No Image
عمان العلمي

كيف ينسجم وعينا البشري مع البنية الجوهرية للكون ؟

17 أبريل 2024
عوالم متعددة وظواهر غريبة.. ولكن ما مدى صحتها !
17 أبريل 2024

ترجمة: يعقوب المفرجي -

عزيزي القارئ، هل ثمة نسخ كثيرة منك يقرأون الآن نسخـًا كثيرة من هذه المقالة في عوالم كثيرة نسخة من هذا العالم؟ هل الوعي عنصر أساسي في كل مادة؟ هل يمكن أن يكون هذا الواقع مجرد محاكاة لنموذج حاسوبي؟ يا عزيزي: ها أنت بدأت تغمغم، وها أنا في كاليفورنيا بدأت أسمعك !

لا ألومك؛ فنحن بطبعنا ميّالون إلى رفض مثل هذه الأفكار لمجرّد أنها تبدو ضربًا من الخيال، غير أنّ عددًا من روّاد العلم والفلسفة في العالم يؤيدونها. لماذا ؟ وما عسى أن تكون ردة فعلك إزاء مثل هذه الفرضيات -على افتراض أنك من غير المختصين في هذا الشأن؟

عندما نصطدم بأسئلة جوهرية حول طبيعة الواقع سرعان ما تصبح الأمور «غريبة» ! وشخصيًا أقرّ -بحكم اختصاصي في الفلسفة الميتافيزيقية- بأنه لا مفر من هذه «الغرابة»، وأن من الأمور البالغة العجب ما يمكن أن يستحيل حقيقة !

ولا أرمي بقولي هذا إلى وضع جميع الفرضيات الشاذة في ميزان واحد، وإنما قصدت التنويه إلى أنّ بعض الاحتمالات وإن بدت غريبة إلا أنها تستحق أن تؤخذ على محمل الجدّ دون ما سواها؛ فعلى سبيل المثال قد تجد فرضيةَ الوحش «زورج المدمّر» المختبئ في مركز المجرّة والمنهمك في سَحب البروتونات بخيوط خفيّة فرضيةً مضحكةً لا يمكن أن تكون تفسيرًا لأي شيء البتة. لكننا نستطيع إعمال عقلنا لتمييز ما يستحق العناية الجادة من هذه الأفكار الخرافية في ظاهرها، حتى مع انعدام الاختبارات التجريبية الواضحة.

إذن، مربط الفرس أنّنا نستطيع جميعـًا التحلّي بالهدوء ووزن الأفكار غير المعقولة التي تتضارب في الذهن، ما دمنا مطمئنين إلى أننا لا نتوقع الوصول إلى استنتاجات متطابقة.

فلنبدأ بتوضيح ما يلي: نحن هنا نتحدث عن أسئلة عميقة جدًّا؛ أسئلة تتناول ركائز هذا الوجود وأسس فهمنا لتلك الركائز ذاتها: ما هي البنية الجوهرية للكون؟ وكيف ينسجم الوعي البشري مع تلك البنية؟

لا تنقصنا النظريات التي تتوخى الإجابة على هذا النوع من الأسئلة، بل ثمة فائض منها، بيد أنها تشترك في افتقارها إلى القابلية للاختبار بطريقة مباشرة وواضحة، فضلًا عن أنّ ذلك متعذّر في الأمد المنظور، وهنا بالتحديد تكمن الغرابة وتسود الحيرة.

وإنني على وجه التحديد أرمي بكلامي هذا إلى أنّ كافة محاولات التعبير عن البنية الأساسية للوجود – مهما اتسع نطاق هذه المحاولات ومهما بلغت رصانة منهجنا فيها – تظل حتمـًا أسيرة الغرابة والتشكيك؛ أسيرة الغرابة لمناكفتها صريح العقل، وأسيرة التشكيك لما يحيط بها من شكوك منطقية. وقد جعلتُ هاتين الفرضيّتين «الغرابة الكونية» و«المشكوكية الكونية» المتعلقتين بعناصر أساسية من عناصر الميتافيزيقا وعلم الكون محورًا لكتابي الأحدث (غرابة العالم).

«البعض يتنازل بسرور عن المنطق السليم إذا نتج عن ذلك فرضية ذات شوائب أقل»

لك أن تتفكّر مثلًا في ميكانيكا الكم؛ فبين أيدينا جملة من المعادلات التي تصف سلوك الجسيمات دون الذرية التي تشكل المادة، بالإضافة إلى القوى التي تتفاعل من خلالها، فمع أنّ ذلك السلوك معروف بغرابته إلا أنّ معادلات ميكانيكا الكم ذاتها لا يحوم حولها الشك بعد أن اجتازت كل اختبار تجريبي أخضعناها له.

ولن نكتشف ما يحيط بهذه المعادلات من غرابة وشك إلا عندما نحاول تقييم ما يُقال لنا عن طبيعة الوجود؛ فعلى سبيل المثال تشير بعض النظريات إلى أنّ مجرّد ملاحظة جسم كمّي كفيلة بالتسبب في انهيار دالّـته الموجية - أي شقه الرياضي المسؤول عن تشفير احتمالات النتائج الممكنة جميعـًا. ووفقـًا لهذه النظريات تبقى الأجسام الكميّة في ضباب كمّي، حتى إذا شرعنا في مراقبتها تحوّلت إلى موجود حقيقي محدود بحدود معهودة!

وتوضح التجربة الفكرية «قطة شرودنجر» غرابة هذا الرأي، وفحواها أنّ قطةً محشورةٌ داخل صندوق وبمعيّتها سُـم، ولكن لا نعرف هل أعمل السُّـم فيها عمله أم لا؛ فالقطة كائنة في حالة «متداخلة» بين الحياة والموت إلى أن يحدّق شخص ما داخل الصندوق فيؤذن بانهيار الدالّـة الموجية.

في هذا السياق، تقول نظرية «الانهيار الموضوعي»: إنّ تحويل الدالّـة الموجية إلى نتيجة واحدة في غنى عن الاتّكال على الملاحظة البشرية، وترى أن التحوّل إنما هو محض صدفة؛ فمن حيث المبدأ - وإن استُبعِد ذلك - يجوز أن تبقى قطة شرودنجر في الحالة المتداخلة بين الحياة والموت حتى بعد ملاحظتنا لها. ولكن في الجانب الآخر تزعم نظرية «الميكانيكا البومية» - نسبة إلى عالم الفيزياء ديفيد بوم - أنّ المسؤول عن تحديد النتائج في الأنظمة الكمية هي «موجة تجريبية» تفوق سرعتها سرعة الضوء.

وكذلك ثمة نظريات تتنبّأ بعدم وقوع أي انهيار للدالّـة الموجية ألبتّة؛ فوفقـًا لنظرية «العوالم المتعددة» يبقى القط دائمـًا في الحالة المتداخلة بين الحياة والموت، وحين نفتح غطاء الصندوق فإننا نصبح جزءًا من تلك الحالة المتداخلة، وعليه يستحيل وجودنا - منذ تلك اللحظة - إلى إحدى حالتين محتملتين: نسخة منـّا ترى القط حيـًّا ونسخة تراه ميتـًا، ثم تمضيان في طريقهما إلى «عالمين»: عالم القط فيه ميت مع ما يترتب على ذلك من تبعات، وعالم القط فيه حيّ.

هذا الانقسام في العوالم شائع جدًّا، ويحدث على سبيل المثال في كل مرة تقريبـًا ينفذ فيها فوتون من خلال نظارة شمسية غير عاكسة للضوء؛ لذلك تزعم نظرية «العوالم المتعددة» وجود نسخ كثيرة جدًّا شبه مطابقة لك تقرأ حاليـًّا نسخـًا كثيرة جدًّا شبه مطابقة لهذه المقالة في عوالم عديدة متوازية.

قد يبدو لك هذا الأمر غير معقول أبدًا، ويمكن أن يُقال مثل ذلك عن جميع نظريات ميكانيكا الكم الأخرى، وهذه هي النقطة التي نقصدها. هذه النظريات جميعها غريبة ويعروها الشك من جوانب أخرى ولأسباب مختلفة. وغرابة العديد من العوالم لا يمكن أن تنتصب دليلًا حاسمـًا ضدها؛ فلا يوجد في هذه الآونة ولا حتى في الأفق القريب تفسير خالٍ من الغرابة.

ولا يفترض بنا أن نُفاجأ بذلك؛ فقد نضج لدينا المنطق السليم ليعيننا على التفاعل مع العالم كما نراه بما يحويه من عناصر متوسطة الحجم متدنية السرعة، والحقيقة أنه لا يجدر بنا أن نتوقع من هذا المنطق فوق هذا الحد.

وفي المقابل لسنا ملزمين بأي من هذه النظريات، خصوصـًا وأنه ليس بمقدورنا في الأمد المنظور أن نخضعها لاختبار تجريبي حاسم من شأنه أن يجيب على السؤال بنحو واضح ومباشر.

لذا لا بد أنّ ثمة ما هو صحيح بشأن عالم الكم، لكن ما الصحيح من بين الاحتمالات السابقة التي تبدو منافية للعقل؟ الحقيقة أننا لم نبلغ بعد مرحلة الكشف عن ذلك، مع أننا وصلنا إلى تخوم العلم والفلسفة، وهذا يضعنا جميعـًا - مختصين أو غير مختصين - في الظرف ذاته.

لكن فلنتوقف قليلًا هنا؛ فبعض النظريات يمكن بنحو طبيعي التدليل عليها بأدلّة تجريبيّة، ولكل منها مزاياه كأن تكون بسيطة ومستساغة ومفيدة في اقتراح توجهات بحثية جديدة، وعليه يمكن أن نبني على هذه الأسس لمقارنة النظريات الغريبة واختيار أنسبها.

فعلى سبيل المثال تتعارض نظرية «العوالم المتعددة» تعارضـًا صارخـًا مع المنطق العام أكثر من أغلب نظريات ميكانيكا الكم الأخرى. وما دمنا ملزمين بالشروع في التفكير انطلاقـًا من نقطة ما فهذه النظرية مناكفة لهذا المنطق تمامـًا، فلا بد أن نستفيد من مزايا كسر جدار المنطق العام.

وفي المقابل تتسم نظرية «العوالم المتعددة» بأنها مستساغة، فلا خوف معها من انهيار أي دالة موجية، ومن ثم لا داعي لنموذج يفصّل ما الذي سيحدث أثناء الانهيار، بل ويمكن القول إنها تتواءم مع الأدلة التجريبية تواؤُمـًا طبيعيـًّا أكثر من التصوّرات الأخرى لخلوّها من أي عمليات «انهيار» فكرية لا تزال مجهولة.

وعلى النقيض من هذه النظرية ثمة احتمال دائم بوقوع انهيار ما دامت نظريات الانهيار الموضوعية قائمة، ومع ندرة ملاحظة الانهيار في التجارب على الجسيمات المنفردة إلا أنه شائع إلى حد الثبات تقريبـًا في الأنظمة الماثلة للعيان. ومن النظريات ما يعزو الانهيار إلى فعل «الملاحظة» ذاته؛ ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي «الملاحظة»؟ ولماذا عساها أن تتسبب في حدوث انهيار؟

مهما بدت هذه التصوّرات غريبة بيد أنها ليست بغرابة نظرية «العوالم المتعددة»، ومن جهة أخرى تؤدّي المزاعم الفكرية بشأن «الانهيار» إلى الحد من بساطة هذه التصوّرات وسوغِها من حيث قابليتها للاختبار التجريبي، ولكنها مع ذلك أبسط من نظرية «العوالم المتعددة» من جهة منعها لتكاثر العوالم، وهذا – من منظور ميتافيزيقي - كفيل بأن يقلل من شوائبها.

سأترك لك عزيزي القارئ الموازنة بين هذه المزايا المتنافسة؛ خصوصـا أن بعضنا يتنازل بسرور عن المنطق السليم إذا نتجت عن ذلك فرضية ذات شوائب أقل، في حين أن بعضنا الآن يتشبث به بعناد حتى يُجبَر على تغيير رأيه، وعمومـا هذا الأمر محل خلاف معقول بين المختصين وغير المختصين في العلوم وفق معايير معيّنة.

هذه المعايير مهمة؛ ففكرة وجود «زورج المدمر» الذي يتسبب في انهيارات كميّة من مخدعه في قلب المجرة -على سبيل المثال- ليست فكرة ذات بال، فلا بد أن تنظر إليها بعين الريبة. ولكن عندما يتعلق الأمر بنظرية «العوالم المتعددة» فلك أن تستوعب البناء العام للاعتبارات المتنافسة حتى تصل إلى تخمينك المدروس.

هذا الخط من التفكير يمكن تطبيقه أيضـا على فكرة «الروحية الشاملة» التي تزعم أن الوعي مكوّن أساسي لكل مادة؛ فهو حاضر على الدوام وليس شيئـا جديدا يطرأ عند تجميع المادة بالنحو الصحيح وحسب.

وعادة يستند المؤمنون بهذه الفكرة إلى سببين: أولًا أنه من غير الواضح تمام الوضوح أنّى لأمرٍ غايةٍ في التفرّد كالمعاينة الواعية للون خالص يمكن أن ينشأ من مادة فيزيائية رتيبة. وهنا تقدّم لنا «الروحية الشاملة» حلًّا؛ فإن كان لكل المواد قدر يسير من الوعي سيسهل علينا فهم كيفية تضافر هذه المقادير اليسيرة لتشكّل الوعي المعقّد كما نعرفه اليوم.

وبالطبع ثمّة طرق بديلة لشرح الوعي، من قبيل فكرة «ثنائية الجوهر» التي تزعم أن العقل والمادة متباينان تمامـا؛ فطريقة أولى ترى أنّ كلَّ شيء ماديٌّ بأصله ومعناه أنّ الوعي ينبثق بطريقة ما من مكوّن فيزيائي اعتيادي، وطريقة ثانية تقوم على فكرة الوهم، وتقول إن مفهوم الوعي بحد ذاته مفهوم غير علمي. ويبقى أنّ كل من هاتين الطريقتين متورط بمشكلاته.

والسبب الثاني الداعي لتصديق فكرة «الروحية الشاملة» هو صعوبة رسم الخط الفاصل بين الكائنات الحية أو الأنظمة الواعية والأنظمة غير الواعية. ومنطقيـا سنجد أنفسنا أمام أربعة خيارات: 1) كل شيء له وعي (كما تزعم «الروحية الشاملة»)، 2) لا شيء له وعي، 3) هناك خط واضح يفصل الأنظمة الواعية عن الأنظمة غير الواعية، 4) هناك خط ضبابي يفصل الأنظمة الواعية عن الأنظمة غير الواعية. وفي حال ظهر تعارض بين الخيارات الثلاثة الأخيرة فلا بد أننا سنفضّل «الروحية الشاملة» عليها. تتوخّى فلسفة «الروحية الشاملة» بأسلوب مستساغ فك لغز انسجام الوعي مع العالم المحسوس.

من المفترض أنك تعلم أنك كائن واعٍ، وهذا كفيل باستبعاد خيار أنْ «لا يوجد شيء له وعي». ومن جهة أخرى لا يسوغ نظريـا ولا يتسنّى تجريبيـا رسم خط واضح يفصل الكائنات الواعية من الكائنات غير الواعية لأن الكائنات الحية موجودة على «متصل نفسي سلوكي»؛ فهذا يلغي خيار الخط الواضح الفاصل. وكذلك يصعب فهم وجود خط ضبابي يفصل الأنظمة الواعية عن الأنظمة غير الواعية، بل ما مغزى قولنا إن ذاك النظام أو هذا النظام واعٍ «إلى حد ما»، أي يقف على الحد بين أن يكون ذا كينونة ملموسة وفي الوقت ذاته ليس ذا كينونة ملموسة؟ إذن فاستبعاد هذه الخيارات ثلاثتها يتركك أمام «الروحية الشاملة» وحدها.

هذا الاستنتاج الأخير -مع ذلك- يمكننا دحضه أيضـًا باستعمال المنطق؛ ففي بحثي دافعتُ عن وجود خط ضبابي بين الأنظمة الواعية والأنظمة غير الواعية، فالأسلم أن نقبل بأن بين اللاكينونة وبعض بصيص من الكينونة يقبع «شيء نصفي» لا هو بالشيء ولا هو باللاشيء؛ علينا قبول ذلك حتى وإن عسر بل واستحال تصوره.

لاحظ أني عبّرت عن الفكرة تعبيرًا يناقض نفسه لأجل إظهار ضعف قابليتها للانسجام مع تصوّرنا للوعي. وحالما نتخيّل أن موجودا ما له وعي فإننا نتخيّل أنّ له شيئـا من الوعي أو غيره مهما كان غامضـا أو ضئيلا، وإلا ما تصوّرناه واعيـا ألبتّة. وأنا هنا مدرك لما يدخل الشك في قلوب الناس حول فكرة الخط الضبابي.

لاحظ كيف نحدد اختياراتنا... أؤكد هنا مجدّدًا أننا تجاوزنا المنطقة التي نحتكم فيها إلى المعرفة والخبرة للإجابة على السؤال، ولكل منا الحق في إعمال فكره باستقلال ضمن جملة من الخيارات المنطقية.

تسعفنا فلسفة «الروحية الشاملة» بالأساس المستساغ للتعامل مع مسألة كيفية انسجام الوعي مع العالم المادي، ومسألة كيفية رسم حد فاصل بين الموجودات الواعية والموجودات غير الواعية. وعلى غرار نظرية «العوالم المتعددة» تضغط «الروحية الشاملة» بكل ثقلها على المنطق السليم دون أن تفقد بساطتها الجذابة.

حقائق خضعت للمحاكاة

بقي لدينا سؤال واحد من الأسئلة الثلاثة التي طرحناها في صدارة هذه المقالة: كيف نحاكم الفكرة القائلة بأن هذا الوجود ما هو في حقيقته إلا مجرّد محاكاة حاسوبية؟

لا يخفى أن الطريق لا تزال طويلة قبل أن نكوّن نظريّة علمية متفقـا عليها بخصوص طبيعة الوعي، ولكن ثمة عدة تفسيرات وجيهة ترى أنه من الممكن -على الأقل من حيث المبدأ- تكوين وعي في أنظمة ذكاء اصطناعي. فإن اقتنعت بأن الفرص تتضافر -على الأقل من حيث المبدأ- لنشوء مثل هذا الوعي في مكان ما يومـا ما باستخدام تقنية معيّنة فلا يبعد أن تستسيغ أيضـا أن بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه تعيش حياة كاملة ضمن بيئات محاكاة تستقبل مدخلاتها من مخرجات مُحوسبة، أي بنحو يشبه تقريبـا تجربة الإنسان عندما يرتدي نظارات واقع افتراضي، فأنظمة الذكاء الاصطناعي هذه موجودة ضمن سياق محاكاة رغم أنها قد لا تعرف ذلك.

إذا وافقنا على هذين الاحتمالين سيكون لدينا أساس لنتساءل إذن: هل ثمة الكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه؟ وعندها سنتساءل أيضـا: هل منظومتنا واحدة منها؟

بالطبع، هذا التصوّر هو الآخر له أساس يدحضه؛ فلعله ما من نظام ذكاء اصطناعي يمكن أن يكون ذا وعي أبدًا، وحتى إن وجدت أنظمة ذات وعي حقيقي تعيش في عوالم محاكاة فلا يبعد أن تكون باهظة الثمن إلى حد يثني خبراء التصميم التقني عن الشروع في إنشائها. ولعل عدم اطلاعنا على أي خلل في وجودنا ينطوي على أدلّة تجريبيّة تنفي فرضية المحاكاة.

ولا يمنع كذلك أن تكون هذه الأنظمة الواعية التي تعيش في الواقع الافتراضي غير مكلفة نسبيا للمجتمعات المتقدمة جدا، فقد يُـنشئها المصممون لأغراض علمية وترفيهية، أو لأنهم يرون داعيـا أخلاقيـا وراء إنشاء عوالم ذات حياة حافلة وهادفة.

مع تضافر هذه الاحتمالات نستبعد تمامـا فرضية أن يكون عالمنا مجرد محاكاة حاسوبية. ولكن لأن عالمنا لا يتداخل مع حدود «زورج المدمر» فهذه الاحتمالات تبقى غير بعيدة أو سخيفة إلى حد الرفض، بل ربما علينا أن نكون واثقين بنسبة 99.9 بالمائة من أنّ عالمنا هذا ليس محاكاة، وتخطئة هذه الفرضية بنسبة ثقة تبلغ 99.999999 بالمائة أمر يصعب تبريره نظرًا لجهلنا حتى اللحظة بمفهوم الوعي وأساسيات علم الكون، ونظرًا كذلك لما يحيط بجميع النظريات المتعلقة بهذا المجال من غرابة وشكوك.

في هذه اللحظة قد تتساءل عما إذا كنا سنسلس القياد لهذه الربكة والفوضى، وهل من أمل أساسـا للوصول إلى كنه ميكانيكا الكم؟ أو إلى معرفة الأسس الجوهرية للوعي؟ أو ما إذا كان عالمنا الذي نعيش فيه ما هو إلا مجرد محاكاة حاسوبية؟

ليس من الضروري أن نصل إلى الإجابات المطلوبة، ولكن العلم سيكفينا مؤونة الأسئلة التي استغلقت قديمـا وبدت كأنها خلقت من غير جواب، وما بدا غريبـا في السابق قد يصبح مريحـا ومألوفـا يوما ما. وريثما ننتظر ظهور أدلة تجريبية جديدة مؤكِّدَة أو داحضة لنظرية «العوالم المتعددة» أو لفلسفة «الروحية الشاملة» لا بأس أن نستمتع باستكشاف ما نجهل، والاحتفاء بالخيارات اللامتناهية وبما ينطوي عليه عالمنا من غرائب، وإلا من ذا يطيق وجودا رتيبـا مملّا خاليـا من الاحتمالات الميتافيزيقية الغريبة التي يمكن أن يسبح فيها العقل؟!

إريك شويتزجيبيل ،خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»