No Image
عمان العلمي

هل يمكن لعُمان أن تتبنى نموذج «جيجيتسو كايهاتسو» الياباني فتطور تقنيات طاقة محلية؟

17 سبتمبر 2025
17 سبتمبر 2025

علياء السعيدية -

ما هو نموذج

«جيجيتسو كايهاتسو» الياباني؟

تُعرَف اليابان بقدرتها على تقديم حلول تقنية مبتكرة تمتد من أصغر التفاصيل إلى أكبر المشاريع. فعلى سبيل المثال، عند دخولك أحد متاجر «سفن إلفن» قد تجد أدوات بسيطة مثل وسادة صغيرة تُوضع حول الرقبة لتخفيف حرارة الجسم، أو طرق مبتكرة لفتح عبوات الحلويات والعصائر تختلف تمامًا عمّا اعتدنا عليه. كل هذه ابتكارات محلية، طُوّرت إما داخل شركات يابانية أو في مختبرات طلابية جامعية. إن فرادة التجربة اليابانية تكمن في كونها محلية بامتياز، وهو ما يُجسّد مفهوم «جيجيتسو كايهاتسو».

هذا المصطلح يعني حرفيًا «تطوير التكنولوجيا محليًا»، أي من دون الاعتماد على استيراد التقنيات من الخارج، مع التركيز على التحسين المستمر أو ما يُعرف بـ «الكايزن» في الكفاءة والجودة، إلى جانب الحماية المحلية للمعرفة. فاليابان تُولي أهمية قصوى لحفظ أفكارها وابتكاراتها، وأحيانًا تصل إلى حد الصرامة والمبالغة في تطبيق قوانين الملكية الفكرية وبراءات الاختراع. ولهذا تستفيد الشركات والمؤسسات البحثية بشكل مباشر من هذا النظام. على سبيل المثال، بلغت إيرادات جامعة طوكيو وحدها من حقوق الملكية الفكرية -مثل تراخيص براءات الاختراع، والعلامات التجارية، وحقوق البرمجيات- حوالي 9 مليارات ين ياباني في عام 2024، أي ما يعادل تقريبًا 23 مليون ريال عُماني.

تحديات محلية

دائمًا ما تواجه اليابان مشاكلها بثقة في كفاءاتها المحلية، لذلك تجد أن اعتمادها هذا الأسلوب ناجح جدًا وفعّال، ونرى ذلك واضحًا جليًا في عدة مشاكل تقنية عُظمى!

القطارات فائقة السرعة «الشينكانسن»

في الستينيات، لم يكن هناك نموذج عالمي لقطار يسير بسرعة تتجاوز 200 كلم/س بأمان. معظم الدول اعتبرت الأمر مستحيلًا. لكن في عام 1964 أطلقت اليابان أول خط للشينكانسن بين طوكيو وأوساكا بسرعة وصلت إلى 210 كلم/س، بينما اليوم تجاوزت سرعته 310 كلم/س. الشينكانسن لم يكن مجرد قطار سريع، بل نظام هندسي متكامل. صُمّم على سكة حديد مخصصة بعرض قياسي (1435 مم)، مع مسارات مستقيمة ومنحنيات واسعة تناسب السرعات العالية، وثُبّتت القضبان على قواعد خرسانية ملحومة لتقليل الاهتزاز. أمّا الهيكل فكان خفيفًا من سبائك الألمنيوم، مع نظام محركات كهربائية موزعة على عدة عربات لزيادة التوازن والكفاءة. وجاءت المقدمة بانسيابية مستوحاة من منقار الرفراف لتقليل مقاومة الهواء والضوضاء عند دخول الأنفاق. وزُوّد القطار بأنظمة فرملة متعددة: كهربائية مع استرجاع للطاقة، وهوائية، ومغناطيسية للطوارئ، لضمان توقّف سريع وآمن. إضافة إلى ذلك، اعتمدت اليابان أنظمة تحكم أوتوماتيكية (ATC) تراقب السرعة والمسافة، تتكامل مع حساسات زلازل توقف القطار فورًا عند الاهتزازات. في معهد أبحاث السكك الحديدية الياباني (RTRI) قاد المهندس هيديو شيما فريقًا متنوعًا من الخبراء، بعضهم عمل سابقًا في الجيش بمجالات مثل الديناميكا الهوائية والهندسة البحرية. كان الهدف تطوير نظام العجلات (bogie) بحيث لا يحدث الاهتزاز الخطير المعروف بالحركة الزاجرة عند السرعات العالية. عمل الفريق على نموذج حقيقي لجزء من القطار وجربوه على مسار تجريبي، ونجحوا في رفع السرعة تدريجيًا حتى سجلوا 200 كلم/س في أكتوبر، ثم وصلوا إلى 256 كلم/س في مارس، وذلك قبل بدء التشغيل التجاري. الشينكانسن لم يكن إنجاز شخص واحد أو شركة واحدة، بل كان تحالفًا وطنيًا يابانيًا: المهندسون الكبار مثل هيديو شيما وضعوا الرؤية، والشركات تولّت تنفيذ البنية والمحركات، بينما وفّرت الجامعات والطلبة البحث العلمي والاختبارات. هكذا وُلد قطار أصبح رمزًا عالميًا للسرعة والدقة والأمان. 

البلاط المولد للطاقة في مطار ناريتا

في مطار ناريتا بطوكيو، تم تركيب بلاط ذكي يولّد الكهرباء من خطوات الركاب باستخدام تقنية الكهروضغطية. هذه الفكرة بدأت من بحث جامعي محلي، طورها المبتكر كوهي هاياميزو عندما كان طالب دراسات عليا، ثم أسس شركة يابانية باسم Soundpower سنة 2006 وحصل من خلالها على براءات اختراع مسجلة في اليابان. اليوم نرى هذا الابتكار مطبقًا فعليًا في المطار ومحطات مثل شيبويا، حيث تتحول خطوات الناس إلى طاقة تشغل أضواء وشاشات صغيرة. ما يميز التجربة أنها تعكس نموذج جيجيتسو كايهاتسو: بحث علمي محلي إلى ابتكار صناعي إلى حماية ببراءة اختراع إلى تطبيق واقعي يخدم المجتمع والبيئة، ويُظهر كيف يستطيع اليابانيون تحويل أبسط الأشياء اليومية مثل «خطوة إنسان» إلى مصدر للطاقة المستدامة.

كيف يمكن لعُمان أن تطبق هذا النموذج؟

يمكن لعُمان أن تستفيد من نموذج جيجيتسو كايهاتسو الياباني عبر بناء منظومة متكاملة تبدأ من المشاكل المحلية وتنتهي بحلول عملية قابلة للتسويق. فالبيئة العُمانية مليئة بالتحديات التي تحتاج إلى حلول مبتكرة، مثل ملوحة المياه، وارتفاع درجات الحرارة، وتأثير الغبار على الألواح الشمسية، إضافة إلى الحاجة لتقنيات تخزين الطاقة والهيدروجين في بيئة صحراوية. تطبيق هذا النموذج يمكن أن يبدأ من الجامعات عبر أبحاث تطبيقية موجهة لهذه التحديات، بحيث لا تقتصر النتائج على أوراق علمية فقط، بل تتحول إلى نماذج أولية وبراءات اختراع مسجلة محليًا. بعد ذلك، يأتي دور الشركات الوطنية لتجريب هذه النماذج على نطاق محدود في مشاريع ميدانية، قبل توسيعها تجاريًا. وأخيرًا، لا بد من وجود سياسات وطنية تحمي هذه الابتكارات وتحولها إلى منتجات معتمدة تُستخدم محليًا وتُصدَّر إقليميًا. بهذه الدورة، تستطيع عُمان أن تنتقل تدريجيًا من استيراد التكنولوجيا إلى إنتاجها محليًا، كما فعلت اليابان في منتصف القرن العشرين.

سياسات عُمان واليابان في دعم الابتكار

اليابان بنت تجربتها على سياسات واضحة منذ الستينيات: ربط البحث العلمي مباشرة بالصناعة، وإلزام الجامعات بالعمل مع الشركات لإيجاد حلول عملية، إضافة إلى نظام صارم لحماية الملكية الفكرية وتسويقها صناعيًا. ولهذا رأينا ابتكارات كبرى مثل بطاريات الليثيوم-أيون وقطارات الشينكانسن، التي بدأت كأبحاث جامعية ثم انتقلت بسرعة إلى شركات مثل Sony وHitachi وسُجلت كبراءات اختراع يابانية. في المقابل، السياسات في عُمان عبر مجلس البحث العلمي ركزت أكثر على تمويل الأبحاث الأكاديمية والنشر العلمي، بدلًا من التركيز على التطبيق الصناعي. صحيح أن هناك مبادرات مثل مجمع الابتكار مسقط وحاضنات الأعمال، لكنها لا تزال في بداياتها، ولا تُقارن من حيث الحجم والتأثير بالمنظومة اليابانية التي جعلت الجامعات محركًا أساسيًا للاقتصاد. الفرق الجوهري أن اليابان تنظر إلى البحث الجامعي كاستثمار اقتصادي، بينما في عُمان يُنظر إليه غالبًا كإنجاز أكاديمي منفصل عن السوق.

نحو سياسات عُمانية أقرب إلى الجيجيتسو

لتقريب السياسات العُمانية من النموذج الياباني، هناك حاجة لإعادة ترتيب الأولويات. أولًا، يجب أن تُشترط في المنح البحثية خطة تطبيق أو نموذج أولي، وليس مجرد نشر في مجلة علمية. ثانيًا، على الحكومة أن تقدم حوافز ضريبية وتمويلية للشركات التي تتبنى ابتكارات محلية أو تسجل براءات اختراع داخل سلطنة عمان. ثالثًا، يمكن للدولة أن تطلق برامج «مشتريات حكومية ذكية» بحيث تلتزم الوزارات بشراء نسبة من الحلول المنتجة محليًا، مما يشجع الشركات الناشئة على النمو. رابعًا، لا بد من وجود مكتب وطني قوي للملكية الفكرية يُسهّل تسجيل وحماية براءات الاختراع العُمانية دوليًا. هذه الخطوات ستخلق دورة مشابهة لليابان: مشكلة محلية إلى بحث جامعي تطبيقي ثم تطوير صناعي ثم براءة اختراع ثم تطبيق تجاري. ومع وجود طاقات شبابية عُمانية وقطاعات استراتيجية مثل الطاقة والهيدروجين والمياه، يمكن لعُمان أن تصبح رائدة في تطوير حلول تكنولوجية تناسب البيئات الحارة والمالحة، وتُصدِّرها إلى دول الخليج وشمال إفريقيا. الفرق أن اليابان بدأت هذا الطريق منذ عقود وبنت ثقافة مجتمعية متكاملة حوله، بينما عُمان ما زالت في بداياته، لكنها تملك فرصة كبيرة لتسريع الخطوات إذا تبنّت السياسات الصحيحة.

أمثلة على ابتكارات عُمانية: من أبرز الابتكارات العُمانية مشروع إنتاج وقود حيوي من مخلفات النخيل، الذي طوّره فريق بحثي في جامعة السلطان قابوس. تنطلق الفكرة من الوفرة الكبيرة لأشجار النخيل ومخلفاتها مثل السعف ونوى التمر، والتي غالبًا ما يتم التخلص منها بالحرق أو الطمر. الفريق استطاع تحويل هذه المخلفات إلى وقود سائل يمكن استخدامه في تشغيل المحركات والصناعات الصغيرة. وقد تم تسجيله كبراءة اختراع محلية، مما يعكس قيمته كمنتج عُماني أصيل مرتبط بالموارد الوطنية. لكن المشروع توقف عند مرحلة التجارب المخبرية ولم يجد الدعم الكافي للانتقال إلى التصنيع أو إنشاء وحدة إنتاج صناعية، ليبقى حبيس الورق والبحث رغم أهميته البيئية والاقتصادية.

كما يُعد مشروع استخراج زيت من نوى التمر ومخلفات الزيوت المنزلية مثالًا آخر. الفكرة التي قدّمتها طالبات مبتكرات وسُجلت كبراءة اختراع بوزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، تقوم على إعادة تدوير مخلفات غذائية وزراعية وتحويلها إلى زيت عالي الجودة يُستخدم في قطاع النفط، خصوصًا في عمليات الحفر. تم إنتاج نموذج تجريبي أثبت نجاحه، لكنه توقف عند هذه المرحلة ولم يُستثمر أو يُنتج صناعيًا بسبب غياب التمويل وضعف الربط بين الجامعات والشركات. ولو وُجد نظام تبنٍ صناعي مشابه للنموذج الياباني، لكان من الممكن أن تتحول هذه الفكرة إلى منتج عُماني يُستخدم محليًا ويُسوّق خارجيًا، خاصة في ظل الطلب العالمي المتزايد على حلول الطاقة البديلة.

في المقابل، فإن السياسات الحالية والاعتبارات المادية ونقص بعض الأفكار التطبيقية تجعل من الأسهل على الشركات العُمانية التوجه نحو استيراد تقنيات جاهزة من الخارج بدل الدخول في مسار تطوير طويل محليًا. فغياب الحوافز المباشرة لتبني الابتكار الوطني، وضعف التمويل للمراحل المتقدمة من البحث وصولًا إلى التصنيع، إلى جانب قلة الخبرات المتخصصة في تحويل الأفكار إلى منتجات قابلة للتسويق، كلها عوامل تدفع الشركات لاختيار الحلول الأجنبية الأسرع والأكثر جاهزية. ورغم أن هذا الخيار يبدو عمليًا في المدى القصير، إلا أنه يبرز الحاجة إلى سياسات أقوى تُغلق الفجوة بين الجامعات والشركات وتمنح الابتكار المحلي فرصة حقيقية لينافس ويثبت جدواه في السوق.

إن الحديث عن نموذج جيجيتسو كايهاتسو ليس مجرد استعراض لتجربة يابانية ناجحة، بل هو خريطة طريق يمكن لعُمان أن تستفيد منها في بناء مستقبلها الاقتصادي والتقني. اليابان اليوم تسجل سنويًا أكثر من 300 ألف براءة اختراع، وتعد من أعلى الدول في العالم من حيث الكثافة البحثية مقارنة بعدد السكان. أما في المقابل، فإن عُمان لم تتجاوز حتى الآن بضع مئات من البراءات المسجلة محليًا، وغالبها لا تزال في مرحلة النماذج الأولية أو الأبحاث الأكاديمية غير المطوّرة صناعيًا. هذه الفجوة الرقمية تعكس بوضوح الحاجة إلى سياسات أكثر فاعلية تربط البحث الجامعي مباشرة بالقطاع الصناعي.

لكن عُمان تمتلك فرصة حقيقية إذا استثمرت في مواردها البشرية والطبيعية. فلدينا أكثر من 45 مليون نخلة تنتج ملايين الأطنان من المخلفات الزراعية سنويًا يمكن تحويلها إلى وقود حيوي ببراءات اختراع وطنية. كما أن موقع سلطنة عمان على ساحل طويل يمتد لأكثر من 3000 كيلومتر يجعلها بيئة مثالية لأبحاث تحلية المياه بالطاقة الشمسية والرياح. وفي قطاع الهيدروجين الأخضر وحده، تشير التقديرات إلى أن عُمان يمكن أن تضخ استثمارات تتجاوز 20 مليار دولار حتى عام 2040، وهو ما يشكل منصة مثالية لتجريب حلول محلية بدلًا من الاعتماد الكامل على تقنيات مستوردة.

الخيار الآن ليس بين الاستيراد أو الابتكار فقط، بل بين أن تبقى عُمان مجرد سوق للتكنولوجيا الخارجية، أو أن تتحول إلى مُنتِج للتقنية عبر نموذج محلي مستدام. وإذا تحركت السياسات بشكل عملي، وتم تعزيز منظومة الملكية الفكرية، وربط الجامعات بالشركات، فإن سلطنة عمان قادرة على أن تبني قصتها الخاصة كما فعلت اليابان من قبل. إن «جيجيتسو كايهاتسو» ليس شعارًا، بل هو رسالة واضحة: كل ابتكار محلي غير مطبّق هو فرصة ضائعة، وكل براءة اختراع عُمانية تتحول إلى منتج هي خطوة نحو اقتصاد أقوى وأكثر استقلالية.

علياء بنت سعيد السعيدية - متخصصة في علوم هندسة الطاقة والمعلوماتية