في الرواية وتوزعت الشكوك في نص درامي تشويقي، ما بين المشفى والخارج، داخلي وخارجي. إلى أي مدى استفادت واحة الراهب من فن الإخراج في كتابة السيناريو؟

لا شك أن علاقتي بالدراما كمخرجة وممثلة وكاتبة سيناريو، كان لهم التأثير الكبير في قدرتي على صياغة الحدث المثير الذي يتجسد كصورة وكلغة أيضاً أمام القارئ. فالإخراج بكل عناصره وأدواته من تصوير وإضاءة وتمثيل وديكور وأزياء وموسيقى، تنطق اللوحة الصامتة التي في الرواية تنطقها قوة التعبير اللغوية في خلق تداعي الصور اللانهائي لدى القارئ. الإخراج يعيد صياغة اللغة، لتحويل أكبر كم ممكن منها إلى صورة معبرة، تختزل المحكي إلى ما هو مرئي ناطق، وهو ما عبر لي عن انعكاسه في روايتي الكثير من القراء وذكره بعض الصحفيين، بأن الحدث بروايتي مجسداً أمامهم بلغة جميلة وسلسة ومختزلة بصور للكثير من الأحداث.. تختزلها لغة معبرة ببساطتها.. بأقل العبارات المتقنة. وفي المحصلة.. مهما أبدع المخرج في تجسيد أحداث رواية ما.. يبقى الانطباع لدى أغلب القراء أن العمل المقتبس من رواية لا يضاهيها غنى وعمق. لأن عالم الرواية يبقى أوسع مدى بكثير، من محاولة تأطيره ضمن حدود صورة تعكس الرؤية الفنية المحددة للمخرج، المختزل لعالم الرواية الشاسع المدى في إيحاءاته اللغوية اللامتناهية الأبعاد. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن تدفق المخيلة والتعبير من خلال اللغة الإبداعية البصرية واللغوية الكتابية، تحتاجان كلاهما إلى موهبة أولاً وثقافة ثانياً، ومصداقية تعبير في النهاية.

- واحة الراهب من التمثيل النفسي إلى الكتابة، ما الذي تغير رغم تراجع عدد القراء في الوطن العربي، ألم يخفك هذا؟

- أن الكتابة كانت جزء من دراستي للإخراج السينمائي والفن في باريس، وتميزي أمام أساتذتي في كتابة السيناريو كان المشجع الأول لي للاستمرار. وقد اكتشفت عشقي للكتابة الآن في هذا الزمن القاهر أكثر من قبل، رغم أن تراجع نسبة القراء في الوطن العربي أمر مخيف للكتاب ولدور النشر أيضا، أمام طغيان حضور التعبير الصوتي والمرئي للدراما التلفزيونية والسينمائية. لكن في المقابل ما يهمني أكثر هو الهامش المتاح للتعبير عن أفكاري بحرية وجرأة أكبر، دون رقابة المنتج والموزع والعارض والخ... يجعل الكتابة الروائية أقرب إلى روحي كأداة تعبير. يمكن لها إذا نجحت وعبرت عن عالم القراء أن تحوّل فيما بعد إلى دراما كما يطرحه الآن معظم قراء روايتي الجنون طليقاً. لاسيما بعد أن انحسر الهامش المتاح أمام أدوات التعبير الفنية الدرامية في الوطن العربي بأكمله بعد الربيع العربي. وأصبح الطلب على دراما مسطحة مسحوب خيرها، هو المعتمد في سوق الكثير من الجهات المنتجة. رغم اكتشافهم حالياً لعدم قدرة أحد على استغباء الجمهور.. حتى الجمهور المتابع للمسلسلات المسطحة لحاجته للتسلية أو ترييح الذهن، هو يعلم في النهاية كيفية التمييز بين الغث والثمين. وهو ما دفع المستوى الدرامي للنهوض قليلاً هذا العام في تعبيره عن قضايا الناس وهمومهم وأحلامهم الحقيقية، بعيداً عن التعليب وتزييف الواقع كما يراد لها أن تكون.

- أتقنت واحة الراهب التمثيل النفسي إن صح القول، واليوم الرواية نفسية، لماذا دائماً النفسي له أهمية عندك؟

- لأن ما يهمني بالدرجة الأولى هو الإنسان وعالمه الداخلي، الإنسان كأسمى قيمة بالوجود.. منه ولأجله وعبره يتحقق الهدف من الوجود، ويمكنني التعبير من خلال عالمه الخاص عن العام المحيط به.. عبر أدواتي الفنية المتعددة التي برأيي تكمل بعضها البعض.. إن كانت بالتمثيل أو بالإخراج.. أو عبر الرواية. إذ لا قيمة للحديث عن أي عالم خارجي بمعزل عن هدف وجوده الحقيقي وهو الإنسان، الذي للأسف بقي في مجتمعاتنا العربية، هو القيمة الدنيا الأكثر انحطاطاً بحسابات الأنظمة وتحقيق الأهداف وقيمة الوجود. ففي الرواية أعبر من خلال العالم النفسي والداخلي للشخصيات المتواجدة في مشفى الأمراض العقلية، عن حالة عامة تنتهك عقل ووجود وطن بأكمله. يمكننا قراءة الكثير من صراعاته وتشابكات علاقاته وحروبه الخاصة والعامة، عبر دواخل أفراده وتغييرات عالمهم النفسي، عبر معاناتهم وأحلامهم وقهرهم وآلامهم ومآسيهم وصراعاتهم المتنوعة المتأزمة. وهم يعيشون ظروف حرب وحصار خانق، يعري دواخلهم بشكل أكبر، ويضيع الحد الفاصل بين الجنون والعقل.. وبين الواقع والخيال.. وبين الجريمة الفردية والعامة.

- أين أنت من الدراما ولماذا هذا الغياب؟

أنهيت إخراج فيلمي الروائي القصير من تأليفي، وهو بعنوان (قتل معلن) يطرح قضايا المرأة واللاجئين من خلال قضية زواج القاصرات. وهو إنتاج متواضع بالتأكيد أمام الطموح الكبير بصناعة أفلام طويلة وتحقيق سيناريوهاتي التي ألفتها ولم تتحقق بعد، وأمام غيابي عن التمثيل الذي أعشقه واقتصر على مشاركتي بدور في هذا الفيلم القصير، كذلك دور في فيلمي السينمائي الطويل(هوى) الممنوع والمنتج قبل مغادرتي سورية، كذلك بدور في مسلسل خليجي للمخرج مأمون البني بعنوان (عيلة من هذا الزمان) ودور أم صخر في مسلسل (حمام شامي) للمخرج مؤمن الملا، ودور الملكة بادية في مسلسل (أوركيديا) للمخرج حاتم علي. وهم مشاركات أعتز بها، وإن كانت قليلة أمام الطموح بتقديم ما يعكس إمكانياتي التمثيلية والكتابية والإخراجية بشكل أكبر. وذلك بسبب ظروف الهجرة والتنقل، ولا سيما بالنسبة للتمثيل الذي أعشقه، ولكنه لم يعد يوفر أدوار نسائية تحتاج لجهد إبداعي لأعمار تجاوزت عمر الصبا.

- هل أنت راضية درامياً عن الأدوار التمثيلية التي قمت بها؟ وأي الأدوار ما زالت بذاكرتك؟

- كما سبق وأخبرتك أنه في المرحلة الأخيرة، لم أعد أجد الأدوار المركبة والصعبة التي تستهويني، لا سيما أنني لا أجد نفسي في الأدوار السهلة، بل أجدها في الأدوار المعقدة.. التي تعكس سمة الحياة بتناقضاتها. هذا لا يعني أني لا أحب الأدوار الأخيرة التي قمت بها، أو لم أجد فيها ما يستهويني. فأي دور لا أوافق على أدائه إن لم أتعلق به وأحبه، حتى لو كنت أؤدي دوراً شريراً، والدليل أن أكثر الأدوار التي تركت بصمتها عليّ وعند الجمهور.. وللآن يناديني الكثير من الناس (بزوينة) كنية بالشخصية الشريرة والمريضة النفسية بالفصام التي أديتها بمسلسل جواهر.. الذي كتب منه ثلاث أجزاء بناء على نجاح دوري فيه، وكان شرط قبولي الأساس لتصوير الأجزاء التالية. وكذلك دوري (حاتيرا) المرادف لليدي مكبث في رائعة شكسبير.. في مسلسل القلاع لمأمون البني، كما أحب دوري في البركان ودائرة النار واختفاء رجل واللوحة الناقصة والقصاص.. وغيرهم من الأدوار التي علقت في ذاكرتي بقدر ما أحبها الجمهور، وبقدر ما تطلبت مني جهداً ومعايشة وتأثر. لكن لبدايتي الأولى بالتمثيل.. في بطولة مسرحية (لكع بن لكع) للكاتب الفلسطيني إيميل حبيبي والمخرج وليد قوتلي، المكانة المعادلة لإنجاب الطفل البكر، فمنها انطلقت بأول حالة تماس وانتماء مني لعالم التمثيل. وكان لنجاح دوري فيه وتشجيع الجمهور والصحافة لي.. الدور الأكبر في استمراريتي بعالم التمثيل، الذي كنت أعتبره لا يتجاوز تجربة الهواة، لاكتشاف هذا العالم من باب العلم بالشيء لا أكثر.