No Image
عمان العلمي

التشفير في عصر ما بعد الكوانتم

17 أبريل 2024
17 أبريل 2024

شهدت الحوسبة الكوانتمية -منذ سنوات قليلة- تطويرات تشدّ الأذهان العلمية ومؤسساتها؛ إذ توفر هذه التطويرات الصاعدة إمكانيات هائلة لحل المشكلات المعقدة بطرق لم تكن ممكنة بواسطة استعمال الأنظمة الحاسوبية الكلاسيكية، ومع ذلك، يأتي هذا التقدم مع تحديات كبيرة خاصة في مجال أمن البيانات الذي يُعد وقود الأنظمة الرقمية المتطورة وسرّ تقدمها، وهنا يتدخل التشفير الذي يُعدّ العمود الفقري لأمن البيانات في العالم الرقمي، ومع هذا التقدم؛ فإن التشفير ذا الأنظمة التقليدية يواجه تهديدات جديدة بسبب القدرات الحاسوبية الكوانتمية. يحاول هذا المقال أن يستكشف معنى التشفير الكوانتمي والتقنيات المصاحبة وآلية عملها، والحلول التي يمكن أن تقدمها لهذه التحديات، والزوايا الأخلاقية للممارسة التقنية في هذا الحقل الكوانتمي المعني بالتشفير وأمن البيانات، ويبحث في آفاقه المستقبلية واستشفافته التي تلمح إلى عصر رقمي ما بعد الكوانتم، وقبلها لابد من أن نفهم واقعنا الماضي والحاضر الذي يتعلق بعصر ما قبل الكوانتم؛ إذ لا يمكن الادعاء أننا نعيش عصرنا التقني الذهبي؛ فنحن ما نزال على عتبات البوابة الرقمية المتقدمة، ولم ندخلْ بكل قوتنا إلى الفضاء الرقمي المعقد الذي يحمل في طياته الكثير من المفاجآت غير المفهومة وغير المحتملة.

التشفير في عصر ما قبل الكوانتم

يعتمد التشفير التقليدي على بروتوكولات -تقليدية- مثل نظام التشفير ذي مفتاح عمومي «(RSA) Rivest-Shamir-Adleman»، وخوارزمية تشفير المنحنى الإهليلجي «Elliptical Curve Cryptography (ECC)»، وهذا البروتوكول الأخير معنيٌّ بشكل كبير بحل مشكلات رياضية معقدة مثل تحليل الأعداد الصحيحة الكبيرة إلى عواملها الأولية بالنسبة للحواسيب الكلاسيكية، ومع ذلك توفر هذه البروتوكولات الأمن الرقمي -بشكل نسبي- نظرا إلى الوقت الطويل الذي تتطلبه الحواسيب التقليدية لكسر التشفير، إلا أنه مع تطور الحوسبة الكوانتمية أصبحت هذه البروتوكولات التقليدية غير كافية، وتتطلب المزيد من التصعيد التقني الخارج من دائرة المألوف، وهنا الإشارة إلى مرحلة ما بعد الكوانتم.

الأسس النظرية للتشفير الكوانتمي

لفهم كيف يمكن للتشفير الكوانتمي توفير مستوى أمان غير مسبوق، من المهم استكشاف الأسس النظرية التي يقوم عليها. تقدم الفيزياء الكوانتمية مفاهيم مثل الحالات المتشابكة وعدم اليقين، التي تُستعمل بشكل رئيس في التشفير الكوانتمي؛ فعلى سبيل المثال، في التوزيع الكوانتمي للمفاتيح «Quantum Key Distribution (QKD)» يُستعمل تشابك الجسيمات؛ بحيث تؤدي أيّ محاولة لاعتراض المفتاح إلى تغيير في النظام الذي يمكن اكتشافه بواسطة المستخدمين المخولين بالولوج إلى النظام، وكذلك استعمال التشفير الكوانتمي لمبادئ ميكانيكا الكوانتم مثل التشابك الكوانتمي وعدم اليقين؛ كون التشفير الكوانتمي -بشكل عام- يسهم في تأمين البيانات وحمايتها؛ إذ يمكن لجزيئين متشابكين -وفقا لمبدأ ميكانيكا الكوانتم- أن يظلا مرتبطين بغض النظر عن المسافة بينهما -وسبق شرح هذه الظاهرة في مقالات سابقة نشرتها في جريدة عُمان-، وهو ما يمكن استعماله لإرسال المفاتيح الأمنية بطريقة تجعل أيّ تدخل خارجي مرئيًّا على الفور. تحقق هذه الخصائص الكوانتمية أمنا لا يمكن تحقيقه بواسطة الوسائل الكلاسيكية (التقليدية).

اعتماد التشفير الكوانتمي حلا

يمكن اعتماد التشفير الكوانتمي ليكون حلا لمواجهة تحديات استعمال التشفير التقليدي لغرض تأمين البيانات، ويعتمد هذا النوع من التشفير المتقدّم على خصائص ميكانيكا الكوانتم نفسها، وكما ذكرنا آنفا فإن إحدى الأمثلة البارزة هو التوزيع الكوانتمي للمفاتيح الذي يستعمل خصائص مثل عدم اليقين الكوانتمي وتشابك الجسيمات؛ لتمكين تبادل المفاتيح الآمن بين الأطراف دون خطر الاعتراض والاختراق السيبراني. رغم التحديات، يستمر المجتمع العلمي والصناعي في التقدم لجعل التشفير الكوانتمي واقعًا عمليًا. مع تطور التكنولوجيا، من المتوقع أن تصبح الأنظمة الكوانتمية أكثر استقرارًا، وأن تزداد قدرتها على التواصل عبر مسافات أطول، وسيفتح هذا الباب لتطبيقات جديدة، وسيعزز أمن البيانات في عصر ما بعد الكوانتم. بينما يتجه العالم نحو تبني الحوسبة الكوانتمية، يبرز التشفير الكوانتمي حلا واعدا منسجما مع تعقيدات العصر الرقمي لمواجهة التحديات الأمنية المتطورة؛ فتقدم تقنيات مثل التوزيع الكوانتمي للمفاتيح آلية يمكن بواسطتها تحقيق تبادل المفاتيح بطريقة تجعل أيّ محاولة للاختراق مرئية للمستخدمين، وتستند هذه التقنية إلى مبادئ ميكانيكا الكوانتم -المذكورة سابقا- التي يمكن أن تضمن أن أيّ قياس لنظام كوانتمي سيغير حالته؛ مما يوفر وسيلة لاكتشاف الاختراقات.

الانتقال من النظرية إلى التطبيق

التحدي الرئيس الذي يواجه التشفير الكوانتمي ليس في فهم كيفية عمله من الناحية النظرية وحسب، ولكن أيضا في آلية تحويله إلى تطبيقات عملية، فتتطلب تطويرات البنية الأساسية الكوانتمية بما في ذلك الحوسبة الكوانتمية والأقمار الصناعية الكوانتمية جهودا كبيرة في البحث والابتكار بجانب التكلفة المالية العالية التي لا تتاح للجميع. وعلى الرغم من هذه التحديات، أُحرِزَ تقدم كبير في هذا الحقل مع بعض المشروعات المتعلقة بالتشفير الكوانتمي مثل تجارب التوزيع الكوانتمي للمفاتيح عبر المسافات الطويلة، وإطلاق الأقمار الصناعية الكوانتمية التي تهدف إلى توسيع نطاق هذه التقنية.

تطبيقات التشفير الكوانتمي

تتجاوز تطبيقات التشفير الكوانتمي الاستعمالات المتعلقة بحماية الاتصالات الإلكترونية وأمن البيانات، حيث يمكن استعماله في حماية البنية التحتية الرقمية، وتأمين الشبكات المالية، وحماية المعلومات الحساسة للغاية في البحوث والتطويرات العسكرية، ويمكن كذلك للتشفير الكوانتمي أن يؤدي دورا حاسما في تأمين البيانات الضخمة والحوسبة السحابية، حيث يمكن تخزين كميات هائلة من البيانات ومعالجتها عبر الأنظمة الكوانتمية المذكورة. وفي السنوات الأخيرة، بدأت تطبيقات التشفير الكوانتمي تنتقل من الفضاء النظري إلى الفضاء العملي، فمثلا ثمّة تجارب تُجرى في الصين على شبكات الاتصال الكوانتمية التي تظهر قدرة التوزيع الكوانتمي للمفاتيح على تأمين الاتصالات عبر مسافات طويلة. وطُورت كذلك تطبيقات في القطاعات المصرفية والدفاعية، حيث يتمثل الهدف في حماية المعلومات الحساسة من التهديدات المستقبلية المنبثقة من تطويرات الحوسبة الكوانتمية التي يمكن أن تكون سلاحا ذا حدين، فبجانب ما يمكن أن تثمره من فوائد فهناك أيضا المخاطر من التقنية ذاتها. ومع تسارع وتيرة التقدم في الحوسبة الكوانتمية، تتزايد القدرة على معالجة المعلومات والبيانات بطرق لم تكن ممكنة عبر الحواسيب الكلاسيكية، فيقدم هذا التطور فرصا هائلة في مجالات متنوعة مثل تطوير الأدوية، والتنبؤات المناخية، وحل المشكلات الرياضية المعقدة. وتَصحُب -مع ذلك- هذه القدرات تحديات جديدة في مجال أمن البيانات، إذ تستطيع الحواسيب الكوانتمية كسر الأنظمة الحالية للتشفير بكفاءة أعلى بكثير خصوصا مع التحامها بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، لتكون بمثابة الخصم والحكم -وفق الأبجدية الأدبية.

التحديات التقنية والعملية

رغم التطويرات الرقمية الواعدة، فإن التشفير الكوانتمي ما يزال يواجه تحديات كبيرة تتعلق بعضها بالاستجابة للمحافظة على الحالات الكوانتمية المستقرة لفترات طويلة، وإنشاء شبكات كوانتمية واسعة النطاق تربط الأجهزة عبر مسافات طويلة، ومن زاوية أخرى فإن البنية التحتية المطلوبة لدعم الاتصالات الكوانتمية معقدة وتتطلب استثمارات كبيرة في البحث والتطوير. ويتطلب كذلك الانتقال من التجارب المختبرية إلى تطبيقات التشفير الكوانتمي للتغلب على تحديات تقنية وتشغيلية كبيرة مثل تطوير تقنيات موثوقة لتوليد الحالات الكوانتمية وتوزيعها واكتشافها، وكذلك بناء بنية تحتية قادرة على دعم الاتصالات الكوانتمية. وتستعمل الحواسيب الكوانتمية خصائص ميكانيكا الكوانتم مثل التداخل والتشابك الكوانتمي لأداء العمليات الحسابية، وخوارزميات مثل خوارزمية شور «Shor’s Algorithm» التي يمكنها من ناحية نظرية حل مشكلة تفكيك الأعداد الأولية بكفاءة أكبر بكثير من الحواسيب التقليدية، مما يهدد أسس التشفير التقليدي. ورغم صعود التقدم التقني للتشفير الكوانتمي ما تزال ثمّة تحديات كبيرة تواجه تطوير هذه التقنيات وتنفيذها وتفعيلها على أرض الواقع، فهناك التحديات التقنية مثل الحاجة إلى الحفاظ على حالات الكوانتم المستقرة على المدى الطويل، وإنشاء شبكات كوانتمية قابلة للتوسع. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات في التكاليف والاعتبارات التنظيمية والأخلاقية التي تحتاج إلى معالجة.

أخلاقيات التشفير الكوانتمي وتنظيمه

مع تطور التشفير الكوانتمي، تظهر أيضا قضايا أخلاقية وتنظيمية راجعة إلى كيفية استعمال هذه التقنية، ومن يمتلك أحقية الوصول إليها واستعمالها، وكيف يمكن تنظيمها لضمان استعمالها السليم الموافق لأخلاقيات المجتمع الإنساني بمجمله. هذه أسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة قبل أيّ تفعيل حقيقي للأنظمة الرقمية المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الكوانتمية بمجملها، إذ تبرز الحاجة إلى تأطير قانوني وأخلاقي للتشفير الكمي باعتبارها أولوية لضمان استفادة الجميع من هذه التقنية دون إساءة استعمالها، وهذا ما يمكن تضمينها في إطار حوكمة التقنيات الكوانتمية أسوة بحوكمة الذكاء الاصطناعي التي ينادي العلماء والمختصون بتفعيلها قبل تجاوز المستويات الحالية لمثل هذه التقنيات.

دور التشفير الكوانتمي في مستقبل الأمن الرقمي

ببلوغنا عصر التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، وما تصحبه هذه التقنيات من تعقيدات رقمية تهدد أمن البيانات وخصوصيتها، وبجانب تضاعف اعتماد العالم على البيانات والاتصالات الرقمية لمسايرة التقدم الصناعي والاقتصادي، يصبح دور التشفير الكوانتمي في تأمين هذه البيانات أكثر أهمية من ذي قبل، وكلما تقدمنا إلى المستقبل، فإن ضرورة انتشار هذا النوع من التشفير يُعدّ ضرورة لا مناص منها، لتأمين القدرة على حفظ البيانات وحمايتها بطرق تتجاوز القدرات الحاسوبية التقليدية، ومع تقدم الحوسبة الكوانتمية، يمكن للتشفير الكوانتمي أن يوفر الحماية للبنية التحتية في جميع قطاعات الحياة التي غدت تعتمد بشكل رئيس على البيانات الرقمية المتقدمة وأدواتها، فالاتصالات الحكومية، والمعلومات الشخصية، والأصول الرقمية بحاجة إلى مستويات عالية من أنظمة التشفير الحامية لبياناتها الرقمية.

الآفاق المستقبلية

مع استمرار التطور في مجال الحوسبة الكوانتمية والتشفير الكوانتمي، يمكننا توقع زيادة في القدرات الأمنية لحماية البيانات، إذ تتطلب التحديات القائمة حلولا مبتكرة واستثمارا مستمرا في البحث والتطوير، ورغم ذلك، فإن القدرات الواعدة لهذه التقنية لا تخلو من تحديات مثل التي سقناها في الفقرات السابقة، وتحتاج إلى مزيد من الوعي والبحث العلمي الذي يمكن أن يخلص إلى حلول ناجعة عبر توفير مستوى من الأمن لأنظمة التشفير المتقدمة. ويُقدّم التشفير الكوانتمي فرصا جديدة واعدة لتأمين البيانات في عصر الحوسبة الكوانتمية عبر الجمع بين الأبحاث المتقدمة والابتكارات التقنية، ويمكن للمجتمع العلمي والصناعي تجاوز التحديات الحالية وفتح آفاق جديدة في أمن البيانات، فالاستثمار في التشفير الكوانتمي ليس استثمارا في أمن البيانات وحسب بل يعتبر أيضا استثمارا في المستقبل الأمني للعالم الرقمي المتسارع في تطويراته. بينما نواصل استكشاف هذا المجال الواعد، من الضروري أن نبقى واعين للأخلاقيات والتنظيم؛ لضمان استعمال هذه التقنية بطريقة تعود بالنفع على الجميع، وفي حين أننا نتجه نحو عصر ما بعد الكوانتم، يصبح من الأهمية بمكان أن نواصل استكشاف حلول تشفير مبتكرة وتطويرها لحماية الاتصالات والبيانات ضد التهديدات المتطورة الناتجة من هذا التقدم الرقمي الذي يتجاوز قدراتنا في الاحتمال وتقدير مستوياته في التطوير.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني