تاريخ الخصوصية : من شيفرة قيصر إلى ملاذات رأس المال المشفر
20 أغسطس 2025
20 أغسطس 2025
بيشوي قليني-
تُعدّ الخصوصية، في جوهرها، أحد الأسس التي تقوم عليها فكرة الحرية الفردية، إذ تُمكِّن الإنسان من التحكم في بياناته الشخصية ومعلوماته الحساسة، وتحديد من يملك حق الاطلاع عليها وكيفية استخدامها في المجالين العلمي والتقني، ترتبط الخصوصية بعلوم التشفير، وأنظمة الحماية، والهيكليات القانونية التي تنظّم تدفق المعلومات. غير أنّ هذا المفهوم، الذي يبدو في ظاهره محايدًا وأخلاقيًّا، لم يكن يومًا خارج السياقين الاجتماعي والاقتصادي الذي ينشأ فيه. فالخصوصية ليست مجرد مسألة تقنية، بل هي كذلك مسألة سلطة، تخضع لميزان القوى بين من يملكون القدرة على فرضها ومن يُجبرون على التخلي عنها.
على امتداد التاريخ، وُظّفت تقنيات الخصوصية بطرق متناقضة. ففي حين استُخدمت لحماية المعارضين السياسيين والصحفيين والمواطنين من القمع والرقابة، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى أداة بيد النخب الاقتصادية لحماية الثروات، وإخفاء المعاملات، والتحايل على الأنظمة الضريبية. من الشيفرات اليدوية في العصور القديمة، مرورًا بالأنظمة البنكية السرية في القرن العشرين -خاصة في سويسرا وملاذات ضريبية أخرى- وصولًا إلى العملات الرقمية في القرن الحادي والعشرين، نجد خيطًا مشتركًا: توظيف السرية لصالح من يملكون القوتين المالية والسياسية.
ومع الثورة الرقمية، برزت العملات المشفرة كرمز لعصر جديد من الخصوصية المالية، مبني على أسس رياضية متقدمة مثل التشفير بالمفتاح العام وسلاسل الكتل (Blockchain). هذه التقنيات وعدت بإعادة توزيع السلطة المالية ومنح الأفراد قدرة أكبر على التحكم في أموالهم بعيدًا عن البنوك المركزية، لكنها سرعان ما جذبت الشركات الكبرى، وصناديق الاستثمار، والأثرياء الذين وجدوا فيها وسيلة مثالية لنقل الأصول عبر الحدود دون قيود، وإخفاء حجم الثروات بعيدًا عن أعين السلطات.
إن التناقض بين الخطاب التحرري لتقنيات الخصوصية والواقع العملي لا يمكن فهمه إلا من خلال قراءة تاريخية واقتصادية متعمقة، تضع هذه الأدوات في سياقها الطبقي وتفكك علاقتها بتراكم رأس المال. وهذا ما يسعى هذا المقال إلى استعراضه.
الخصوصية عبر التاريخ: من الشيفرات القديمة إلى البنوك السرية
لم تكن الخصوصية يومًا مفهومًا مستحدثًا ارتبط بعصر الحواسيب أو الإنترنت، بل هي فكرة متجذّرة في التجربة الإنسانية منذ آلاف السنين. ففي العصور القديمة، لجأ القادة والعسكريون والتجّار إلى ابتكار وسائل لإخفاء محتوى رسائلهم عن الأعين غير المرغوب فيها. ولعلّ أحد أقدم الأمثلة على ذلك هو شيفرة قيصر، التي ابتكرها يوليوس قيصر في القرن الأول قبل الميلاد، وتعتمد على إزاحة الحروف في الأبجدية بمقدار ثابت، ما يجعل النص غير مفهوم إلا لمن يعرف «مفتاح» الإزاحة. ورغم بساطة هذه الطريقة بمقاييس اليوم، فإنها كانت آنذاك أداة فعّالة لحماية المعلومات الاستراتيجية.
مع تطور الحضارات، ازداد تعقيد وسائل التشفير. ففي العصور الإسلامية الوسيطة، برع العلماء في تطوير تقنيات تحليل الشيفرات (Cryptanalysis)، كما في أعمال الفيلسوف والعالم العربي الكندي، الذي وضع أسس كسر الشيفرات عبر تحليل تكرار الحروف، وهو ما يعدّ نقلة نوعية في تاريخ أمن المعلومات. هذه المرحلة تكشف أن الخصوصية كانت دائمًا ساحة صراع بين من يسعى لحماية المعلومات ومن يحاول كشفها.
في القرن العشرين، ومع اندلاع الحروب العالمية، أصبح التشفير مسألة أمن قومي. اشتهرت آلة إنجما الألمانية، التي استخدمتها النازية لتأمين اتصالاتها العسكرية، قبل أن ينجح فريق بقيادة عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينج في فك شيفرتها، مما ساهم في تغيير مسار الحرب. وهنا نرى بوضوح كيف يمكن لتقنيات الخصوصية أن تصبح أداة في صراعات سياسية واقتصادية كبرى.
غير أن التحوّل الأهم في مفهوم الخصوصية، وخاصة في المجال المالي، جاء بعد الحرب العالمية الثانية مع صعود السرية البنكية السويسرية. فقد سنّت سويسرا قوانين صارمة تحظر على البنوك كشف أي معلومات عن حسابات عملائها، تحت شعار حماية «خصوصية» المستثمرين. لكن هذه السرية لم تكن متاحة للجميع على قدم المساواة؛ بل كانت في الغالب ملاذًا للنخب الاقتصادية، ورجال الأعمال، وأحيانًا الحكّام المستبدين، لإخفاء أموالهم بعيدًا عن الضرائب أو المساءلة القانونية.
لاحقًا، ظهرت الملاذات الضريبية في جزر العذراء، وكايمان، وبرمودا، لتؤسس منظومة عالمية من السرية المالية. هذه المنظومة جمعت بين الأدوات القانونية والبنية المصرفية لتوفير حماية شبه مطلقة لرؤوس الأموال، بعيدًا عن أعين سلطات الضرائب أو الصحافة. ومع نهاية القرن العشرين، كان من الواضح أن «الخصوصية» لم تعد مجرد قيمة أخلاقية أو حق فردي، بل أصبحت أداة استراتيجية في يد الرأسمال العالمي لتراكم الثروة وتجنب إعادة توزيعها.
التشفير والعملات الرقمية:
التطور العلمي والتقني
شهد النصف الثاني من القرن العشرين طفرة نوعية في علم التشفير (Cryptography)، مع انتقاله من النطاق العسكري والاستخباراتي إلى المجالين المدني والتجاري. كان الاكتشاف المفصلي هو التشفير بالمفتاح العام (Public Key Cryptography) الذي ظهر في سبعينيات القرن الماضي، والذي أتاح لأول مرة تبادل معلومات مشفرة بين طرفين دون الحاجة إلى مشاركة مفتاح سري مسبقًا. يقوم هذا النظام على مبدأ رياضي بسيط في جوهره، لكنه قوي للغاية في التطبيق: لكل مستخدم مفتاحان، أحدهما علني يمكن للجميع معرفته، والآخر خاص لا يعرفه سوى صاحبه. تُشفَّر الرسائل بالمفتاح العلني، ولا يمكن فكها إلا بالمفتاح الخاص، والعكس صحيح بالنسبة للتوقيعات الرقمية.
هذا الابتكار، القائم على مسائل معقدة في نظرية الأعداد مثل تحليل الأعداد الصحيحة الكبيرة إلى عواملها الأولية، أسس البنية التحتية للأمان الرقمي الحديث، من التجارة الإلكترونية إلى الاتصالات المشفرة. ومع دخول الحواسيب الشخصية وانتشار الإنترنت، أصبح التشفير أداة أساسية لحماية المعاملات المالية والبيانات الحساسة.
غير أن النقلة الأكثر تأثيرًا جاءت مع نشر الورقة البيضاء لعملة البيتكوين في عام 2008، على يد شخصية أو مجموعة مجهولة تُعرف باسم «ساتوشي ناكاموتو». دمجت هذه العملة بين عدة تقنيات رياضية وبرمجية، أهمها سلسلة الكتل (Blockchain)، وهي دفتر أستاذ عام موزع يُسجَّل فيه كل تعامل بطريقة مشفرة، مع صعوبة بالغة في التلاعب بالسجلات بفضل آليات الإجماع (مثل إثبات العمل – Proof of Work).
البيتكوين قدّم وعدًا ثوريًّا: نظام نقدي لا مركزي، لا يخضع لسلطة البنوك المركزية أو الحكومات، وتستطيع أي جهة المشاركة فيه دون الحاجة إلى إذن. لكن، على الرغم من أن كل المعاملات مسجلة في البلوكتشين، فإن هوية الأطراف المشاركة تُخفى خلف عناوين مشفرة، ما منح المستخدمين مستوى من الخصوصية المالية غير المسبوق.
مع مرور الوقت، ظهرت فئة جديدة من العملات تُعرف باسم عملات الخصوصية (Privacy Coins)، مثل Monero وZcash، والتي أخذت مبدأ الخصوصية إلى مستويات أعلى. تستخدم Monero تقنيات مثل التوقيعات الحلقية (Ring Signatures) وعناوين التخفي (Stealth Addresses) لإخفاء هوية المرسل والمستلم، بينما تعتمد Zcash على تقنيات التشفير الصفري المعرفة (Zero-Knowledge Proofs)، وبالأخص بروتوكول zk-SNARKs، الذي يتيح إثبات صحة معاملة دون الكشف عن أي تفاصيل عنها.
من الناحية العلمية، هذه العملات تمثل قمّة ما توصل إليه التشفير التطبيقي، فهي تمزج بين البنى الرياضية المعقدة والخوارزميات المتقدمة لضمان سرية شبه مطلقة. لكن من الناحية العملية، أثارت جدلًا واسعًا بين مؤيدين يرونها ضمانة للحرية الفردية، ومعارضين يحذرون من استخدامها في التهرب الضريبي، وتمويل الأنشطة غير القانونية، وإخفاء الثروات بعيدًا عن أعين الرقابة.
من حلم التحرر إلى أداة تراكم
عندما ظهرت البيتكوين في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، كان السياق العام مهيأً لتلقيها باعتبارها أداة مقاومة للنظام المالي التقليدي. فقد فقدت شرائح واسعة من الناس ثقتها بالبنوك والمؤسسات المالية، ورأى كثيرون في العملات المشفرة وسيلة لاستعادة السيطرة على أموالهم، وتجاوز الوسطاء الماليين، وكسر احتكار البنوك المركزية لإصدار النقود. الخطاب الذي رافق هذه الموجة الأولى كان خطابًا تحرريًا بامتياز: حرية مالية، استقلال عن السلطة، وخصوصية غير قابلة للاختراق.
لكن مع مرور أقل من عقد، بدأ المشهد يتغير جذريًا. البيانات الإحصائية أظهرت أن ملكية البيتكوين شديدة التركز؛ فوفقًا لتقارير تحليلية، نحو 2% من العناوين الإلكترونية تسيطر على أكثر من 90% من إجمالي العملة المتداولة. هذا النمط يكرر –وربما يفاقم– اختلالات توزيع الثروة التي نراها في النظام المالي التقليدي، حيث القلة المهيمنة تمتلك النصيب الأكبر من رأس المال.
إضافة إلى ذلك، فإن دخول المؤسسات المالية الكبرى، مثل صناديق التحوط (Hedge Funds) والبنوك الاستثمارية، غيّر طبيعة السوق. فقد بدأت هذه المؤسسات تستخدم العملات المشفرة ليس كأداة دفع بديلة أو كآلية تمكين للأفراد، بل كأصل مالي للمضاربة والتخزين طويل الأمد، أو كوسيلة لتنويع المحافظ الاستثمارية وحماية الأصول من التضخم. شركات كبرى مثل Tesla وMicroStrategy أعلنت عن شراء مليارات الدولارات من البيتكوين، في خطوة تعكس تملّك رأس المال المؤسسي لأداة وُلدت في الأصل ضد هذا النوع من الهيمنة.
جانب آخر من التحول تمثّل في الملاذات الضريبية الرقمية. بفضل الطبيعة اللامركزية والقدرات التشفيرية العالية، يمكن للأثرياء نقل أصولهم عبر الحدود دون إشراف مصرفي تقليدي أو قيود تنظيمية، ما يفتح الباب أمام التهرب الضريبي على نطاق واسع. وإذا كانت الملاذات الضريبية التقليدية تتطلب إنشاء شركات واجهة (Shell Companies) أو حسابات مصرفية في جزر نائية، فإن العملات المشفرة جعلت هذه العملية أكثر سهولة وأقل تكلفة، بل وأشد صعوبة في التتبع.
وفي حين يتم تسويق العملات المشفرة على أنها تمنح «الحرية المالية» للجميع، فإن واقع الأمر أن الحواجز التقنية والمالية تظل قائمة: امتلاك محافظ آمنة يتطلب معرفة تقنية متقدمة، والمشاركة في عمليات التعدين أو الاستثمار المبكر يتطلب رأسمال أولي مرتفع، وهو ما يحصر الاستفادة الفعلية في شريحة صغيرة نسبيًا من المستخدمين.
من منظور الاقتصاد السياسي، يمكن القول إن ما حدث مع العملات المشفرة يعبّر عن قانون ميل الابتكارات التكنولوجية إلى إعادة إنتاج علاقات القوة القائمة. أي أن التقنية التي تُقدَّم في البداية كأداة ديمقراطية قد تتحول سريعًا، في غياب أطر تنظيمية عادلة، إلى وسيلة بيد رأس المال لتكثيف سيطرته وتعزيز تراكمه. وهذا النمط ليس جديدًا؛ فقد رأيناه سابقًا مع الإنترنت نفسه، الذي بدأ كمشروع مفتوح وشبكة لا مركزية، ثم شهد لاحقًا هيمنة الشركات العملاقة على بنيته ومحتواه.
إن هذا التحول من الحلم التحرري إلى الأداة الرأسمالية لا يلغي الجوانب الإيجابية للتقنيات المشفرة، لكنه يفرض علينا قراءة نقدية تضعها في سياقها التاريخي والطبقي، بعيدًا عن الخطاب المثالي أو الدعاية التجارية.
رغم أن الخصوصية الرقمية تُقدَّم في الخطاب التقني والإعلامي على أنها حق إنساني شامل، إلا أن الواقع العملي يكشف عن مفارقة صارخة: الخصوصية ليست متاحة للجميع على قدم المساواة، بل هي في كثير من الأحيان امتياز طبقي.
على المستوى الاجتماعي، تخضع الفئات الفقيرة والمتوسطة لقدر غير مسبوق من الرقابة، سواء في تعاملاتها المالية أو في حياتها اليومية. في برامج الدعم الاجتماعي، على سبيل المثال، يُطلب من المستفيدين تقديم بيانات شخصية ومالية مفصلة، وأحيانًا بيانات بيومترية (مثل بصمات الأصابع أو بصمة الوجه)، لضمان «الشفافية» ومنع إساءة الاستخدام. كذلك، يفرض النظام المصرفي التقليدي إجراءات تحقق دقيقة على الحسابات الصغيرة نسبيًا، بينما تمر التحويلات الضخمة عبر قنوات قانونية أو شبه قانونية توفر حماية أكبر لأصحابها.
في المقابل، يمتلك الأثرياء والشركات الكبرى القدرة على «شراء الخصوصية». يمكنهم استئجار فرق قانونية متخصصة لتأسيس شركات واجهة، أو تسجيل الأصول في ملاذات ضريبية، أو استخدام أدوات تقنية متقدمة مثل محافظ العملات المشفرة المجهزة بتشفير متعدد الطبقات، أو حتى الاعتماد على عملات خصوصية (Privacy Coins) شبه مستحيلة التتبع. هذه الوسائل تمنحهم حرية شبه مطلقة في تحريك الأموال عبر الحدود، بعيدًا عن أنظمة المراقبة المالية التقليدية.
هذا التباين يخلق بيئة غير متكافئة: من لا يملكون شيئًا يخضعون لأقصى درجات الشفافية، ومن يملكون كل شيء يطالبون بالسرية المطلقة. وبذلك تتحول الخصوصية من حق جماعي يهدف لحماية الأفراد من تغوّل السلطة، إلى سلعة تباع وتشترى في السوق، يتحدد الوصول إليها بقدرة الفرد على الدفع أو امتلاك المعرفة التقنية اللازمة.
من منظور الاقتصاد السياسي، هذه الظاهرة ليست عرضية، بل هي انعكاس مباشر للبنية الطبقية للنظام الرأسمالي. فالتكنولوجيا، بما فيها تقنيات الخصوصية، لا تُطوَّر وتنتشر في فراغ، وإنما تتشكل وفق مصالح القوى المهيمنة. لذلك، نجد أن تصميم البنية التحتية للإنترنت، أو معايير التشفير، أو حتى التشريعات المتعلقة بالعملات الرقمية، غالبًا ما يراعي متطلبات رأس المال العالمي أكثر مما يراعي احتياجات الأفراد العاديين.
إن السؤال «هل الخصوصية للجميع؟» لا يمكن الإجابة عليه تقنيًا فقط، بل يجب النظر إليه من زاوية سياسية واجتماعية. وإذا أردنا أن تكون الخصوصية حقًا عامًا بحق، فلا بد من إعادة صياغة أطرها القانونية والتقنية لتضمن حماية الفئات الأكثر هشاشة، لا أن تقتصر على من يملكون الوسائل لانتزاعها لأنفسهم .
بيشوي قليني كاتب ومهندس بيانات
