No Image
عمان العلمي

حكايات نقلتها «أيادٍ» منذ أربعين ألف عام!

17 أبريل 2024
17 أبريل 2024

أربعون ألف عام وطبعات يد الإنسان القديم في كهف الكاستيلو باقية كأنها طُبعت حديثا. كان العلماء أمام مشهد مهيب، إذ يسرد لنا هيرميليو ألكالد ديل ريو أثناء اكتشاف الكهف ويقول: «خيّم على المكان الصمت إذ لم نعُد نسمع إلا ضجيج عقولنا من دهشة ما رأينا، ومن أقصى زاوية الكهف وبعد تخمة من الصمت، هناك صوت تينوري يقول: بماذا نُفِّذت هذه اليد؟ وما هي الدوافع التي جعلته يرسم هذه اليد؟ هكذا كان لسان حال البعثة الأثرية التي نقّبت في كهف الكاستيلو».

لنفهم المشهد بوضوح.. علينا أن نعود إلى الحقبة التي طبعت فيها هذه الأيادي على جدران الكهف، الحدث يعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط، الذي يرجع تاريخه إلى ما بين 100000 و35000 قبل الميلاد، وهذا العصر «شهد حدثين مهمين جدا، شغل النصف الأول منه ظهور وسيادة إنسان النياندرتال وظهور ثقافته الحجرية الموسترية، وما رافق ذلك من ظهور بدايات الاهتمام بالموت وما وراء الموت (الإسكاتولوجيا)، بصيغة الاهتمام بدفن الإنسان وبواكير التفكير في عالم ما بعد الموت، لكن هذه التحولات لم تبدأ مباشرة، فقد ظلت تقاليد الأدوات اللفلوازية [نسبة إلى بلدة ليفيلو القريبة من باريس] قائمة وتلاحمت مع بدايات الأدوات الموستيرية [نسبة إلى موقع موستييه في حوض الدوردون بفرنسا]، وكان هناك ما يسمى بالأدوات اللفلوازية - الموستيرية التي شكلت العصر الحجري القديم الأوسط. أما النصف الثاني من العصر فقد شغله ظهور الإنسان العاقل الحفري، الذي ابتكر الأدوات والثقافة العتيرية [نسبة إلى بير العتير في الجزائر شمال عنَّابة]». (خزعل الماجدي، حضارات ما قبل التاريخ). وهذا يعني بأن طبعات اليد في تلك الفترة تشي بدرجة لا بأس بها من التعقل الذي يحمله الإنسان القديم، في حين يذهب بعض المهتمين بعلم الحضارة والآثار إلى أن هذه الرسومات هي أقرب إلى شخبطات الأطفال غير المفهومة، وهذا الرأي قد لا يتفق مع التكرار والانتشار، ولا مع الدقة التي رسمت بها العديد من هذه الرسومات.

النصف الثاني من العصر الحجري القديم الوسيط هو منطلق حديثنا في هذا المقال، إذ سادت في هذه الحقبة «الثقافة العتيرية»، وفيها ظهر الإنسان الحفري الذي حل مكان إنسان النياندرتال، إذ يذهب بعض الباحثين إلى أن الإنسان الحفري هو من قضَى على إنسان النياندرتال، نظراً لما يملكه من مقومات عقلية بنائية أفضل من غيره. ويذكر خزعل الماجدي عن الثقافة التي أسسها الإنسان الحفري فيقول: «تتضمن الصناعة العتيرية ابتكارات تقنية تخص نحت الوجهين الرقيق، الناتج عن تهذيب الرأس المدبب والساق للأدوات الحجرية، وكذلك الأدلة على وجود الحليّ الشخصي واستخدام المغرة الحمراء، ويعتقد أن استعمال علامات أغلفة الخرز يشير إلى معتقدات رمزية»، بالعودة إلى اكتشاف هيرميليو ألكالد ديل ريو نجد أن الإنسان استخدم مادة المغرة حتى يحفظ ما يريد أن يوصله من طبعات اليد داخل الكهف. والمغرة ناتجة من فعل كيمائي مركب قام به الإنسان القديم، وهو ما يعني أن هذا الفعل -طباعة اليد- يحمل نظرة واعية؛ لاسيما نحو المستقبل.

لماذا «اليد» تحديدًا !

لم تكن طبعات اليد في كهف الكاستيلو إلا الوجبة الأولى التي فتحت شهية العلماء، ثم بدأت تتوالى الاكتشافات حول رمز اليد، معلنةً بذلك عن لغز جديد في مجال علم الحضارة. اليوم؛ يشكل رمز اليد رقما لا بأس به من مجمل الرسوم الصخرية، حيث ينتشر في رقعة كبيرة من العالم. فعلى سبيل المثال، في جدران كهف جارجاس بفرنسا عُثر على عدد كبير من رسوم اليد، وكذلك في لاس مانوس في باتاجونيا بالأرجنتين، وكهف كينيف في أستراليا. وفي منطقتنا العربية؛ يكاد لا يخلو بلد من هذا الرمز، حيث يوجد في عسير بالمملكة السعودية، وفي المناطق الشمالية للجمهورية اليمنية. وفي شبه الجزيرة العمانية؛ يوجد الكثير من رسوم اليد على سلسلة جبال الحجر، لكنها لم تحظ بدراسة مكثفة حتى اليوم، بيد أن الدراسة التي قام بها ناصر الجهوري وعلي الماحي حول الرسوم الصخرية في وادي الجفر بسلطنة عمان ذات دلالة ومعنى من الأهمية بمكان، حيث تطرقت الدراسة إلى رمز اليد في وادي الجفر، وأشارت إلى أن عدد رسوم اليد تشكل نسبة 21.61% من مجموع الرسوم الموجودة في وادي الجفر، وهي نسبة كبيرة إذا ما قارناها بغيرها من الأماكن التي يوجد فيها رمز اليد. الدراسة تتحدث عن صعوبة تفسير الرموز في الوادي، ومنها رمز اليد بكونها متفرقة وغير مفهومة، تقول الدراسة في هذا الصدد: «ازدادت حيرتنا ولم نجد معنىً مفيدا لهذه الرسوم. فسمات هذه الرسوم الصخرية هو انعزال كل رسم عن الرسم الآخر، ولا رابط بينهما. وتكثر فيها رسوم اليد والقدم البشرية، وتكثر كذلك فيها رسوم لا نملك إلا أن نسميها رموزا ثقافية».

إن مفتاح تطور أسلافنا من البشر هو التغيرات التكيفية التي خضعت لها اليد، فعلى الرغم من صعوبة تحديد ما يعنيه رمز اليد، إلا أن عددا من الباحثين كتب عنه، وذكرت الدراسة السابقة بأن الباحث ولسن -أحد علماء الحضارة- لديه محاولة في تفسير الرمز، فيقول: «إن استعمال اليد البشرية أسهمت في تشكيل العقل واللغة والثقافة؛ فبداية هذا الإسهام، كان في مقدرة الإنسان عن جميع الكائنات الأخرى. وحركة الإبهام في اليد البشرية يسّرت صناعة الأدوات في العصر الحجري القديم. ثم تبع ذلك أن الحركة المرنة التي تقوم بها يد الإنسان، أصبحت وسيلة للإيماء، كوسيلة رمزية لبيان الأشياء وإيضاحها، ثم توجيه المخاطبة بواسطة حركة اليد». وكان أوج هذا الطرح وخلاصته، أن الباحث ولسن في مقولته بيّن أن دور اليد يستند على «جمع اليد والعقل»، أي تقدم وتطور العقل واليد، مما أسهما في الدفع باللغة والثقافة. ومن ناحية أخرى تجد رمزية اليد في المجتمعات الإنسانية أهمية عظيمة، الأمر الذي دفع أن يقول الفيلسوف هيدجر ويدعمه الباحث ماك نيل: إن «الأصل في التفكير هو اليد وليس المفكر».

يدٌ واحدة.. وألف معنى

برأيي هناك اختلاف في أصل معنى الرمز من شعب إلى آخر، ولا أرى بأن هناك دافعا عالميا مشتركا بين البشر يجمعهم في طباعة أو نقش ذات الرمز، فقد يكون شعب ما متعلقا بطقس الصلاة والدعاء، وممن يرجحون هذه الفكرة الباحث أحمد أشرتي في بحثه «رموز اليد والقدم من الفن الصخري إلى القرآن الكريم» ويقول: «إن الأهمية الدينية للفن الصخري في شمال إفريقيا والجزيرة العربية معروفة على نطاق واسع، لكن قراءة المعاني الدينية لهذا الفن تختلف، اعتمادا على ما إذا كان التركيز ينصب على الوظيفة الطقسية، أو المعنى النفسي، أو الأهمية البنيوية للفن المختار». وأيضا الباحث ربط الرمزية الدينية للرقم خمسة بالرمز وقال: «للمسلمين خمسة صلوات في يومهم، والتوراة شريعة بني إسرائيل، تتكون من الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم، والتي تسمى أيضا أسفار موسى الخمسة»، وفي مواضع أُخرى ربط الباحث الرقم خمسة بأمور حياتية مختلفة وأسقطها على رمز اليد، كعدد الفضائل الأساسية لدى الصينيين وهي: التعاطف، والعدالة، والأدب، والمعرفة، والإخلاص، وعدد السلالم الموسيقية وعدد الرياضات الأولمبية اليونانية والنجمة الخماسية التي تتبنها بعض الدول شعارا لها. وأما لدى شعب الأزتك فإن اليد ترمز إلى السلام الذي جاءهم منذ الخلق الأول، وبعدها أصبحت هذه اليد أساسا للقتل والنزاع والحقد والسرقة.

وفي هذا الجانب يرى والدي خميس بن راشد العدوي أن من الأهمية الربط بين هذه الرسومات والدلالات الدينية الواردة في الكتب الدينية؛ وفي مقدمتها القرآن الكريم، إذ يقول عندما سألته عن رأيه: (لقد ذهبت رمزية الأيدي في بطن التاريخ، وما لم تقدم دراسات قائمة على اكتشاف المزيد من الآثار، وخاصة أقدم الألواح الكتابية التي خلّفتها البشرية؛ فإن الكتب الدينية تحتوي على مادة مهمة، لابد من تحليلها، وهنا أشير إلى بعض دلالات «اليد» في القرآن بما يتعلق بمقام الألوهية، فهي قد جاءت دالة على كرم الله الواسع، وجاءت بمعنى أن الله لا يخلف العهد. فعند دراسة رمز اليد دينيا فلا ينبغي استبعاد الكتب الدينية مثل القرآن، لأن القرآن قد تحدث عن الأمم السابقة).

إذا؛ لليد مكانة عميقة لدى الإنسان، فهي لغة المخاطبة، ومنها يبدأ السلام، وبها ترفع الجلسات، والمثل يقول: «يداه خوات» بمعنى يداه ماهرتان ويتقنان العمل ويصلحان ما فسد، ويقول ابن منظور في معاني اليد: «النعمة والإحسان، الجاه والقدر، القدرة والسلطان، الندم والذلّ، الجماعة، الأكل» فالدور التي تقوم به اليد في حياتنا يعكس جليا واقع ما نراه من انتشار رمز اليد حول العالم. وتقول العرب هذه «يد كبيرة» بمعنى العطاء والكرم، وهذه «يد شحيحة» بمعنى البخل والإمساك، وأقول عن رمز اليد «يدٌ كبيرة وشحيحة»، فقد منحنا الرمز إمكان استنتاج المعاني، وبخل علينا بالوصول إلى الدلالات المادية التي ترتبط بالرمز. وبالنسبة لي، فإن ذلك هو الجانب الغامض للرمز، الذي جعل القلم لا يعرف نقطة أخر السطر.

عبدالرحيم بن خميس العدوي باحث في شؤون الآثار